النخلة ظلّ الجماعة وذاكرة الأرض 🌴

زائد: الأشجار بديل عن أعمدة الإنارة 🌳

كان لجدي كرسي أسند ظهره على جذع عملاق، وثبت أرجله الأربعة بالقرب من أشجار أحاطت مكتبه الذي عمل فيه لعقود.
التقطت صورةً له وللظل الذي يحيطه في 2015، رغبةً في تخليد المشهد الذي استقبلني وأسرتي كلما خرجنا من منزلنا منذ أن كنت طفلًا، حيث تضيء الإنارة المربوطة بأعلى جذع الشجرة عتمة المكان.

لم أدرِ حينها أنه بعد عدة سنوات، سيُزال الكرسي والجذع وبعض الشجر لخطرهم على خطوط الكهرباء الجديدة في الحارة. فاستُبدل نور المكان الأصلي بآخر مؤقت، وأصبحت تلك الزاوية من الحارة بلا ظل.

لكن فقدان الحضور المادي للكرسي لا يعني أن روحه لم تعد حاضرةً هناك، أو أنها لن تعود مجددًا. حيث طمأنتني دراسة جديدة أن النباتات ستستبدل أعمدة الإنارة في المستقبل، إذ يمكن حقنها بجزيئات تمتص ضوء الشمس ثم تصدره كضوء طبيعي. 

حتى وإن فقدت حاراتنا قطعًا منها، ستبقى ذكراها حيةً معنا، وسيبقى نورها ساطعًا حيثما حلّ. وسيعود الكرسي عما قريب، وستعود الأشجار معه أيضًا. 🍃

في عددنا اليوم، وبالحديث عن الأشجار، تكتب آلاء عبد الرحمن عن النخلة، ورمزيتها الدينية والثقافية والاقتصادية، وعن المجتمع الذي يزدهر في حضورها ويخسر جذوره في غيابها. وفي «خيمة السكينة»، تصف إيمان أسعد إيذاء الذات كتعويذة لا تبطل حتى ترحب بالحب ممن حولك، واحتمالية تخييبهم أملك رغم ذلك. وفي «لمحات من الويب»، نودعك مع اقتباس من أنسي الحاج عن نور ينبع من الدفء الذي تعطيه لمن حولك، وتاريخ مختصر لاكتشاف الألوان. 🎨

خالد القحطاني


رسم: الفنان عمران
رسم: الفنان عمران

النخلة ظلّ الجماعة وذاكرة الأرض 🌴

آلاء عبد الرحمن

كنتُ أجلس في فناء البيت، أرى جدّي يفتل من ليف النخلة حبالًا ويقول: «ما من شيء في النخلة يضيع». لم يكن يتحدث عن نفعها المادي فحسب، بل عن حكمة خفية فحواها أن كل جزءٍ من هذا الكائن له وظيفة، كما لو كان يقول إن الوجود كله لم يُخلق عبثًا.

منذ أن كانت الصحراء مسرحًا للحياة، كانت النخلة أكثر من مجرد شجرة، فهي ظلٌّ يلمّ شمل الجماعة في حرّ النهار، وذاكرةٌ تحفظ للأرض صورتها حين تتبدّل الملامح.

في النصوص الأولى ورد ذكر النخلة بوصفها جزءًا أساسيًا من معنى الحياة. ففي القرآن الكريم قيل لمريم أن تهزّ جذعها، وكان ذلك توجيهًا إلى أن الرزق قد يكون في أقرب ما يحيط بالإنسان. وفي الحديث الشريف شُبّه المؤمن بالنخلة: ثابت الجذور، دائم النفع، لا يسقط ورقها؛ وهذا تشبيه مباشر يوضح أن قيمة الإنسان ليست في امتداد العمر بل في الثبات والعطاء المستمر.

وفي التراث الشعبي ارتبطت النخلة بالمرأة والخصب، فكانت تُشبَّه بالعذراء السامقة. وقد جاء في معلّقة امرئ القيس قوله واصفًا شعر محبوبته: «وفَرْعٍ يَزِينُ المتْنَ أسْوَدَ فاحِمٍ / أثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ»، وهو وصفٌ يقرر أن كثافة الشَّعْر وتدلّيه شُبِّها بعناقيد النخلة.

وعلميًّا، تستطيع النخلة أن تعطي ما يقارب مئةً وخمسين إلى مئتي موسم من الثمر خلال حياتها، وهو ما يجعلها حاضرة في حياة الأسرة عبر أجيال متعاقبة. ولذا أطلق العرب عليها أوصاف القرابة مثل «العَمّة» و«الأم الثانية» تعبيرًا عن مكانتها في الحياة اليومية.

أما في الاستعمال الواقعي، فقد شكّلت النخلة أساسًا اقتصاديًّا متكاملًا: يُؤكل ثمرها غذاءً، ويُستعمل جذعها في البناء، ويُفتل ليفها حبالًا، وتُستخدم السعف في صناعة السقوف، ويُقدَّم نواها علفًا للدواب. وبهذا أدرك العرب أن النخلة مورد شامل في معيشتهم، حتى قالوا: «النخلة عمّتنا»، أي إنها جزء لا يُستغنى عنه من حياتهم.

كان الشعراء أوفى لوَحْيِ النخلة. عبد الرحمن الداخل حين بكى نخلةَ الرُّصافة لم يصف نباتًا بقدر ما صوّر غربته: «تَبَدَّتْ لَنا وَسْطَ الرُّصَافَةِ نَخْلَةٌ / تَنَاءَتْ بِأَرْضِ الغَرْبِ عَنْ بَلَدِ النَّخْلِ… فَقُلْتُ شَبِيهي فِي التَّغَرُّبِ وَالنَّوَى…». وجعل السيّاب  النخلَ علامةً للذاكرة والهوية وهو يستحضر العراق: «عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ…». ورأى الثبيتي في صمودها معنى الديمومة: «وأنتَ الذي في عروقِ الثرى نخلةٌ لا تموت». وعلى النسق نفسه خاطب غازي القصيبي الأحساءَ والأرضَ الأمّ: «أمَّ النخيلِ!.. هَبيني نخلةً ذَبُلَتْ / هل يَنْبُتُ النخلُ غضًّا بعد أن ذَبُلا؟!»

النخلة اقتصاد وفلسفة في آن معا. من ثمرها الغذاء، ومن نواها العلف، ومن ليفها الحبال، ومن سعفها السقوف، ومن جذعها الأعمدة. في موسم الجذاذ، كانت الجماعة كلها تشارك فيتحول العمل إلى طقس اجتماعي. هنا نرى أن النخلة ليست فردًا، بل جماعة قائمة بذاتها: كلما اجتمع الناس تحت ظلها ازدادوا قربًا، وكلما غابت، انقطع حديثهم. وقد قيل:

«يا نخلتي يا ظلّنا في المسايير

لا غِبتي انقطع حديث وجمَاعه.»

في الجغرافيا، صارت النخلة علامةً مكانية. حيثما وُجدت دلّت على ماء، فغدت بمثابة خريطة طبيعية للاستيطان. لا عجب أن الأحساء والقطيف والمدينة المنورة ارتبطت في المخيال بغابات النخيل التي تحيط بها. والنخلة هنا ليست مجرد منظر طبيعي، بل ذاكرة للأرض، تحكي تاريخها وصمودها في وجه الجفاف والتحوّلات.

في الحاضر، بقيت النخلة رمزًا وطنيًّا وثقافيًّا. في شعار السعودية، تقف شامخةً فوق السيفين المتقاطعين، علامةً على الخير والنماء. وفي المهرجانات والأسواق، يظل التمر عنوانًا للكرم. وفي الفنون الحديثة، يستعير التشكيليون هيئتها ليصوغوا صورة الوطن. حتى في فنون العمارة، نراها رمزًا يتكرّر في الزخارف وفي المشاريع العمرانية.

ومع ذلك، ثمة مفارقة غريبة، ففي المدن الحديثة، تبتعد النخلة شيئًا فشيئًا عن تفاصيل الحياة اليومية. لم تعد هي بيت المضافة، ولا ظلّ المجلس، ولا مائدة الغداء كما كانت. لكنها تظلّ في المخيال علامةً لا تزول: رمزًا للجذور، وصوتًا خفيًّا يذكّرنا أن الأرض لا تنسى أبناءها. كلما مررنا بنخلة وحيدة بين أبراج الزجاج والخرسانة، شعرنا أن ظلّها يحفظ سرَّ الجماعة التي كانت، وأن جذورها ما زالت تحفر في ذاكرة الأرض.


كيف تحبس فلوسك في قفص؟ 💸

الفلوس تطير، هذا طبعها.

لكن فيه ناس تطير فلوسهم بلا رجعة، بين المقاهي والطلبات العشوائية والهبّات.

وفيه ناس يحبسون فلوسهم في قفص، يبنون عضلة التخطيط المالي بالادخار والاستثمار المبكّر، ويشغّلون فلوسهم بالصفقات منخفضة المخاطر عشان تخدمهم طول العمر.

الأهم أنك تستثمر وتدّخر عن طريق منصة مصرحة ومعتمدة، مثل صفقة المالية.


المصدر: The Public Domain Review
المصدر: The Public Domain Review

لا تطعن وجهك بالشوكة 🍴

في الإعلان التسويقي لفلم الرعب (Weapons)، ثمَّة لقطة لرجل وامرأة، كلُّ منهما يطعن وجهه بالشوكة المفترض أن يتناول بها طعامه، وكأنه واقعٌ تحت سحر يمنعه من استيعاب ما يفعل. لم أدر لحظتها لماذا، لكن اللقطة لم تكن مرعبة بقدر ما وجدت فيها، على الفور، صورة استعارية مثلى لنزوع بعضنا إلى إيذاء ذاتنا بكامل إرادتنا. ولم أفاجأ حين وجدت هذا الإحساس لدى عدة أناس شاهدوا الفلم، وأخذوا التحليل من هذا المنطلق. 

لكن إيذاء الذات ليس النقطة الوحيدة في المشهد. النقطة المكملة لها هي ما يعرفه كل من تعرَّض للإيذاء اللفظي المتعمد والمستمر في طفولته ومراهقته: الشرير -الذي عادةً ما يكون قريبًا عائليًّا بالغًا يتحلى بسطوة أخلاقية ومكانة تضفي مشروعية على كلامه- قد نجح في برمجتك. وستواصل أنت إيذاء نفسك نيابةً عنه، وستواصل تحطيم معنوياتك ومشاعرك وثقتك بنفسك وبالآخر.

يمكن أن تقول أنه ألقى عليك تعويذته الشريرة. لكن، إذا تعلمنا شيئًا من كل حكايا الأطفال، وأفلام الرعب للكبار، فهي أنَّ التعويذة، مهما كانت قوية، بالإمكان إبطالها. ودومًا، الحب هو المكون الرئيس في عملية الإبطال. صحيح حبك لذاتك هو الأساس، لكن لن أقول هنا أنَّ حبك لذاتك يكفيك. ما تحتاج إليه أيضًا حتى تستطيع كسر الحلقة الشريرة، أن تفتح قلبك للآخرين حتى يحبوك، أن تفتح ذراعيك وتفرد جناحيك للأصدقاء الذين يرون فيك ما أعماه عنك ذاك الشرير أو الشريرة. 

لكن أيضًا، فتح الذراعين للاستقبال لا يكفيك، عليك أن تتعلَّم أن تحب وتعطي من مشاعرك ووقتك لمن يحبك، عليك أن تجري إليهم ولا تختبئ في قوقعتك. عليك أن تصدق، أن تؤمن، أنك في مأمن برفقتهم. وإن حدث وخاب أملك من أحدهم، لا بأس. عليك أن تتحلَّى بالشجاعة وتحاول من جديد. فألم الخيبة لا يساوي شيئًا أمام حملك الشوكة بيدك وطعن وجهك، من جديد.

إعداد 🧶

إيمان أسعد



نشرة أها!
نشرة أها!
يومية، من الأحد إلى الخميس منثمانيةثمانية

نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.

+60 متابع في آخر 7 أيام