هل سيترافع عنك الذكاء الاصطناعي بدلًا من المحامين؟
أصبحت عبارة «وداعًا للمحامين» ترافق كل منشور يبُشر بإحدى تقنيات الذكاء الاصطناعي التي يُزعم أنها ستستبدل المحامين، فهل فعلًا يمكن أن يحصل ذلك؟

قبل فترة، مرّت عليّ الشركة الناشئة الأمريكية (HarveyAI). لفتني ابتداءً تسميتها تيمنًا بالمحامي «Harvey Specter» بطل مسلسل «Suits»، إلا أن ما أثار اهتمامي هو المنتج الذي تقدّمه، وهو إجابة الأسئلة القانونية المعقدة، لا سيّما البحثية منها، وكذلك صياغة المستندات القانونية ومراجعتها. ويستخدم منتجها اليوم عشرات آلاف المحامين، حيث تعاقدت معها كبرى الشركات القانونية الأمريكية.
تبرز هذه الحالة التساؤل الذي سيجيب عنه هذا العدد: هل سيستبدل الذكاء الاصطناعي المحامين، وبذلك تقل كلفة التقاضي للعملاء بصورة بالغة، ويفقد المحامون وظائفهم؟
قراءة ماتعة!
عمر العمران


بوصفي قانونيًّا، كنت وما زلت أتابع منتجات الذكاء الاصطناعي وتطوراته، وأعكسها على واقع هذه المهنة ومستقبلها، لا سيّما مع شيوع التنبؤات بالتغيّر الهائل فيها بفعل الذكاء الاصطناعي، ما قد يغيّر جذريًّا من ارتباط المحامين والمستفيدين بمهنة المحاماة. ويظهر ذلك تحديدًا في عبارة «وداعًا للمحامين» التي أصبحت ترافق كل منشور يبُشر بإحدى تقنيات الذكاء الاصطناعي التي يُزعم أنها ستستبدل المحامين، فهل يمكن أن يحصل ذلك فعلًا؟
تقتضي الإجابة عن السؤال أولًا وصف طبيعة عمل المحامي. فالمحامي لا يقتصر عمله على كتابة المذكرات ومراجعة المستندات، بل يقوم بأدوار متعددة، فيستمع إلى الوقائع من العميل، ويميز بين الوقائع ذات القيمة القانونية والوقائع التي لا أثر لها، ويقرر المسار الإجرائي الملائم بين تفاوض وتسوية ورفع دعوى، ويحضر الجلسات ويمثل العميل أمام المحكمة والنيابة والجهات الإدارية والخبراء، ويتواصل مع الخصوم ووكلائهم، ويعرض مقترحات ويستقبل تنازلات ويقيّم أثرها، ويتخذ قرارات تتعلق بتوقيت تقديم مستند أو طلب سماع شاهد أو تأجيل خطوة، ويتحمل المسؤولية المهنية عن قراراته وتوقيعه وما يترتب على ذلك من مساءلة تأديبية أو مدنية عند الخطأ.
وهي وظائف لا توفرها أداة توليد نصوص. لذلك، يصعب القول عمليًّا إن أي أداة تغني عن المحامي عندما تكون المهام المطلوبة هي التمثيل والحضور واتخاذ قرار قابل للمحاسبة.
ولكن حتى عند الحديث عن أدوار المحامي المتمثلة في الكتابة، التي تستطيع تقنيات توليد النصوص أن تكتب على طريقتها، فإنه عند تحليل قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج محتوى قانوني تظهر مسألتان متلازمتان: الهلوسة والعموميات. الهلوسة تعني أن النموذج قد يخترع مادة قانونية أو رقم حكم أو نص لائحة لا وجود له، أو يخلط بين أنظمة متقاربة في الاسم مختلفة في المضمون. هذا يحدث لأن النموذج يتنبأ بالكلمات الأرجح ظهورًا بالنظر إلى ما تعلمه.

أما العموميات فتظهر عندما يُطلب منه معالجة مسألة محددة، فيُنتج عبارات عامة صحيحة نظريًّا لكنها غير مسقطة على الوقائع. مثال ذلك أن تطلب منه مسودة مذكرة في حالةٍ ادُّعي فيها الدفاع الشرعي؛ سيعطي تعريفات وشروطًا عامة لحق الدفاع الشرعي، وقد يعددها بطريقة منظمة، لكن السؤال القضائي الذي يحسم النزاع ليس تعريف الحق، بل ما إذا كانت الوقائع المحددة في الدعوى تنطبق عليها شروط الدفاع الشرعي.
هذا الإسقاط القانوني للنصوص على الوقائع هو جوهر عمل المحامي، وبدون هذه العملية التي تمزج بين النص القانوني والواقعة بدقة، لا فائدة من حشد النصوص القانونية وإيرادها فقط. فهي في الغالب لا تخفى على القضاة ولا على محامي الخصم. ورغم هذه الأخطاء، لا يمكنك محاسبة الذكاء الاصطناعي، فهو ليس محلًّا للمساءلة، بعكس أخطاء المحامي الذي يمكن للمتضرر أن يطلب محاسبته.
ومن المشاكل المنهجية في التفكير عمومًا، وتسري على تقييم جدوى استخدام التقنية، هي أن النتيجة الصحيحة لا تعني صحة الوسيلة. إذ يحكم كثير من الناس على التقنية بنتيجةِ تجربةٍ صحيحة؛ فإذا استخدم أداةً في مسألةٍ وربح القضية عَدّ التقنية سببًا كافيًا، وإذا استخدمها وخسر استنتج عدم جدواها. في العمل القانوني قد تُربح قضية لعوامل لا علاقة لها بالصياغة المنتَجة من الأداة، وقد تُخسر القضية رغم صياغة مذكرة ممتازة من خبير. لذلك، لا يصح بناء الحكم على التجربة بنتيجتها فقط دون فحص الطريق، وربما هذه من أهم مناقب الشخص المتخصص الفاهم؛ قدرته على الفصل بين الفعل ونتيجته.
ومما قد لا يُلتفت إليه هي قضية السرية. فالعلاقة بين المحامي وموكله علاقة محمية بضوابط قانونية وأخلاقية، تجعل ما يبوح به الموكل ضمن المعلومات السرية التي لا يجوز إفشاؤها، بعكس التفاعل مع أداة تقنية لا تتمتع بهذه الحماية بالضرورة. ولهذا فإن إدخال تفاصيل حساسة في نظام عام قد يعرّض صاحبها لمخاطر لاحقة، سواء عبر تغير سياسات المنصة، أو عبر استخدام البيانات لتحسين النماذج، أو عبر وصول طرف ثالث إليها بطرق قانونية أو تقنية. وقد لا تظهر آثار هذه المشكلة في المدى القريب لدى المستخدم، لكن تراكم البيانات وطرق الربط بين عناصرها قد يكشف هوية المستخدم ومعلوماته الخاصة.
وهناك أيضًا بُعد إنساني بسيط، لكنه مؤثر، وهو الانطباع. فالنّص الذي يبدو «منسوخًا من روبوت» يترك أثرًا سيئًا عند قارئه، سواء كان قاضيًا أو موظفًا. ليس لأن القاضي سيعاقبك نكاية، بل لأن البشر يتأثرون بالإشارات. فالأسلوب المعلّب، والأمثلة الغريبة عن البيئة المحلية، والصياغة التي لا تشبه لغة المهنة في بلدك، كلها تدل على عدم الجدية، وقد تؤثر في موقف الشخص في القضية.

وبالرغم من هذه التحذيرات حول الاستغناء عن المحامي والاعتماد على مثل هذه التقنيات، يجب التوضيح أن قدرات النماذج الحالية في الصياغة والتلخيص والتنقيح أصبحت متقدمة، وأن مقولات مثل «إننا نحتاج إلى سنوات طويلة ليستطيع الذكاء الاصطناعي كتابة مذكرة قانونية سليمة» ليست دقيقة. فالأداة قادرة اليوم على إنتاج مذكرات قانونية مقبولة لكثير من القضايا من حيث البناء اللغوي والاحتجاج القانوني. لكن المشكلة الرئيسة ليست في قدرة الذكاء الاصطناعي، بل في جودة بيانات التدريب للسياق القانوني المحلي وملائمتها. إذ يعتمد تدريب الذكاء الاصطناعي على كميات كبيرة من النصوص المتاحة، وكلما زادت وفرة الأحكام المنشورة والمذكرات، ارتفعت دقة المخرجات.
وفي ظل هذا الحديث، لا يسعنا إلا أن نطرح سؤالًا مهمًّا عما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيأخذ وظائف القانونيين. وهذه المسألة لا تختلف عن مثيلاتها الواردة في التاريخ وسنة الحياة. فمنذ الثورة الصناعية إلى اليوم، تظهر التقنيات وتتطور نماذج العمل وتستمر الحياة، وإن اختلف مدى تطور تقنية الذكاء الاصطناعي وسرعتها عن سابقها من تقنيات، إلا أن المسألة تُعدّ من نواميس الكون.
اقتصاديًّا، يمكن تبسيط النظر إلى المسألة بافتراض أن القانوني يقضي وقته بين نوعين من العمل: عمل رتيب متكرر يمكن نمذجته، وعمل تقديري عالي الأثر لا يمكن نمذجته بالكامل. إذا غطّى الذكاء الاصطناعي جزءًا معتبرًا من النوع الأول، فإن توجه القانونيين للتركيز على النوع الثاني من العمل يجعل (العرض) يتزايد. ومع زيادة المعروض تميل الأسعار إلى النزول. وانخفاض السعر يرفع الطلب من شرائح كانت خارج السوق بسبب التكلفة، فيدخل عملاء جدد بقضايا أصغر أو أعمال كانت تُترك دون تمثيل. بهذه الحركة يتوازن الاقتصاد تلقائيًّا.
ولكن الثمرة المهمة في مثل هذه التساؤلات هي أن يفكر الإنسان بصدق ما هي قيمته الحقيقية التي يقدمها؟ لماذا يضيع الشخص وقته في التفكير «ماذا لو أمكن استبداله» بدلًا من أن يصنع قيمته التي تصعّب عملية الاستغناء عنه؟ وربما هذه هي الرسالة الأهم؛ فسؤال «إلى أي مدى يمكن أن تتطور تقنيات الذكاء الاصطناعي وعلى ماذا يمكن أن تستحوذ» هو سؤال لا تمتلك إجابته ولا تستطيع أن تؤثر فيها، بينما تمتلك إجابة سؤال «ما هي قيمتك المميزة التي تقدمها وتؤثر في تطورك ونموك». وهي ما ستجعلك صامدًا في مختلف الظروف والحالات.
ومن نافلة القول أنني عندما درست مادة الذكاء الاصطناعي والقانون ظهر سؤال متكرر من بعض الزملاء مفاده: لماذا ننشغل بتعلم هذا المجال بدلًا من محاولة إغلاق الباب أمامه؟ فكنا ندرس عن محاكم استعملت أدوات للذكاء الاصطناعي لمساعدتها على الحكم، وكانت هناك العديد من التساؤلات عن مدى الضمانات التي يمكن تقديمها في تلك الواقعة، وفعلًا كان الجواب الأيسر هو منع هذه التقنيات وبذلك تنتهي المشكلة. ولكن جواب الأستاذ كان أن هذا التحول سيحدث مهما طال الزمن، وقد يحدث على نحو أسرع مما نتوقع.
ومعنى ذلك أن خيار التعامل معه ليس بين قبول أو رفض بقدر ما هو بين استعداد مبكر يخفف الكلفة ويمنح أفضلية زمنية في التعلم والتجريب وبناء السياسات، أو انتظار متأخر يضاعف كلفة اللحاق ويضع صاحبه أمام منحنى تعلّمٍ حاد، في وقت تكون فيه التوقعات عالية والوقت ضيقًا.
ولذا، فإن تحويل اتجاه البوصلة من مخاوف الذكاء الاصطناعي إلى منافعه هي الخطوة المنشودة. فالذكاء الاصطناعي قادر على رفع الجودة والسرعة داخل المنظومة القضائية ومهنة المحاماة وخدمة الجمهور، من حيث تقليل العمل، ورفع قدرة التنبؤ بناءً على الأنماط المتكررة، وتسهيل الوصول إلى المعلومة والحق، وتقليل التكاليف. وعامل السرعة في عملية التقاضي أمر لا يقل أهمية عن تحقيق العدالة. فالقضاء لا يكفي أن يكون عادلاً؛ بل ينبغي أن يكون سريعًا أيضًا، لأن جودة العدالة تتأثر زمنيًّا بمدة الانتظار بين الإجراء ونتيجته.
وفضلًا عن التحول الهائل للقاضي الرقمي في المملكة العربية السعودية، فإن من بوادر التفات المنظومة العدلية لدينا تجاه الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، هو ما نصت عليه المادة 24 من اللائحة التنفيذية لنظام المحاكم التجارية: «يجوز الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في الإجراءات الإلكترونية، ويُستغنى عن أي إجراء تحققت غايته باستخدام تلك التقنية.»
وحقيقةً، أهتم شخصيًّا باستغلال حديثنا عن الذكاء الاصطناعي لتسليط الضوء على أحد أكبر ممكنات تطوير المنظومة القانونية وهو نشر الأحكام القضائية بصورة أكبر. إذ سيكون ذلك وقود الذكاء الاصطناعي الذي من خلاله يمكن الارتقاء بالخدمات القانونية كفاءةً وسرعة. فتقنيات الذكاء الاصطناعي تعتمد على البيانات، وكلما كثرت كمية البيانات التي يمكن إخضاعها لتدريب الآلة، ارتفعت الجودة.
وأما مخاوف السرية والأمن الوطني الذي قد يُخشى عليه من خلال نشر الأحكام القضائية، فيمكن معالجة ذلك باستثناء بعض القضايا ذات الحساسية الأمنية العالية، ويمكن أيضًا إخفاء هوية أطراف الدعوى. وبذلك يمكن الجمع بين فائدة الإتاحة المنظمة وبين حماية الحالات الأخرى.

وختامًا، أشير إلى حديث لافت في باريس لجي دي فانس، نائب الرئيس الأمريكي، عندما قال: «يحتاج العالم إلى جهات مشرّعة تمكّن نشوء تقنيات الذكاء الاصطناعي، بدلًا من تقييده. وبالتحديد، على أصدقائنا الأوربيين أن يستقبلوا هذا الابتكار بالتفاؤل لا الخوف.»
ستمضي التقنية وتتطور وسيزداد استخدامها يومًا تلو الآخر. وبما أنك لا تستطيع أن تعلم إلى أين يمكن أن تصل، ولست طرفًا في معادلة التحكم بإيقافها من غيره، واكبها وذللها لمنفعتك.

كيف تتخيّل بيت العمر؟ 💭
مسكن متكامل ومريح، موقعه قريب من كل شي، وفيه كل شي 🏡✨
موقفك الخاص، مصلى، مقهى،بقالة، صالة رياضية، وترفيهية!
هذي هي تجربة السكن في صفا 🔗
التجربة اللي تسبق الحاضر وتنبض بالحياة 🖼️🥁

فقرة حصريّة
اشترك الآن


بينما تبحث مقالة العدد أثر الذكاء الاصطناعي في سوق المحاماة بالتحديد، تحلل حلقة «هل ستنجو من الذكاء الاصطناعي»، من بودكاست جادي، الأثر العام للذكاء الاصطناعي في مختلف قطاعات الاقتصاد، ومن ذلك فرص التوظيف للبشر.
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.

مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.