معجزة الرئيس الأرجنتيني التي لا ننتبه لها
لماذا يفشل منطق الاشتراكية، وينجح منطق «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى»


يقول الاقتصاديون: هناك اقتصادات متطوّرة واقتصادات ناشئة، ثم هناك اقتصاد اليابان واقتصاد الأرجنتين.
تقال تلك العبارة كنايةً عن فرادة اقتصادَي اليابان والأرجنتين، واختلافهما عن الأنماط السائدة والمعروفة في اقتصادات الدول الأخرى.
سيجول بك هذا العدد بين زوايا الاقتصاد الأرجنتيني وتاريخه لتفهم لمَ قيلت تلك العبارة، لكنه سيسلط الضوء تحديدًا على الرئيس الجديد اللافت والمثير للجدل، خافيير ميلي، وعلى أفكاره المختلفة والاستثنائية التي شرع في تطبيقها بتسارعٍ منذ انتخابه، وما ترتب عليها من آثار ونتائج، والأهم: ما الذي يمكن أن نستفيده من كل هذه الرحلة.
قراءة ماتعة!
عمر العمران


ميسي ومارادونا، الديون والإفلاس. غالبًا هذان هما الوجهان اللذان سيتبادران إلى ذهنك إن سمعت كلمة «الأرجنتين»: نجاح رياضي، في دولة فاشلة. ثم في نوفمبر 2023، أُضيف لهما وجه ثالث: الرئيس المنتخب الجديد خافيير ميلي.
كان ظهور ميلي في الإعلام حينها بارزًا ولافتًا؛ رئيس غريب الأطوار، يتصرف بسلوكٍ لا يتناسب مع اللباقة المعتادة للرؤساء، مُذكّرًا بحالةٍ شبيهة في واشنطن! فيظهر في برامجه الإعلامية صارخًا على خصومه الاقتصاديين والسياسيين، ويظهر في حفلة تقمّص أدوار (Cosplay) في 2019، متقمصًا شخصية ابتكرها ساخرون على الإنترنت وأسموها (AnCap)، وهو اختصار المنهج الفكري «الأناركية - الرأسمالية» (Anarcho - Capitalism)، كما يظهر مع منشاره الذي رافقه في حملاته الانتخابية؛ إشارةً إلى منهجه الرامي إلى «تقطيع» الإنفاق الحكومي.
وما إن انتُخب ميلي حتى قال في خطاب نصره: «نملك عزيمة إقامة الأرجنتين على أرجلها والمسير للأمام. لا مجال للتدرّج والفتور وأنصاف الحلول. لا بُدّ من الصدمة؛ خزينتنا فارغة! اليوم، سنعيد السير على خطى الطريق الذي سبق وجعل الأرجنتين عظيمة.»

بعد ذلك، صبّ الرئيس الجديد سيل إصلاحاته: ألغى نصف الوزارات (أبقى تسع وزارات، مُلغيًا تسعًا أخرى)، وفرض سياسات تقشّف حادة لما تبقى منها، كتسريحات جماعية للموظفين الحكوميين وتخفيض رواتبهم، وإلغاء مشاريع ضخمة كانت لتمولّها الحكومة، مع خصخصة ممتلكات حكومية، إضافةً إلى إلغاء متسارع للتشريعات والضرائب والرسوم، بل وإنشاء وزارة مخصصة بالكامل لإلغاء التشريعات، وإصلاح عميق للسياسة النقدية.
اليوم، بعد مضي سنة وتسعة أشهر على دخوله القصر الرئاسي، انخفض التضخم الشهري من أكثر من 25% قبل حكمه، إلى 1.5% - 2% في الأشهر الثلاثة الأخيرة. أما الفقر، الذي عادةً ما يكون الحجة ضد سياسات التقشف وإلغاء برامج الرعاية الاجتماعية الممولة من الضرائب والتخارج الحكومي من الاقتصاد بالعموم، فقد انخفض من 55% في الربع الأول من 2024 إلى 32% في النصف الأول من 2025، أي إن 42% من الفقراء خرجوا من دائرة الفقر. وكل ذلك خلال سنة ونصف فقط!
«ليس لديه أي خبرة، ولا يملك فريقًا اقتصاديًّا، ولهذا -ببساطة- سيفشل.» كانت هذه كلمات الباحث السياسي والاقتصادي إيان بريمر (Ian Bremmer) إبان انتخاب ميلي، ليقول بعدها بـثمانية أشهر: «يبدو أن خطط ميلي لإنقاذ الاقتصاد… تعمل. بلا شك، بناءً على ما فعل في أول شهوره بالحكومة، يستحق هذا الرجل الاحترام. وأخيرًا، لا مشكلة في أن تخطئ. إذا أخطأت في تحليل، ببساطة اعترف بخطئك وعدّل تحليلك.»
هدف هذه المقالة -ببساطة- هو دراسة هذه الحالة والقصة الأرجنتينية، ولا سيّما محطتها اللافتة الأخيرة؛ لاستقاء الفوائد منها. فالأرجنتين «معمل العالم الاقتصادي» كما يشيع بين الاقتصاديين؛ لتجربتها عددًا كبيرًا ومتنوعًا من الأفكار والنظريات الاقتصادية عبر تاريخها.
فرسا الرهان: أمريكا.. والأرجنتين!
في السنوات الـ63 الماضية، كان معدّل التضخم السنوي المركّب (CAGR) في الأرجنتين نحو 73%. بمعنى آخر، كأن الأسعار ترتفع سنويًّا 73% على مدى 63 سنة متواصلة! لذا، إن كان عمرك 63 سنة أو أقل، فغالبًا لم تسمع طوال حياتك عن الأرجنتين إلا أخبار التضخم المفرط والفشل الاقتصادي المستمر، بجانب أخبار مارادونا وميسي طبعًا!
ولكن، لم يكن حال الأرجنتين بهذا السوء على الدوام. ففي عام 1870، وبعد عقود من الحرب الأهلية والإقليمية، استقرت الأرجنتين، وبدأت التطبيق الفعلي لدستورها المعلن في 1853. نظّم هذا الدستور الأرجنتين لتكون جمهورية فدرالية، يتولى سلطتها التنفيذية رئيس يُنتخب لست سنوات، في حين تتولى سلطتها التشريعية غرفتان في البرلمان: مجلس شيوخ يكون تمثيل المقاطعات فيه متساويًا، ومجلس نواب تُمثَّل المقاطعات فيه بحسب عدد سكانها.
تشابه هذا التنظيم مع التنظيم الأمريكي ليس مصادفة، فقد استلهم هذا الدستور أفكاره مباشرة من الدستور الأمريكي، وكذلك من مبادئ الثورة الفرنسية واتجاهات الفكر الأوربي الليبرالي. ولم يقتصر الاستلهام على التنظيم الأساسي للحكم وحسب، بل امتدّ إلى القيم التي يؤسس لها الدستور الأرجنتيني: حرية التعبير والصحافة والتعبّد والتجمّع المدني، وتعزيز التجارة الحرة وكفالة الملكية الخاصة، وتحفيز الاستثمار الخارجي وتسهيل الهجرات.
كانت المادة 25 من الدستور تنصّ: «على الحكومة الفيدرالية تشجيع الهجرة الأوربية، ولا يجوز لها أن تقيّد أو تحدّ أو تفرض أي ضرائب على دخول الأجانب إلى الأراضي الأرجنتينية إذا جاؤوا لغرض حرث الأرض، أو تحسين الصناعات، أو إدخال العلوم والفنون وتعليمها.»

أثمر الاستقرار السياسي والأمني، بعد انتهاء الحرب الأهلية في 1860 وحرب الباراقواي 1864 - 1870، طفرةً اقتصاديةً هائلة. وذلك في ظل دستورٍ رأسمالي يؤسس لسوقٍ حرة ضمن بيئة قانونية عادلة وناجزة. وقد انحصرت هذه الطفرة بين انتهاء حرب الباراقاوي في 1870 وبداية الحرب العالمية الأولى في 1914، ومن شواهدها:
بين 1871-1914، كان معدّل النمو السنوي المركب (CAGR) للناتج المحلي الأرجنتيني نحو 6%، متفوقةً على جميع دول العالم خلال الفترة ذاتها. ويعني ذلك أن الاقتصاد نما 1125% بين تلك السنتين.
في 1896، كان معدّل دخل الفرد الأرجنتيني مقاربًا للمعدّل الأمريكي، كما كان يحظى الأرجنتيني برفاه يفوق الفرد الفرنسي والألماني والإيطالي والأسباني.
في 1913، كان نصيب الفرد من الناتج المحلي في الأرجنتين ضمن أعلى 10 دول بالعالم.
خلال 44 سنة بين 1870-1914، هاجر 5.9 مليون أوربي للأرجنتين (أي 3 أضعاف عدد الأرجنتينيين في 1870). ولذا، في 1914، كان نصف سكّان العاصمة بوينس آيرس مولودين خارج الأرجنتين. ومع المهاجرين تتدفق الاستثمارات، فمثلًا في 1914، كانت 40-50% من الاستثمارات البريطانية في الخارج متركزة في الأرجنتين.
مع اعتماد الأرجنتين في هذه الثورة الاقتصادية على نموذج النمو المدفوع بالصادرات (Export-led Growth Model)، كانت في ذروة صادراتها تصدّر أكثر من نصف صادرات اللحوم العالمية، وخُمس صادرات القمح العالمية.
غذّت تلك الطفرة الموارد الهائلة التي تحظى بها الأرجنتين، والتي عادةً ما يُغفل عنها. فالأرجنتين سادس أكبر دولة في الأراضي الخصبة القابلة للزراعة، وعدد الأبقار ضعف عدد السكان، إضافةً إلى حضورها في قوائم أكبر عشرين دولة من حيث احتياطيات المعادن وإنتاجها مثل الذهب والفضة والنحاس وغيرها. وكل ذلك في دولة شاسعة (ثامن أكبر دولة في العالم من حيث المساحة)، في حين لم يكن يسكنها في 1900 إلا أقل من 5 ملايين.

عظّمت سوق الأرجنتين المحررة ضمن بيئة آمنة وعادلة استغلالها لمواردها، وأنتجت الرفاه الموصوف آنفًا لعموم المواطنين الأرجنتينيين، في الفترة التي أُسميت لاحقًا «العصر الذهبي» (Golden Age). كانت الأرجنتين مزدهرة أوائل القرن العشرين لدرجة أن المهاجرين كانوا ينقسمون في الرهان على الدولة التي ستقود اقتصاد المستقبل، أتكون أمريكا أم الأرجنتين!
توالي الخيبات
بينما كانت الأرجنتين تتنعم في زهو عصرها الذهبي، اصطدمت بأوّل خيباتها في 1914: الحرب العظمى، التي أُسميت لاحقًا الحرب العالمية الأولى.
فمن جهة، عرقلت الحرب سلاسل الإمداد، فانعكس ذلك على سلاسل الصادرات الأرجنتينية وأمانها. ومن جهة أخرى، اتجهت القوى المتحاربة، وعلى رأسها بريطانيا، لسحب رؤوس أموالها من الأرجنتين لتمويل جهودها العسكرية. قبل الحرب العالمية الأولى، كانت 50% من رؤوس الأموال في الأرجنتين خارجية، وتحديدًا من بريطانيا التي كانت توجّه نصف استثماراتها الخارجية للأرجنتين كما أسلفت، قبل أن تسحب هذه الاستثمارات لتمويل الحرب بعد بدايتها.
رغم الهزّة التي خلفتها الحرب العالمية الأولى، فإن الاقتصاد الأرجنتيني تماسك بعدها واستقر، وإن كان أضعف مما كان عليه قبلها. كانت الخيبة الأكبر بفعل الكساد الكبير في 1929، عندما هوت صادرات الأرجنتين بأكثر من 64%، بسبب ضعف الطلب عليها، وكذلك عاد المستثمرون الخارجيون لطلب أموالهم في ظرف تشح فيه الأموال مثل الكساد الكبير.
أدى هذا الركود وارتفاع البطالة إلى أول الانقلابات في تاريخ الأرجنتين، انقلاب 1930، الذي هدّد الاستقرار السياسي بعده، وأسّس للتدخلات الحكومية في الاقتصاد بغرض الحماية، في ظل اقتصاد عالمي كان يتعافى ببطء شديد بعد كساد 1929. ليعيش الأرجنتينيون «العقد المخزي» (Infamous Decade)، وهو تسميتهم لعقد الثلاثينيّات.
أما الخيبة الكبرى، فكانت انتخاب خوان بيرون في 1946. ترك هذا الرئيس إرثًا فريدًا وراسخًا ومعقدًا في الأرجنتين ما زال حيًّا إلى اليوم.

يُمكن أن تُختصر أفكاره، باختزال مخل، بأنها مزيج بين الوطنية، والشعبوية، والتدخل الحكومي الصارخ في الاقتصاد. فرض بيرون ضرائب ضخمة، خاصة على الصادرات والواردات، لحماية الصناعة الداخلية وتمويل منافع عامة، مثل الغذاء والصحة والسكن والنقل، ومنافع التقاعد، ورفع رواتب الموظفين الحكوميين، إضافةً إلى تأميم عدّة صناعات مثل سكك الحديد والصناعات الثقيلة وخدمات الهاتف والكهرباء والغاز وغيرها، فضلًا عن تكثيف التشريعات، مثل تقييد الأسعار وهوامش الأرباح ورفع الرواتب.
كما هو معتاد لمثل هذه الإجراءات التدخلية، فقد حققت مكاسب على المدى القصير، مثل ارتفاع دخل الطبقات الفقيرة والمتوسطة وتوفير منافع عامة رخيصة أو مجانية، بالذات مع ارتفاع أسعار صادراتها الزراعية والحيوانية بعد الحرب العالمية الثانية، بفعل تدمير الحرب لسلاسل الإنتاج والتوريد الأوربية دون أن تُمس الأرجنتين خلال تلك الحرب؛ لبعد موقعها الجغرافي عنها.
ولكن، بينما بدت هذه الاتجاهات الشعبوية زاهية، وعلى اسمها: شعبوية، ورغم مكاسبها قصيرة الأمد، فإنها خرّبت بنية الاقتصاد الأرجنتيني وكفاءته على المدى الطويل. ببساطة، يعتمد رفاه أي شعب على الإنتاج؛ إذ إن الإنتاج يعني المنتجات والخدمات التي يستهلكها الناس ويترفّهون بها فعليًّا. فلأن كفاءة الحكومات في الإنتاج أقل من القطاع الخاص، ومنافستها له وتشريع عمله يقلّلان من كفاءته، تنخفض بذلك كفاءة القطاعين العام والخاص في الإنتاج، ما يعني انخفاض الكفاءة الكلية للإنتاج في الاقتصاد، وهذا ببساطة يعني رفاهًا أقل.
المكاسب على المدى القصير ليست إلا نتيجة توزيع غير عادل للإنتاج المبني والحاصل منذ عقود، بحيث يُنقل الإنتاج من الغني المنتِج له، إلى الفقير الذي لم ينتجه، بحجة عدالة تقسيم الثروات. عندما يعني الإنتاج والعمل أنك لن تحصل على نتيجته، بينما يُجازى غير المنتج بغلّة عمل المنتج، سيتوقف الجميع عن الإنتاج. وبذلك يكون الإنجاز هو نقل حالة المجتمع من وجود أغنياء وفقراء، إلى حالة وجود فقراء وفقراء.
الأسواق الحرة تعمل ويزداد إنتاجها (وبذلك يزداد رفاه شعبها) بسبب إيجادها العلاقة السببية والمباشرة والدقيقة بين الإنتاج وتحصيل رفاهه، وبين عدم الإنتاج وتحمّل عواقبه، أو كما يصيغها القرآن البليغ في ستّ كلمات فقط: «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى».
السبب الوحيد لفشل الماركسية والاشتراكية، الذي تنضوي تحته كل الأسباب الأخرى برأيي، هو اعتمادها مبدأ «من كلٍ حسب قدرته، إلى كلٍ حسب حاجته»، وهو المخالف للسيرورة الطبيعية الواردة في الآية، وهي: «من كلٍ حسب قدرته وإرادته، إلى كلٍ حسب قيمة عمله».
عندما تصمم نظام شركتك بحيث يتنعّم المجتهد بغلّة اجتهاده، وغير المجتهد بعواقب تقصيره، وتسير على هذا النظام لعقود، ثم فجأةً تغيّره إلى نظام تنهدم فيه هذه العلاقة العادلة، مثلًا عبر تكريم غير المجتهدين بمكافآت المجتهدين، فلن ينهار هذا النظام في لحظة، بل قد يتأخر السقوط لأسابيع أو أشهر، حتى ينفر الموظفون تدريجيًّا من هذا النظام غير العادل، إلى آخر عادل.
خلال تلك الأسابيع، سيبدو لك أن خطتك نجحت بتحقيق رفاه لغير المجتهدين، ولكنك في الواقع تهدم نظامًا عمل بكفاءة لعقود. ولأن صعود الجبل أصعب من نزوله، فالهدم وخسارة الثقة التي استغرقت منك أسابيع أو أشهر، ستحتاج منك إلى سنين أو عقود لإعادة البناء وكسب ثقة الآخرين بعدالة نظامك ومنفعته للمجتهدين الذين سيستفيدون منه ويفيدونه.
ولذا، عندما تُصلح نظامًا غير عادل، فإن المنتفعين منه بصورة غير عادلة سيتضررون مباشرة، في حين أن المنافع والمكاسب للجميع، التي ستتحقق بفضل عدالة النظام، تحتاج إلى وقت أطول بكثير لتتحقق.
ولهذا، قد تُنتج تشوهات السوق والتدخلات غير العادلة فيها مكاسب على المدى القصير، ولكنها حتمًا مضرة على المدى البعيد. والعكس؛ فقد يكلّف الإصلاح على المدى القصير، ولكنه مفيد حتمًا على المدى البعيد. علمًا أن بعض التشوهات مضرة فورًا حتى على المدى القصير، وبعض الإصلاحات مفيدة فورًا حتى على المدى القصير.
وكل هذا هو بالضبط ما حصل في «التجربة البيرونية»: مكاسب محدودة على المدى القصير، ناتجة عن إعادة تقسيم غير عادل للثروات، ولكنها فتكت بالأرجنتين على المدى البعيد. فمنذ تشكّل البيرونية في 1946 وحتى 2022، انكمش الناتج المحلي الإجمالي في 25 سنة من أصل 76، وكان معدّل البطالة بين 1980 - 2023 عند 10.0% في المتوسط، مع معدل تضخّم سنوي مركب (CAGR) آخر 63 سنة عند 73%، أي كأن الأسعار ترتفع كل سنة بـ73% لمدة 63 سنة متواصلة، إضافةً إلى وقوع 40% من الشعب الأرجنتيني تحت خط الفقر خلال السنوات الأربع الأخيرة.
بل وحتى في معيار الطبقية، الذي رُوجت أفكار بيرون على أنها لمكافحتها، فيشير مقياس الطبقية (Gini Index)، الذي يعني طبقية أكبر كلما ارتفعت نسبته واقتربت إلى 100%، أن معدل الطبقية في الأرجنتين خلال آخر 8 سنين كان 42%، بينما كان أقل خلال الفترة نفسها في أمريكا المتهمة بالطبقية، إذ لم يتجاوز 41% فيها!
المهرّج.. المنقذ!
في خضمّ الأزمات المتلاطمة، كان صوت خافيير ميلي الناقد واللاذع حاضرًا دومًا. درس الاقتصاد، وحاز على شهادتي ماجستير فيه، ودرّسه في جامعة بوينس آيرس. لم يعرفه طلابه وحسب، بل عرفه الأرجنتينيون المحبطون من خيبات اقتصادهم عبر ظهوره الإعلامي المتتابع، حيث كان يصرخ بحدّة نحو مواضع ألمهم، ويزعم أنه يعرف الحل: الرأسمالية.
اختبر شعبيته بالترشّح لانتخابات مقعد بمجلس النواب في 2021، وفاز. فقرر بعدها الترشّح لانتخابات الرئاسة في 2023، ليفاجئ الجميع بتصدّره الجولة التمهيدية بـ30% من الأصوات، متقدمًا على مرشحي جميع الأحزاب الكبرى الأخرى، قبل أن يفوز في الجولة التالية والأخيرة بـ56%، وهي أعلى نسبة فوز في الانتخابات الرئاسية بتاريخ الأرجنتين منذ عودة الديمقراطية لها في 1983.

وكما ابتدأت المقالة، فقد صبّ سيل إصلاحاته بعد فوزه بانتخابات الرئاسة؛ فألغى نصف الوزارات (أبقى 9 وزارات، مُلغيًا 9 أخرى)، وفرض سياسات تقشّف حادة لما تبقى منها، كتسريحات جماعية للموظفين الحكوميين وتخفيض رواتبهم، وإلغاء مشاريع ضخمة كانت لتمولّها الحكومة، مع خصخصة ممتلكات حكومية، إضافةً إلى إلغاء متسارع للتشريعات والضرائب والرسوم، بل وإنشاء وزارة مخصصة بالكامل لإلغاء التشريعات، وإصلاح عميق للسياسة النقدية.
ورغم أن الإصلاح الاقتصادي، كما أسلفت، يستهدف بالأصل المكاسب المستدامة بعيدة الأمد، فإن نتائج إصلاح ميلي كانت محيّرة في مكاسبها السريعة! فقد هوى التضخم السنوي من 254% قبل تسلّمه الحكم، إلى 39% فقط في منتصف 2025. وعلى أساس شهري، انخفض التضخم من 25% في الشهر السابق لبداية حكمه إلى مستويات 1.5% - 2% خلال آخر ثلاثة أشهر.
ورغم التسريحات الجماعية في القطاع العام، الذي يشكّل ثلثي الموظفين في بعض المقاطعات، وحاجة القطاع الخاص إلى فترة زمنية يستوعب فيها التغيّر ويبدأ التوظيف، فإن معدّل البطالة العام لم يرتفع سوى 0.2% بين الربع الأول من عام 2024 والربع الأول من عام 2025. أما الرواتب، فارتفعت بنسبة أعلى من التضخم، وبالذات في القطاع الخاص. أما الفقر، فقد انخفض من 55% في الربع الأول من 2024 إلى 32% في النصف الأول من 2025، أي خرج 42% من الفقراء من الفقر، وانخفض أيضًا معدّل الفقر المدقع بـ60% تقريبًا، نزولًا من 18.2% إلى 7.4%. وكل ذلك خلال سنة ونصف فقط!
ومن شواهد اقتناع المستثمرين بنجاعة الإصلاحات وآثارها الإيجابية، انخفاض مؤشر مخاطر الائتمان الأرجنتيني من 2500 نقطة قبل انتخاب ميلي، إلى أقل من 900 نقطة بعد عشرة أشهر فقط من حكمه. وكذلك، ارتفعت السندات الدولية الدولارية الأرجنتينية لأعلى مستوى لها في تاريخها، وبالذات سندات 2029 و2030، التي سجّلت ارتفاع 60% بعد حكم ميلي.
وعلى كل ذلك، يتوقع صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أن ينمو الاقتصاد الأرجنتيني في 2025 بـ5.2 - 5.5%.
أظهر هذا النجاح الباهر، رغم تحدياته، عناوين صحفية من قبيل:
هل أثبت ميلي خطأ منتقديه؟ من (Financial Times).
سنة ميلي الأولى تنتهي بتفاؤل. هل سيستمر الزخم الأرجنتيني في 2025؟ من (Atlantic Council).
لماذا يُعد خافيير ميلي أكثر الساسة إثارة للاهتمام اليوم. من (The Australian).
الدروس
لن أفصّل في هذه الفقرة بالدروس الاقتصادية؛ إذ توسّعت المقالة بأكملها في ذلك، فقصّت الرحلة الأرجنتينية بكافة تحولاتها، ولا سيّما فصولها الأخيرة المعبّرة، ولكن ربما الدروس السياسية أيضًا هامة بقدر أهمية الدروس الاقتصادية.
فرغم المكاسب الاستثنائية للأرجنتين بفعل سياسات رئيسها الجديدة، وصل مستوى تأييده إلى 39% هذه الأيام، بعد أن تجاوز 64% مطلع رئاسته، حيث كان وقتها ثاني أعلى رئيس تأييدًا حول العالم بين الرؤساء الذين يقيسهم هذا الاستبيان، بعد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.
السبب خلف هذه المفارقة، وهو بالواقع أكثر ما يهدد إصلاحات ميلي الحالية وأي إصلاحات اقتصادية، هو العراقيل السياسية المتولّدة من الفعل المجتمعي السلبي، غالبًا بفعل التسرّع والحديّة في تطبيق الإصلاحات وترويجها، حتى وإن كانت إصلاحات مفيدة وإيجابية. فالاتجاهات الشعبوية الضارة، تبقى شعبوية، والاتجاهات غير الشعبوية المفيدة، تبقى غير شعبوية، والرفض الشعبوي قادر على تعطيل الإصلاح غير الشعبوي.

فمثلًا، خسر حزب ميلي هذه الأيام مقعدًا هامًّا في البرلمان عن بوينس آيرس، وبهامش كبير وغير متوقع، فضلًا عن التعطيل البرلماني المستمر لمشاريع الرئيس، ولا سيّما مع حيازة حزبه على 10- 20% فقط من مقاعد مجلسي النواب والشيوخ، مما يُجبره على التنازل عن بعض اتجاهاته ومواقفه ليتحالف مع كتل أخرى في تحقيق إصلاحات لا تحققها أوامره التنفيذية وحدها، وبالطبع يقرر نواب تلك الكتل بين التعاون معه أو الإحجام عنه بحسب آراء ناخبيهم فيه. وبذلك، كلّما اتسعت الفجوة بين ميلي وعموم الناس، بفعل حدته وتسرعه، صعُب تحقيق أفكاره وارتفعت فرص فشلها؛ التي ستعني عودة الأرجنتين لمآسيها، وفقدانها الفرصة التاريخية التي تعيشها.
وحتى من المنظور الإصلاحي الاقتصادي، يوفّر الهبوط الناعم (Soft Landing) الفرصة الزمنية اللازمة لتأقلم الاقتصاد مع الإصلاحات، من جانبي العرض والطلب، بالمقارنة مع الهبوط القاسي (Hard Landing).
المخاطر السياسية المحدقة بهذه التجربة الأرجنتينية اللافتة، لا سيّما مع الإرث والنفوذ البيروني الراسخ الذي يخفت ويشتعل كل فترة، قد تُجهض رحلة ميلي في أي وقت، ولكن ليبقى منها درسٌ راسخ: الاتجاه نحو الإصلاح الاقتصادي الصحيح، وهو تحرير السوق، ولكن بهبوطٍ ناعم يتواصل مع الجمهور ويكسبهم بمنطق سياسي وذهنية براقماتية، ليحقق مصلحة الناس بإصلاح اقتصادي مقبول شعبيًّا ومستدام.

كيف تتخيّل بيت العمر؟ 💭
مسكن متكامل ومريح، موقعه قريب من كل شي، وفيه كل شي 🏡✨
موقفك الخاص، مصلى، مقهى،بقالة، صالة رياضية، وترفيهية!
هذي هي تجربة السكن في صفا 🔗
التجربة اللي تسبق الحاضر وتنبض بالحياة 🖼️🥁

فقرة حصريّة
اشترك الآن


في حلقة «الأرجنتين أفشل اقتصاد» من بودكاست جادي، يحلل محمد آل جابر وهادي فقيهي تاريخ الاقتصاد الأرجنتيني وبُنيته، مرورًا بمختلف التحوّلات التي شهدها، لتفهم حالته اللافتة والاستثنائية عالميًّا وتاريخيًّا.
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.


مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.