«معركة تلو الأخرى»: تجربة شبه متكاملة
من أكثر التجارب التي جعلتني أخرج من القاعة وأنا أشعر أن السينما لا تزال قادرة على إدهاشنا

أعاد بول توماس أندرسون إنعاش السينما، وتذكّرك أفلامه دائمًا لماذا نحبها.
وفي قصة ملهمة عن بداياته في صناعة الأفلام، يروي أنه التحق بإحدى الأكاديميات ليتعلم كتابة السيناريو، وفي إحدى المحاضرات قال الأستاذ لطلابه: «من يحب فلم "ذ ترمنايتور" فليغادر صفي.»
يعلّق بول: «لم أكن أحب الفلم كثيرًا، لكن خطر في بالي: ماذا لو كان هناك من يحبه ويرغب في صناعة شيء مشابه له؟»
حينها أدرك بول أن هذا المكان لا يؤمن بالحرية الإبداعية، فقرر ألا يكمل دراسته فيه.
نايف نجر العصيمي

«معركة تلو الأخرى»: تجربة شبه متكاملة
فواز العدواني
«الحرية هي ألا يكون لديك خوف» - نينا سيمون
يذكر بول توماس أندرسون هذا الاقتباس، ومدى تعلقه بما أدلت به الراحلة نينا سيمون، في إحدى مقابلاته لتسويق آخر أفلامه «معركة تلو الأخرى». وهو ما يعكس بوضوح ملامح أسلوبه السينمائي. فلا يكتفي أندرسون بسرد الحكاية، بل يغامر بدخول مناطق غير مأمونة، حيث تتقاطع الحرية مع المجازفة.
في «There Will Be Blood» مثلاً، يصور شخصية «دانيال بلاينفيو» بلا خوف من كشف بشاعتها وجشعها المتوحش، حتى يصبح الفلم دراسة قاسية عن الطموح والسلطة. وفي «Magnolia» يجرؤ على بناء نسيج معقّد من شخصيات متباينة، تتقاطع مصائرها في مشاهد مكثفة وغير تقليدية، وصولًا إلى لحظة هطول الضفادع التي تكسر كل قواعد السرد المألوف. أما في «Boogie Nights»، فيعالج موضوع صناعة الأفلام الإباحية بجرأة غير مألوفة، مقدّمًا شخصيات تبحث عن الحرية وسط عالم يحدّها ويستهلكها.
هذه الأمثلة توضح كيف يتحول الاقتباس من مجرد جملة إلى فلسفة عملية في سينما أندرسون، سينما تتحرر من الخوف، سواء في اختيار الموضوعات الشائكة أو في كسر البناء الكلاسيكي للمشهد والفلم.
في البداية
تجاوزت شركة «وارنر براذرز» حاجز أربعة مليارات دولار في شباك التذاكر العالمي منذ بداية العام، لتسجل بذلك أول إنجاز لها بهذا الحجم منذ عام 2019. ويأتي هذا النجاح بالتزامن مع إطلاق فلمها الأصلي السابع لهذا العام «معركة تلو الأخرى» للمخرج بول توماس أندرسون، ما يعكس عودة قوية للاستوديو إلى صدارة الساحة السينمائية العالمية. ومن المدهش أن يستثمر استوديو سينمائي ضخم 130 مليون دولار مع بول توماس أندرسون لإنتاج ملحمة صريحة مناهضة للفاشية. يبدو الأمر ساخرًا إلى حد الجنون. لكن يمكن قراءة الدافع في أكثر من اتجاه:
فمن جهة، تراهن «وارنر براذرز» على اسم أندرسون بوصفه مخرجًا صاحب سمعة نقدية رفيعة وقاعدة جماهيرية مخلصة، ما يضمن للفلم حضورًا ثقافيًّا وإعلاميًّا واسعًا. ومن جهة أخرى، يعكس الاستثمار رغبة الاستوديو في تنويع محفظته بين الأعمال التجارية البحتة وأفلام المؤلف، ليظهر بمظهر الداعم للفن الجريء والمشاريع التي تحمل طابعًا إنسانيًّا وسياسيًّا.
وربما الأهم، أن الشركة تدرك قيمة المخاطرة في زمن تسيطر فيه الامتيازات السينمائية (franchises)، فتحاول من خلال التعاون مع أندرسون أن تثبت أنها ما زالت قادرة على تقديم سينما كبرى تخاطب الوعي الجمعي بقدر ما تسعى لتحقيق الأرباح.
عودة التعاون الإبداعي بين بول توماس أندرسون وتوماس بينشون
بعد أن قدم بول توماس أندرسون عام 2015 اقتباسًا سينمائيًّا جريئًا لرواية بينشون الشهيرة (Inherent Vice)، يعود اليوم ليغامر برواية أخرى هي (Vineland 1990). ولكن هذه المرة بجرأة أكبر، إذ يحولها إلى فلم أكشن غرائبي الطابع، مليء بطاقة «كوميكسية» هزلية، ومشحون في الوقت نفسه بغضب سياسي واضح وضوح الشمس.
يستعيد الفلم الثيمة المشتركة التي أصبحت سمة «أندرسونية - بينشونية» وهي مقاومة ثقافة الهيمنة والارتياب المزمن في السياسة الأمريكية. هنا تتحول حكاية المقاومة إلى ما يشبه الكوميديا السوداء، مدعومة بموسيقا عصبية متوترة، وضعها جوني قرينوود، تضخ في الأحداث إيقاعًا صاخبًا لا يهدأ.
يربط أندرسون بين صراع الأجيال الذي صوّره بينشون في مواجهة الستينيّات والثمانينيّات الريقانية، وبين حاضر أمريكي مُثقل بظلال ما بعد أوباما وصعود ولايات ترمب المتحدة. لكنه هنا يتجنب المباشرة، فلا يذكر شعارات مثل «ماقا» أو «حياة السود مهمة»، بل يلمح إليها عبر السياق. والنتيجة: فلم يشتبك مع السياسة المعاصرة من موقع الفن، لا من موقع الخطابة.
شخصيات على الحافة
يؤدي ليوناردو دي كابريو دور «بوب»، ثائر متداعٍ يعيش بين الهامش واللاجدوى، ينخرط مع مجموعة مسلحة تهاجم مراكز احتجاز المهاجرين على الحدود المكسيكية. وظيفته تبدو ثانوية، مثل إطلاق الألعاب النارية للتشتيت أو الاحتفال بينما يقود رفاقه المعركة. لكن دي كابريو ينجح في قلب هذه الهامشية إلى ثقل درامي، فهو يلعب على الخيط الرفيع بين العبث واليأس، مانحًا الشخصية حضورًا يتأرجح بين المهرج الحزين والناجي الوحيد. نظرته المرهقة وابتساماته المكسورة تجعلان «بوب» شخصية تتحدث عن الهامش أكثر مما يفعل أي خطاب مباشر.
أما «بيرفيديا» (تيانا تايلور)، فتقدم أداءً كهربائيًّا بكل معنى الكلمة. إذ يُترجَم حضورها الجسدي الطاغي إلى قوة قيادية تمسك بخيوط اللعبة في حين يتخبط الآخرون. ولا تؤدي تايلور دور القائدة التقليدي، بل تمنحه عمقًا عاطفيًّا، فهي الحبيبة والأم والمحاربة في آن واحد. وتأتي أكثر لحظاتها جرأة في المشهد الشهير وهي تطلق من رشاش ثقيل في شهرها التاسع من الحمل؛ لحظة تتجاوز الاستعراض البصري لتصبح بيانًا عن القوة والضعف في الوقت نفسه. ويذكّر أداؤها بممثلات أيقونات في السينما الثورية، لكنه يحتفظ بخصوصيته المعاصرة.
أما شون بِن، فيقدّم واحدًا من أكثر أدواره غرابة في السنوات الأخيرة، إذ يتقمص شخصية «الكولونيل» بلوحة كاريكاتورية مثيرة للتقزز. ويضخ في الشخصية نبرة ساخرة وتهكمية، مزجًا بين ملامح العظمة الزائفة والضعف الداخلي. ويذكّر حضوره على الشاشة بأداءاته الأكثر جنونًا في التسعينيّات، لكنه هنا يذهب أبعد، إذ يتحول إلى رمز للفاشية المتعفنة، مزيج من الرعب والتهريج، فيثير الضحك والاشمئزاز في اللحظة ذاتها. هذا الأداء المتطرف يعكس قدرة أندرسون على توظيف ممثل مخضرم لإبراز تناقضات الشر لا عبر القوة فقط، بل عبر السخرية المظلمة.
وبذلك، يجمع أندرسون بين دي كابريو الممزق داخليًّا، وتايلور المشتعلة بالحيوية، وبين الكاريكاتور المقيت لشون بن، ليخلق لوحة تمثل الأطياف المختلفة للمقاومة والسلطة، حيث تتجاور الهشاشة مع القوة، والسخرية مع الرعب، في معركة واحدة تلو الأخرى.
أبوة مرتبكة وأسئلة معلقة
قدَر «بوب» أن ينتهي أبًا وحيدًا، يربي ابنته «ويلا» (تشايس إنفينيتي) التي تبدو أذكى وأكثر حدة من والدها. تتدرب الفتاة على الفنون القتالية مع معلمها (بينيسيو دل تورو)، في حين يغرق الأب في المخدرات والكحول، ويشاهد معركة الجزائر على التلفزيون، رافضًا حتى الاعتراف بضمائر أصدقاء ابنته. ومع عودة الرفاق القدامى وتجدد المواجهة، يعجز «بوب» عن تذكر الشفرات السرية، فيتجلى انهياره. أما «ويلا»، فتتورط في سؤال وجودي محرج عن هوية والدها.
هذه الجزئية من الفلم جعلتني أشعر بأن أندرسون يكتب من قلبه. لست أبًا، لكنني رأيت في شخصية «بوب» صورة الإنسان العاجز عن موازنة الداخل والخارج. رجل يريد أن يكون حاضرًا، لكنه ينكسر تحت ثقل التاريخ الشخصي والسياسي. وأعجبني كيف تجنب الفلم كليشيهات الأبوة البطولية، وقدّم بدلًا من ذلك أبًا مرتبكًا، فاشلًا أحيانًا، ومحبًّا في لحظات خاطفة. كأن أندرسون يقول لنا إن القوة الحقيقية ليست في الصلابة، بل في الاعتراف بالضعف. أما إيجابيات هذا الخط الدرامي، فتكمن في أنه فتح نافذة إنسانية وسط ضجيج المعركة، وأعطى مساحة لابنة تبحث عن هويتها، لا عبر المرايا التقليدية بل عبر مواجهة إخفاقات والدها.
لكن على الجانب الآخر، هناك شعور بأن العلاقة مع «ويلا» لم تُستثمر بالكامل. مثلًا، كانت شخصية المعلم (دل تورو) واعدة جدًا، تحمل رمزية بديل الأب أو المربي الصارم، لكن الفلم لم يمنحها وقتًا كافيًا لتتشكل. هنا شعرت أن البناء الدرامي فقد شيئًا من العمق، كأن أندرسون تردد بين جعل القصة عن الأب وحده أو عن الابنة والعالم الذي يحاصرها.
أما تجربتي مع الفلم في «VistaVision» فكانت بمثابة صدمة جمالية. هذه التقنية القديمة أعطت للصورة حياة مختلفة، والكادر الواسع جعل مشاهد المواجهة تنبض بطاقة لا تختزل. وبدت أدق تفاصيل الوجه البشري -على سبيل المثال تجاعيد دي كابريو، والعرق المتصبب من جبين تايلور، وارتباك عيني شون بن- كأنها جزء من ملحمة بصرية لا يمكن نقلها عبر الشاشة التقليدية. أما لحظة مشهد الرشاش الثقيل مع «بيرفيديا» في شهورها الأخيرة من الحمل، فبدت كأنها نُقشت على جدار السينما، بكل ثقلها وانفجارها. في نظري، هذه التقنية لم تكن مجرد وسيلة تصوير، بل تجربة حسية تجعل الفلم يقفز خطوة إضافية إلى الأمام.
ملحمة سياسية - فوضوية
يحمل فلم «معركة تلو أخرى» تناقضات مقصودة، فهو جاد وساخر، مثير ومرتبك، يدفع المتفرج إلى الشعور بالدوار كما لو أنه أمام شاشة «فيستا فيجن» مشبعة بالهلوسة. مشاهد المطاردات بالسيارات مصنوعة بعناية مدهشة، تنتهي بخاتمة شبه حلمية تتبع ثلاث سيارات وهي تنساب عبر التلال كالموج.
ويلمّح العنوان نفسه إلى حرب ثقافية لا تنتهي، تُعرض هنا في صورة فلم أكشن مبالغ فيه، لكنه يُخفي بين طبقاته أسئلة عن الحلم الأمريكي وملكيته: من يحق له أن ينتمي؟ ومن يُقصى؟ قد تبدو هذه الأسئلة «غير رائجة» في أمريكا اليوم، لكنها تجعل الفلم أكثر إثارة للاهتمام. يقدّم أندرسون بيانًا فنيًّا عن العصيان واللاانتماء، وعن البطولة الفردية لمن يرفض ببساطة أن يكون جزءًا من القطيع السائد في «أمريكا ترمب» الحالية.
الفلم في نظري تجربة شبه متكاملة. جريء وسياسي وإنساني وملحمي في آن واحد. ما ينقصه حقًا هو نهاية أكثر إحكامًا، لحظة ختام تجمع كل الخيوط بدل أن تترك بعضها معلقًا. ربما كان أندرسون يقصد هذا الالتباس بوصفه جزءًا من رسالته، لكنني تمنيت مشهدًا أخيرًا يترك أثرًا أوضح في الذاكرة. ومع ذلك، يبقى «معركة تلو الأخرى» من أكثر التجارب التي جعلتني أخرج من القاعة وأنا أشعر أن السينما لا تزال قادرة على إدهاشنا وإثارة الأسئلة العالقة بنا.

.jpeg)

يُعرض اليوم الخميس في صالات السينما في السعودية فِلم «The Smashing Machine»، من إخراج بيني سافدي، وبطولة دواين جونسون وإيميلي بلُنت. ويستند الفِلم إلى القصة الحقيقية للمقاتل الأمريكي مارك كير، أحد أبرز نجوم رياضة القتال المختلط في التسعينيّات، الذي لمع اسمه في الحلبات بفضل قوته وأسلوبه العنيف، قبل أن يدخل في دوامة من الصراعات النفسية والجسدية. ويتتبّع العمل صعوده إلى القمة ثم انهياره بسبب إدمانه على المسكنات وتوتر علاقته العاطفية، كاشفًا الجانب الإنساني خلف صورة البطل الرياضي الذي تحطّمه الشهرة من الداخل.
كما يُعرض في اليوم نفسه فِلم «HIM»، من إخراج جاستن تبينق، وبطولة مارلون وينقز وتايريك وِذرز. وتدور أحداث الفِلم حول «كاميرون كيد»، لاعب كرة قدم شاب يحظى بفرصة التدريب مع أسطورة اللعبة «إيزايا وايت»، في مجمّع معزول استعدادًا لاحترافه. لكن الموسم التدريبي الاعتيادي يتحوّل تدريجيًّا إلى تجربة نفسية عنيفة تكشف جانبًا مظلمًا من عالم الرياضة.
يبدأ فِلم «Anemone» رحلته النقدية على موقع «Rotten Tomatoes» بتقييم أولي بلغ 63% ويعود فيه دانيال دي لويس إلى الشاشة بعد غياب دام ثمانية أعوام.
صدر إعلان تشويقي جديد لمسلسل «Pluribus» من ابتكار فينس قيليقان. يروي المسلسل قصة أتعس شخص على وجه الأرض يُكلَّف بإنقاذ العالم من السعادة، ويُعرض في 7 نوفمبر على «+Apple TV».
أعلنت «20th Century Studios» أن عائلة «The Simpsons» ستعود إلى شاشات السينما بفِلم جديد يُطرح في 23 يوليو، 2027.
.png)
السينما وُجدت لتبقى
متى تنسى الناس السينما؟ إذا كانت مجرد تجربة بحدود الساعتين، حالما ينتهي الفلم، تختفي من ذاكرتك. مبادرة «سينماء» من هيئة الأفلام انطلقت لتضيف للتجربة عمقًا وتأثيرًا يتجاوز قاعة العرض. من خلال مسارات متنوعة تهدف إلى إثراء المشهد السينمائي السعودي، ودعم المواهب النقدية، وصناعة محتوى يليق بتاريخ السينما ومستقبلها.

«Shasta» (2:39)


كان بول توماس أندرسون منذ بداياته مولعًا بتفكيك العوالم الأمريكية الخفية: من عائلات مفككة، وطموحات محطّمة، وصناعة جنسية مزدهرة، وجماعات عقائدية غامضة. لكنه ذهب في «Inherent Vice» إلى منطقة مختلفة تمامًا؛ منطقة الضباب وجنون الارتياب والتاريخ المنسي. الفِلم رحلة داخل عقل أمريكي متهالك في مرحلة ما بعد الستينيّات، حين بدأت أحلام «الحب والسلام» تتبخر، وتتحوّل إلى شكّ دائم في كل شيء.
تدور القصة في لوس أنجلوس عام 1970، حول المحقق «دوك سبورتيلو»، الهيبي الفوضوي الذي يتورّط في لغز معقّد يبدأ بزيارة حبيبة سابقة تطلب مساعدته على تعقّب ملياردير اختفى فجأة. لكن ما يبدو في البداية قضيةً بسيطة، يتشعّب سريعًا إلى شبكة من العصابات السرية والشركات المشبوهة وضباط الشرطة الغامضين، حتى يجد «دوك» نفسه في متاهة من الخداع والتلاعب والهلوسة. ويسعى هذا البناء السردي المفتوح إلى عكس ذهنية جيلٍ فقد ثقته في السلطة والنظام وكل الروايات الرسمية.
وسط هذا العالم المليء بالمخدرات ونظريات المؤامرة، تأتي الموسيقا التصويرية التي ألّفها جوني قرينوود -شريك أندرسون المعتاد- عنصرًا أساسيًّا في خلق الجو العام. فقدّم شريطًا صوتيًّا يتماشى مع تقلبات السرد. إذ تبدأ الموسيقا بألحان حالمة متأرجحة تحمل أثر الهيبّيين وثقافة السلام، ثم تنزلق تدريجيًّا نحو نغمات أكثر توترًا واضطرابًا كلما تعمّق «دوك» في المتاهة.
صناعة موسيقا تعبّر عن «اللايقين»
اختيار جوني قرينوود لتأليف موسيقا «Inherent Vice» لم يكن قرارًا تقنيًّا فقط، بل جزءًا جوهريًّا من رؤية بول توماس أندرسون للفِلم. فالهدف أن تعمل الموسيقا «محرّكًا إدراكيًّا» يُبقي المتفرّج في حالة ذهنية مشابهة لما يعيشه «دوك سبورتيلو». فلا شيء ثابت، ولا معنى نهائي لأي شيء.
وفي هذه الموسيقا دمج قرينوود، المعروف بأسلوبه التجريبي مع فرقة «Radiohead»، عناصر من الموسيقا الكلاسيكية الحديثة، مع استخدام واسع للآلات الوترية التي تُعزف بنبضات غير منتظمة وإيقاعات غير مكتملة. كما استعان بخيارات صوتية غير تقليدية -مثل توظيف آلات كهربائية مشوّهة مع الكمان والبيانو- لخلق إحساس سمعي ضبابي، يشبه تمامًا حالة اللايقين التي يعيشها البطل.
ثلاث مقطوعات تحمل المعنى
مقطوعة «Shasta»
من أكثر المقطوعات التي تعبّر عن جوهر علاقة «دوك» بحبيبته السابقة. تبدأ بآلة كمان منفردة بنغمة حنونة وبطيئة، ثم تتسع تدريجيًّا بإضافة طبقات وترية متصاعدة ثم تنكسر فجأة. يعكس هذا البناء حالة العلاقة نفسها كحنين لا يكتمل، وكظلّ عاطفي يرافق البطل حتى النهاية.
مقطوعة «The Golden Fang»
تُستخدم هذه المقطوعة في لحظات اقتراب «دوك» من قلب المؤامرة. تعجّ بالأصوات المشوّشة والتكرارات غير المتناظرة التي تمنح إحساسًا بأن شيئًا غير مفهوم يتضخّم في الخلفية. وتعتمد البنية الإيقاعية على تكرارات غير منتظمة (polyrhythms)، ما يعزز الإحساس بالتشويش الذهني، ويجعل المشاهد يعيش حالة الجنون نفسها التي يعيشها البطل.
مقطوعة «Amethyst»
هذه المقطوعة لحظة تأملية تأتي في أواخر الفِلم. وتُبنى على لحن بسيط جدًا يتكرر ببطء على البيانو، لكن مع كل تكرار تُضاف نغمة أو طبقة صوتية جديدة تغير إحساس الجملة. وتعكس هذه التقنية مفهوم الفِلم، فالحقيقة ليست حدثًا مفاجئًا، بل تراكم بطيء من التفاصيل التي لا تؤدي إلى نتيجة واحدة.
عبد العزيز خالد


اليوم نقول «أكشن» مع هذا المشهد من فِلم «The Master» الصادر عام 2012، من إخراج بول توماس أندرسون.
تدور القصة حول «فريدي كويل»، جندي سابق مضطرب يعيش حالة من الضياع بعد الحرب العالمية الثانية، حتى يلتقي «لانكستر دود»، زعيم حركة روحية شبه دينية تقدّم نفسها طريقًا للخلاص من الألم النفسي والوجودي. ويتحوّل اللقاء بينهما إلى علاقة معقّدة تمزج الانجذاب بالتبعية، والبحث عن المعنى بالهيمنة الفكرية.
في هذا المشهد، يخضع «فريدي» لما يسميه «دود» بعملية «المعالجة»، وهي سلسلة من الأسئلة المتكررة التي تهدف إلى تعرية الذات وإزالة طبقات الدفاع النفسي. ويجلس الاثنان في غرفة ضيقة بإضاءة خافتة وعدسة ثابتة، تجعل الحوار وجهًا لوجه تجربةً شبه طقسية.
يبدأ «دود» بطرح أسئلة بسيطة مثل: «ما اسمك؟» و«هل كذبت من قبل؟» و«هل شعرت بالندم؟» ويترك لـ«فريدي» في البداية مساحةً كاملةً للمراوغة والمزاح وتغيير الموضوع، بل يتقبّل انحرافه عن الإجابة دون أن يوقفه أو يعاتبه. هذه الحرية المقصودة تجعل الأجواء أقل توترًا وأكثر أُلفة، وتكسر الحواجز بين الطرفين شيئًا فشيئًا، حتى يشعر «فريدي» براحة غير معتادة. ومع مرور الوقت، تنقلب المعادلة، فبدلًا من أن يكون هو الخاضع للاستجواب، يصبح هو من يطلب من «دود» أن يواصل طرح الأسئلة، كأنّه أدمن هذا النوع من المواجهة الحميمة التي تكشف أعماقه.
وعند هذه النقطة، يرفع «دود» مستوى المواجهة تدريجيًّا، فيضع شرط ألّا يرمش «فريدي» في أثناء إجاباته. إذ يرى أنّ الرمش قد يكشف عن تردّد أو توتّر، وأن ضبط الجسد يعني الصدق الكامل في التعبير. وإذا رمش، يُعاد طرح الأسئلة جميعها من جديد، ما يجعل الحوار أكثر صرامةً، ويحوّله من مجرد محادثة ودّية إلى اختبار إرادة وتركيز.
يقاوم «فريدي» ويراوغ في البداية، غير أن إصرار «دود» يجرّه تدريجيًّا إلى لحظة الانكسار. وتتحوّل ملامحه من التحدّي إلى الارتباك، ثم إلى اعترافات قاسية عن الغضب والذنب والعنف الذي يسكنه. ويصبح «فريدي» عاريًا تمامًا أمام الرجل الذي قدّم له يد الخلاص، فيتكوّن نوع جديد من الرابط بينهما: تابع يبحث عن معنى، وقائد يرى في السيطرة طريقًا للشفاء.
تحت السطح، يمثّل المشهد معركة خفية على السلطة. فبينما يستخدم «دود» الهدوء والانضباط سلاحًا لكسر إرادة «فريدي»، يحاول الأخير الاحتفاظ باستقلاليته. وحين يعترف بأحلك أسراره، يتضح أن النصر لم يكن لـ«دود» وحده، بل لعقيدته التي نجحت في إخضاع الرجل المنفلت، وصياغته من جديد وفق رؤيتها.
يحمل المشهد بُعدًا رمزيًّا أوسع من سياقه الدرامي. فهو يختصر العلاقة التي يقيمها الفِلم بين الإنسان والسلطة الروحية: كلٌّ يبحث عن الخلاص، والثمن غالبًا يكون الحرية. ولن يجد «فريدي» المعنى إلا بعد أن يتنازل عن ذاته، ولا يثبت «دود» سلطته إلا بعد أن ينجح في إعادة تشكيل «الآخر» على صورته.
ويتحوّل المشهد بفضل أداء فيليب هوفمان وخواكين فينيكس إلى تجربة سينمائية نادرة في صدقها. حيث يتحدّث هوفمان بنبرة هادئة وينظر بثبات ليثبت سُلطته، فيما يقدّم فينيكس عرضًا جسديًّا ونفسيًّا بالغ القسوة، تنهار فيه ملامحه تدريجيًّا مع تقدّم الجلسة العلاجية.
عبد العزيز خالد

فقرة حصريّة
اشترك الآن


جاءت واحدة من أهم لحظات الإلهام في مسيرة بول توماس أندرسون وهو طريح الفراش يعاني الحمى. ففي تلك الأيام التي أجبرته على التوقف والهدوء، جلست زوجته مايا رودولف إلى جواره تعتني به. وفي لحظة سكون قصيرة، التقت عيناه بعينيها ولاحظ فيها نظرةً مختلفة تمامًا، نظرة عميقة ومليئة بالحنان غير المشروط، نظرة لا تظهر إلا حين ينكشف الضعف، ويتحوّل الحب من مشاعر عابرة إلى رعاية حقيقية.
علِقت هذه اللحظة البسيطة بذهنه، وظلّ يفكّر في كيفية تغيّر العلاقات حين تنتقل من الرومانسية المعتادة إلى مساحة الاعتماد المتبادل؟ ومن هنا بدأ أندرسون يتخيّل شخصية لفِلمه المقبل، شخصية خيّاط منضبط ودقيق، تهتز حياته المستقرة حين يتسلّل إليها حبّ يربك نظامه الذي اعتقد أنه لا يتغيّر.
وبهذه المعلومة نستهلّ فقرة «دريت ولّا ما دريت» عن فِلم «Phantom Thread» الصادر عام 2017:
تعمّق دانيال دي لويس في تجسيد الشخصية بأسلوبه الشهير في «التحوّل الكامل». إذ درس عروض الأزياء في الأربعينيّات والخمسينيّات، وتتلمذ على يد رئيس قسم الأزياء في «باليه نيويورك»، وتعلّم الخياطة.
بنى دي لويس والممثلة ليزلي مانفيل صداقتهما الواقعية قبل التصوير بستة أشهر، عبر اللقاءات والرسائل النصية، لخلق علاقة حقيقية بين شخصيتي «رينولدز وودكوك» و«سيريل».
بعد انتهاء دانيال دي لويس من أداء شخصية «رينولدز»، وقبل إصدار الفِلم، أعلن اعتزاله التمثيل في يونيو، 2017، واصفًا التجربة بأنها أثقلت عليه نفسيًّا وأدخلته في حالة جعلته يشعر بأن شغفه بالمهنة قد تلاشى، حتى أنه رفض مشاهدة النسخة النهائية للفِلم. قبل أن يعود بعد اعتزاله بسبع سنوات ليشارك في فِلم «Anemone» الذي أخرجه ابنه.
كان اسم «رينولدز وودكوك» مزحةً أطلقها دي لويس في أثناء تطوير الشخصية، وضحك أندرسون منها بشدّة، وقرّر الاحتفاظ به في النص.
تعمّد بول توماس أندرسون إخفاء بعض تفاصيل السيناريو عن فيكي كريبس خلال التصوير، ليحافظ على عفويتها وتوترها الحقيقي في مشاهد العلاقة المعقدة بينها وبين «رينولدز».
كثير من العاملين في دار أزياء «وودكوك» في الفِلم وأصحاب الأدوار الثانوية ليسوا ممثلين محترفين، بل خيّاطات حقيقيات أو أشخاص مرتبطون بعالم الأزياء، التقى بهم أندرسون في أثناء بحثه في أرشيف الملابس التاريخي في متحف «فيكتوريا وألبرت». حتى إن بعضهم شارك في صناعة القِطع التي ظهرت في الفِلم.
أُنجِز «Phantom Thread» بالكامل بطريقة فوتوكيميائية تقليدية دون أي معالجة رقمية وسيطة، في خيارٍ واعٍ من أندرسون ليحافظ على الملمس الكلاسيكي للصورة ويمنحها طابعًا بصريًّا أقرب إلى أفلام الخمسينيّات التي استلهم منها أسلوبه.
قرر بول توماس أندرسون للمرة الأولى في مسيرته الاستغناء عن مدير تصوير في «Phantom Thread»، إذ أراد أن تكون الصورة امتدادًا مباشرًا لرؤيته الإخراجية دون وسيط يترجمها. وتعاون أندرسون مع مشغّلي الكاميرا وفنّيّي الإضاءة في كل مشهد، وشارك في اختيار العدسات وزوايا التصوير وأسلوب الحركة، وحتى في طريقة سقوط الضوء على الأقمشة.
عبد العزيز خالد


مقالات ومراجعات سينمائية أبسط من فلسفة النقّاد وأعمق من سوالف اليوتيوبرز. وتوصيات موزونة لا تخضع لتحيّز الخوارزميات، مع جديد المنصات والسينما، وأخبار الصناعة محلّيًا وعالميًا.. في نشرة تبدأ بها عطلتك كل خميس.