هل سيستبدل الذكاء الاصطناعي صنّاع الأفلام؟

حاولت نقابات أمريكية، كنقابة الكتّاب ونقابة الممثلين، مواجهة الأزمة عبر إعلان إضرابهم عن العمل، متظلّمين من تدريب شركات الإنتاج نماذجها للذكاء الاصطناعي على أعمالهم.

كل إنتاج سينمائي يحتاج إلى ذلك المخرج أو المنتج الذي يسير على الشوك من أجل الصناعة كلها، فيختار صناعة الأفلام الصعبة ذات الرهان العالي، التي باتت نسب نجاحها اليوم تقل عن نسب نجاح الأفلام التجارية الرائجة.

لكن المأساة تتجلّى عندما يختار كثير من صنّاع السينما اليوم صناعة تلك الأفلام الكوميدية السهلة المضمون نجاحها حاليًّا؛ إذ ستتحول صناعة السينما، على المدى الطويل، إلى «مسخ»!

نايف نجر العصيمي


تصميم: أحمد عيد
تصميم: أحمد عيد

هل سيستبدل الذكاء الاصطناعي صنّاع الأفلام؟

عمر العمران

تخيّل أن تكون فنانًا، كأن تكون مثلًا كاتبًا أو ممثلًا، وتجد ذات يوم أن شركة الإنتاج التي تعمل فيها قد قررت الاستغناء عنك. ولكن، ليس لأنهم وجدوا بديلًا أجود منك، أو أن وظيفتك أو دورك لم يعد مهمًا لهم، بل لأنهم، ببساطة، استنسخوك عبر الذكاء الاصطناعي! ما زالت إضافتك ودورك مهمين، ويصعب أو حتى يستحيل إيجاد بديل عنك، إلا أنهم استغنوا عنك لمجرّد أنهم استنسخوا قدراتك، ودون إذنك.

بعدما أطلقت «OpenAI» النسخة 3.5 من نموذجها الشهير «ChatGPT» في 30 نوفمبر، 2022، فُجّرت ثورة متسارعة لتطوير الذكاء الاصطناعي واستخدامه في شتى المجالات والقطاعات، وليست صناعة الفنون بمعزلٍ عن ذلك، وعندها لم يعد خيال الفقرة الأولى خيالًا، بل عاشه الفنانون واقعًا.

ففي صيف 2023، حاولت نقابات أمريكية، كنقابة الكتّاب (WGA) ونقابة الممثلين (SAG-AFTRA)، مواجهة الأزمة عبر إعلان إضرابهم عن العمل، متظلّمين من تدريب شركات الإنتاج نماذجها للذكاء الاصطناعي على أعمالهم، أو حتى استنساخ أشكالهم وأصواتهم دون إذنهم، وبمقابلٍ مالي يتراوح بين الزهيد أو حتى المعدوم.

ونمّت هذه الأزمة، بتطوّر أحداثها المتسارع، تساؤلًا ضخمًا شغل أذهان الفنانين: هل سيستبدلنا الذكاء الاصطناعي؟ فحسب دراسة لجمعية حقوق نشر المصممين والفنانين (DACS) البريطانية، يخشى 69% من الفنانين من استنساخ الذكاء الاصطناعي لأعمالهم.

في هذه المقالة، سأناقش هذا السؤال، وهذا التخوّف.

الوضع اليوم

رغم التطورات المتسارعة لقدرات الذكاء الاصطناعي الفنية، ما زال القطاع يعتمد اليوم اعتمادًا شبه كليّ على القدرات البشرية في العمليات الفنية كالكتابة والإخراج والتمثيل وغيرها، وهو ما أشار إليه وأكّده بن آفلك.

وبالمناسبة، هذا هو حال الذكاء الاصطناعي اليوم في مختلف المجالات؛ إذ رغم التطوّرات الهائلة والمبهرة خلال السنين الأخيرة، ما زال غير قادر على استبدال البشر في المهام التي تتطلب الحكم، والإبداع، والتكيّف، وفقًا لبحث في كلية (Sloan) من جامعة (MIT).

ولكن، كيف أثّرت تطورات الذكاء الاصطناعي إذن؟ ببساطة، يمكن تقسيم تأثير ظهور أي أداة جديدة إلى نوعين:

  1. أداة معززة لعمل الموظّف ورافعة لكفاءته، دون استبداله. فمثلًا، لم تستبدل الأدوات التعليمية التقنية المعلم، بل عزّزت عمله بتحسين كفاءته. فعندما يستخدم المعلم تلك الأدوات وتصبح مخرجاته معادلة لمخرجات معلمَيْن قبل ظهور الأدوات، فلن يعني هذا الحاجة إلى الاستغناء عن نصف المعلمين بحجة أن النصف الآخر أصبح قائمًا مقامهم، بل يمكن إبقاؤهم جميعًا، والاستفادة من تضاعف المخرجات بسبب استخدام الأدوات، مقارنةً بما قبلها.

  2. أداة تستبدل وظيفة للإنسان، ولكن لا تلغي الحاجة إلى الإنسان كليًّا. فمثلًا، عندما اُخترعت الآلة الحاسبة، وظهر أنها أكفأ وأدق و«أصمل» من البشر الذين كانوا يقومون مقامها، لم نعد نحتاج إلى هذه الوظيفة، وفقدها البشر. ولكن، في المقابل، توجّه من كانوا يشغلونها -أو كانوا ليشغلوها- إلى وظائف أخرى لا تحسنها الآلة، ووجدوا طلبًا عليهم فيها.

أي بلغة اقتصادية: عندما يزيد العرض (إما بسبب دخول أدوات ترفع الكفاءة، أو دخول آلات تؤدي الأعمال) فقد يزيد الطلب معه بالقدر نفسه، وليس بالضرورة أن الطلب سيبقى بعدها على ما هو عليه، وبذلك نحتاج إلى الاستغناء عن الفائض من العرض.

ماذا عن المستقبل؟

وفقًا للفقرة السابقة، ستبقى للإنسان حاجة ووظيفة ما دام يملك قدرة لا تملكها أي أداة بديلة كالذكاء الاصطناعي، بل سيؤدي ظهور تلك الأدوات البديلة إلى توجيهه نحو استغلال قدراته الحصرية، التي لا يمكن لتلك الأدوات محاكاتها، وتحسينِ كفاءته فيها. ولذا، يبقى السؤال: هل سيملك الذكاء الاصطناعي كل قدرات الإنسان؟

سأكون واهمًا إن ادّعيت أن بإمكاني الإجابة عن هذا السؤال. ولست في هذا العجز بمعزل، بل أزعم أن أيّ مختص في الذكاء الاصطناعي والاقتصاد، مهما علا قدره وعظم علمه، لا يمكنه الإتيان بهذا التنبؤ بدقة مقبولة.

وشاهدُ ذلك، التنبؤات الغزيرة التي أطلقها المختصون خلال السنين الأخيرة، والتي لم يفارق معظمها أحد حالتين: تنبؤات متفائلة بإفراط، فيظهر لاحقًا أن التقنية لم تصل إلى القدرة التي توقعوها في الوقت الذي حددوه، أو تنبؤات متشائمة بإفراط، فنُفاجأ بوصول التقنية إلى قدرات توقّعوا أن تستغرق أضعاف الوقت الذي احتاجته.

والسبب المعقول والمتفهّم وراء هذه «العشوائية» هو زخم تطوّر الذكاء الاصطناعي الهائل، الذي يعيق أي قدرة على التنبؤ بوجهته.

ولذا، كلتا الفرضيتين واردة:

  1. يستكمل الذكاء الاصطناعي تطوّره، ويتجاوز البشر في مختلف القدرات.

  2. تستعصي قدرات بشرية معينة على الذكاء الاصطناعي، ويعجز عن امتلاكها مهما تطوّر.

إلا أنني ألاحظ تنامي انتشار الفرضية الأولى، بل وعدَّها الكثير المآل المحتوم، مغفلين الفرص الواقعية للفرضية الثانية، وبالذات في صناعة الفنون. 

ولأنتصر لواقعية الفرضية الثانية سأورد حجتين:

أما الأولى، فهي أنه لا يمكن إثبات أن قدرات الذكاء الاصطناعي ستستمر في التنامي دون توقف. فرغم التطوّرات الهائلة والباهرة، قد يصل الذكاء الاصطناعي إلى حدودٍ لا يمكنه تجاوزها؛ وذلك لأنه يفكّر بآليات وطرق مختلفة كليًّا عن آلية الإنسان وطريقته. ولذا، من المنطقي الافتراض بأن آلياته وطرقه -حتى التي سيبتكرها باحثو الذكاء الاصطناعي في المستقبل- قد لا تتمكن من الوصول إلى نتائج وقدرات يمكن الوصول إليها عبر آلية وطريقة مختلفة، وهي الآلية والطريقة البشرية.

ومن أمثلة اصطدام قطار التطوّر في مجال ما بحدود الطبيعة، ما حصل مع «قانون مور» (Moore's Law)، وهو القائل إن بإمكان البشرية مضاعفة كثافة المقاحل (Transistors) في الرقاقات الإلكترونية كل سنتين. ومن اللافت أن القانون ثبت لأكثر من خمسة عقود، قبل أن يفشل خلال 2015 - 2020. والسبب، ببساطة، أن كثافة المقاحل تنامت أسيًّا عبر العقود، حتى وصلت إلى مرحلة لا يُفصل فيها كل مقحل عن جاره إلا بالمسافة التي تشغلها خمس إلى عشر ذرات فقط! ويناقض هذا أي افتراض سطحي بأن أي تطوّر بإمكانه دائمًا الاستمرار دون توقف.

وأما الحجة الثانية، فهي تفكيك «الطلب» وفهمه في الفنون. فعندما اُخترعت الآلة الحاسبة، كان من المنطقي استخدامها بدلًا من «الإنسان الحسّاب»؛ إذ المطلوب مجرّد إتمام عملية منطقية ما، وما دامت الآلة قادرة على ذلك بكفاءة أعلى، فلا داعي لبقاء الإنسان في منافسة غير عادلة معها.

ولكن، هل يطلب مستهلكو الفنون منتجًا ما بسبب نتيجته النهائية وحسب، أم يشترطون المكوّن البشري فيه؟ ولأستوضح ذلك، اسأل نفسك: لو تمكّن مهندسو الروبوتات من صنع روبوتات تفوق اللاعبين البشر في مختلف المهارات والقدرات المطلوبة في اللاعبين، فهل ستختفي وظائف اللاعبين البشر، وسيشاهد متابعو كرة القدم روبوتات تلاعب بعضها؟

وكذلك، ما زال الملايين يشاهدون مباريات الشطرنج بين اللاعبين البشر، رغم أن الذكاء الاصطناعي هزم في 1997 (قبل ثمانٍ وعشرين سنة) مصنّف البشر الأول في الشطرنج آنذاك: قاري كاسباروف. أما اليوم، فلا تتنافس نماذج الذكاء الاصطناعي في الشطرنج إلا مع بعضها؛ إذ إن الفجوة بين قدراتها وقدرات البشر ضخمة، وتزداد تضخمًا بمرور الوقت.

والأمر ذاته مع بقاء -بل وتنامي- الصناعات اليدوية، رغم تأخرها عن قدرات الأتمتة. ولم يعنِ تجاوز التقنية قدراتِ البشر في فن ما انتفاءَ وظائف الفنانين والحاجة إليهم فيه. فالبشر عندما يستهلكون الفنون يبحثون عن الارتباط البشري فيها، لا المنفعة المادية المباشرة كما يفعلون عندما يستهلكون ما يلزمهم للبقاء. 

ما العمل؟

إن كنت فنانًا، فلا تُشغل بالك بالتنبؤات العبثية لمستقبل قدرات الذكاء الاصطناعي. في المقابل، تنبّه لنقطتين:

  • يوسّع ظهور الأدوات الجديدة -كالذكاء الاصطناعي- الفجوة بين من يغفلها، ومن يحسن استغلالها في تحسين كفاءة عمله وتعظيم مخرجاته. والذكاء الاصطناعي، وإن كان مختلَفًا في قدرته مستقبًلا على استبدال البشر بالكلية، إلا أنه حتمًا أداة مساعدة بالغة الفعالية في تحسين الكفاءة وتعظيم المخرجات. ولذا، لا تتأخر في استكشاف واستخدام كل الطرق والقدرات التي يمكن أن يفيدك فيها بصورة ملموسة.

  • وحتى وإن افترضنا أن الذكاء الاصطناعي لن يستبدل جميع وظائف البشر، وهي الفرضية الثانية المشار إليها آنفًا، فإنه من المحتّم أنه سيلغي بعض الوظائف في كل قطاع، وهذا يُرى اليوم رأي العين. ولذا، اتّجه نحو الوظائف التي يعجز -أو غالبًا سيعجز- الذكاء الاصطناعي عن محاكاتها.

من البداية، لم يكن الغرض من هذه المقالة الإجابة عن السؤال في عنوانها، بل كما ذكرت في بدايتها: أن أناقش السؤال، وأحلّل ذاك التخوّف؛ لأضع مختلف الفرضيات المحتملة. والأهم: أن تجد خطوات عملية بوسعك أن تسلكها، لتكون متوافقًا ومتلائمًا مع التحولات الضخمة التي يسبّبها الذكاء الاصطناعي في كل قطاع، والفنون حتمًا منها.


فِلم Terminator 2: Judgment Day»  (1991)»
فِلم Terminator 2: Judgment Day» (1991)»

  • يُعرض اليوم الخميس في صالات السينما السعودية فِلم الرعب «Bring Her Back»، من إخراج الأخوين داني ومايكل فيليبّو. ويحكي الفِلم عن فتاة كفيفة تُحتجز مع شقيقها لدى أم حاضنة غامضة تحاول عبر طقس مروّع استرجاع ابنتها المتوفاة. ويُعدّ الفِلم ثاني تجربة إخراجية للثنائي بعد فِلمهما «Talk To Me».

  • كما يُعرض في اليوم نفسه فِلم «سِوار»، من إخراج أسامة الخريجي. والفِلم مستلهم من أحداث حقيقية لطفلين حديثي الولادة، أحدهما سعودي والآخر تركي، جرى تبديلهما بالخطأ في المستشفى. وبعد مرور سنوات وبناء كلٍّ منهما حياة مختلفة، تكشف فحوصات الحمض النووي الحقيقة.

  • عرض استديو (NEON) فِلم «TOGETHER» باستخدام تقنية تمسح توسّع حدقة العين، وقد رصدت التقنية مشاعر الصدمة والحماس والخوف لدى الجمهور خلال 86% من مدة العرض.

  • أُصدر إعلان تشويقي جديد لمسلسل «Pluribus» من ابتكار فينس قيليقان، صانع «Breaking Bad»، وسيُعرض المسلسل في 7 نوفمبر على «+Apple TV».


فِلم «Tron: Legacy»
فِلم «Tron: Legacy»

حين أُطلق فِلم «Tron: Legacy» عام 2010، لم يكن الهدف استكمال قصة الفِلم الصادر في الثمانينيّات بقدر ما كان استدعاء لعالمٍ كامل وإعادة بنائه بصريًّا وصوتيًّا. وتتبع القصة «سام فلين»، ابن المبرمج الأسطوري «كيفن فلين»، الذي يكتشف أن والده محاصر في شبكة رقمية بناها بنفسه. وعند دخوله إليها، يجد نظامًا مغلقًا يُدار بقواعد خاصّة.

لا يمكن تصديق هذا العالم ولا «تذوّقه» دون صوت يُماثله في الدقة. فكانت الموسيقا هنا ذات دور رئيس، بل هي من خلقت الصورة وألهمت صناعة عالم الفِلم، فكان لكل مشهد وصورة تناظر صوتي موازٍ لهما.

الثنائي وراء الإيقاع

اختيار (Daft Punk) لتأليف الموسيقا التصويرية بدا مفاجئًا في حينه، لكنه لم يكن غريبًا تمامًا. فالفرقة كانت قد خاضت تجارب فنيّة تتقاطع مع السينما؛ منها فِلم «Interstella 5555» الصادر عام 2003، الذي استند بالكامل على ألبومها «Discovery»، والذي عُرض كمزيج بين فِلم خيال علمي وفيديو كليب طويل. كما أخرجت الفرقة لاحقًا عام 2006 فِلمًا صامتًا بعنوان «Electroma»، اعتمد بالكامل على الصورة والإيقاع. 

لكن أحد ثنائي الفرقة، توماس بانقالتير، كان قد عمل على تصميم الصوت والموسيقا لفِلمي «Enter the Void» و«Irréversible». ومع أن كل تلك التجارب لم تكن سينمائية بالمفهوم الكلاسيكي، لكنها كانت تؤهلهما لصناعة عالمٍ صوتي لفِلم خيال علمي مثل «Tron».

من المقطوعة يبدأ المشهد

لم يُطلب من الثنائي تأليف موسيقا تُركّب على الصورة، بل موسيقا تُلهم الصورة ذاتها. فبدآ العمل منذ عام 2008، وصاغا أكثر من ثلاثين مقطوعة خضعت بعضها للتعديل لاحقًا وفق احتياجات التحرير. وقد صرّحا لاحقًا أن هذه التجربة استغرقت منهما تسعة عشر شهرًا، تعلّما خلالها فنّ تأليف الموسيقا السينمائية من الصفر.

ولتحقيق توازن بين الطابع السينمائي والبُعد الإلكتروني، استعان الثنائي بالموزّع الأمريكي جوزيف ترابانيز، الذي أشرف على تسجيل أوركسترالي حي، استُخدمت فيه آلات وترية وكلاسيكية، وأُضيفت طبقات من السنثات مثل (Prophet‑5) و(Roland Jupiter‑6)، مع برمجيات تحاكي الأصوات الرقمية القديمة.

مقطوعات خالدة

المقطوعة التي تفتتح الجزء الرقمي من الفِلم، مع صوت الراوي «كيفن فلين». وتبدأ بنغمة هادئة تُشبه تنفس آلة، يليها نبض إلكتروني يتصاعد تدريجيًّا. والبنية بسيطة في ظاهرها، لكنها متدرجة بنحو يحاكي انفتاح الشبكة الرقمية أمام المُشاهد، وكأننا نُحمّل النظام لحظة بلحظة.

المقطوعة الأشهر والأكثر انتشارًا خارج سياق الفِلم. وتُستخدم في أثناء معركة في الحلبة الرقمية، وتعتمد على إيقاع إلكتروني متسارع. وتُحاكي بُنيتها الصوتية انهيار كود برمجي، مع ضغط صوتي مستمر يجعلها أقرب إلى موسيقا ألعاب الفيديو، لكن بإنتاج سينمائي مكثّف.

تأتي في مشهد الحانة التي يديرها «زيوس». وتبدأ بطبقة صوتية تُشبه صوت كهرباء هامسة في فراغ، ثم تدخل طبقة إيقاعية راقصة، تُذكّر بموسيقا الديسكو. وتُجسّد هذه المفارقة الصوتية طبيعة المكان بوصفه مساحة غير خاضعة لقوانين النظام في عالم مصمَّم على الانضباط.

عبد العزيز خالد


Giphy / فِلم «Indiana Jones and the Dial of Destiny»
Giphy / فِلم «Indiana Jones and the Dial of Destiny»

أثار فِلم «Indiana Jones and the Dial of Destiny» الصادر عام 2023 نقاشًا واسعًا بعد استخدام تقنية ذكاء اصطناعي لتجسيد وجه هاريسون فورد في مشاهد تعود إلى الثلاثينات من عمره. فبينما انبهر البعض بالدقّة التقنية، رأى آخرون أن ما عُرض على الشاشة بدا «مصطنعًا». 

لكن هذا الانقسام لم يأتِ من فراغ، بل بسبب تراكم محاولات فاشلة لمحاكاة البشر رقميًّا. وأبرزها ما حدث في هذا المشهد من فِلم «The Mummy Returns» الصادر عام 2001، من إخراج ستيفن سومرز، وتوزيع شركة يونيفرسال. وقد بلغت ميزانيته نحو 100 مليون دولار، لكنها لم تُنقِذه من كارثة بصرية لا تُنسى. 

في هذا المشهد، يُستدعى الملك العقرب أخيرًا من العالم السفلي في شكل هجين، نصف إنسان ونصف عقرب، برأسٍ يُفترض أنه يُجسّد دوين جونسون. والبداية كانت واعدة، إذ ظهر بظلال سوداء خلف بوابة المعبد؛ ضخمًا ومهيبًا. لكن ما إن تحرّك حتى تلاشت كل تلك الهيبة، ليظهر مخلوق مكوّن من كتلة رقمية مشوّهة، جلده لامع أشبه بتمثال شمعي، يخلو وجهه من أي تعبير، وعيناه ثابتتان بطريقة تُشبه شخصيات ألعاب الفيديو.

يُوصف هذا المشهد بأنه «الأسوأ في تاريخ أفلام البلوكبستر». حتى مشرف المؤثرات البصرية في (ILM)، جون بيرتون جونيور، أقرّ لاحقًا أن هذا المشهد يُعد «أسوأ لقطة VFX» أشرف عليها في مسيرته. وأعاد السبب -جزئيًّا- إلى أن الفريق لم يمتلك صورًا مرجعية كافية لوجه دوين جونسون، فاضطر إلى استخدام بضع صور فوتوغرافية لبناء النموذج دون أي تسجيل حركي.

ولعلّ من المفارقات أن فشل المؤثرات البصرية في مشهد الملك العقرب -رغم ميزانية الفِلم التي تجاوزت 100 مليون دولار- قد يكون أحد الأسباب غير المباشرة التي دفعت الصناعة لاحقًا لاستخدام أدوات أقل تكلفة وأكثر كفاءة وسهولة، مثل الذكاء الاصطناعي، لفهم البنية الحركية لعضلات الوجه، والتقاط الانفعالات، ومنح الشخصيات الرقمية حضورًا أكثر إقناعًا. فالمسألة لم تعد مجرّد «رسم وجه»، بل محاكاة الحياة فيه. ومع كل تطوّر تحققه الصناعة في هذا المجال، يبقى مشهد الملك العقرب شاهدًا دائمًا على أن «الجودة لا تُشترى».

عبد العزيز خالد


فقرة حصريّة

آسفين على المقاطعة، هذه الفقرة خصصناها للمشتركين. لتقرأها وتستفيد بوصول
لا محدود للمحتوى، اشترك في ثمانية أو سجل دخولك لو كنت مشتركًا.

اشترك الآن

في السبعينيّات، قرأ ستانلي كوبريك قصة قصيرة بعنوان «Supertoys Last All Summer Long» للكاتب براين ألديس. وتدور القصة حول روبوت يبدو طفلًا حقيقيًّا من الخارج، لكنه مرفوض من أمه، وغير قادر على فهم سبب هذا الرفض.

انجذب كوبريك للمفارقة في القصة وقرر العمل على مشروعٍ مبني عليها. فجلب عدة كُتّاب على مدى سنوات، مثل ألديس نفسه، ثم الكاتب البريطاني بوب شو، وأخيرًا إيان واتسون، الذي كتب معالجة مطوّلة تتجاوز تسعين صفحة بناءً على حوارات يومية مع كوبريك امتدت لأشهر.

لكن تقنية المؤثرات البصرية كانت أحد أكبر العوائق في المشروع آنذاك، إذ كيف يمكن إقناع الجمهور بأن هذا الطفل ليس إنسانًا؟ لم يكن كوبريك مقتنعًا بفكرة استخدام ممثل بشري، ودرس إمكانية تصميم شخصية رقمية بالكامل، لكن التقنيات لم تكن ناضجة بعد.

وبعد عرض فِلم «Jurassic Park» عام 1993، شعر كوبريك أن التقنيات بدأت تقترب مما يحتاج إليه، لكنه، مع الوقت، رأى أن البُعد الإنساني في القصة لن ينجح بأسلوبه الجاف والمتأمل. لذلك، قرر في عام 1995 أن يمنح المشروع للمخرج ستيفن سبيلبرق.

وبهذا السياق نستهلّ فقرة «دريت ولّا ما دريت» عن فِلم «A.I. Artificial Intelligence» الصادر عام 2001:

  • سلّم كوبريك إلى سبيلبرق معالجة قصصية مفصّلة، شملت بناء القصة من بدايتها وحتى نهايتها، إضافةً إلى تصميمات مفهومية ورسومات أولية. وبعد وفاة كوبريك، كتب سبيلبرق السيناريو بنفسه في غضون أسابيع، لكنه حرص على أن يبقى وفيًّا لهيكل القصة الذي وضعه كوبريك، مستخدمًا كثيرًا من أفكار إيان واتسون الأصلية.

  • من أكثر اللحظات المثيرة للجدل كانت نهاية الفِلم، التي وُصِفت بأنها «نهاية سبيلبرقية» مفرطة في العاطفة، لكن واتسون دافع عنها وقال إنها صُوّرت كما كتبها هو بناءً على تعليمات كوبريك دون تعديل. وأكد سبيلبرق لاحقًا أن المشاهد السوداوية في منتصف الفِلم، مثل مشهد «سوق اللحم»، كانت من إضافاته، في حين كانت المشاهد الأولى التي ترسم علاقة «ديفيد» مع «الأم» و«تيدي»، وكذلك الخاتمة، من معالجة كوبريك.

  • لأجل إخراج الفِلم، رفض سبيلبرق مشاريع ضخمة كان مرشحًا لها في الوقت نفسه، منها «Harry Potter and the Sorcerer’s Stone» و«Jurassic Park III».

  • كان عنوان الفِلم في البداية «A.I.» فقط، لكن اكتشف المنتجون أن بعض الجمهور قرؤوها مثل صلصة اللحم «A1»، فاعتمدوا الاسم الكامل «A.I. Artificial Intelligence».

  • لتجسيد عالم الروبوتات المكسورة، استعان طاقم الفِلم بممثلين مبتوري الأطراف، ومنحوا الشخصيات الآلية واقعية جسدية لا يمكن خلقها بالمؤثرات البصرية وقتها.

  • كان يُطلب من هايلي جويل أوسمنت، مؤدي دور «ديفيد»، حلاقة وجهه وذراعيه يوميًّا لإزالة أي شعيرات؛ لمنحه ملمسًا أشبه بالبلاستيك أمام الكاميرا.

  • لم يحذف سبيلبرق مشاهد أبراج مركز التجارة العالمي، مع أن الفِلم صدر في صيف 2001، قبل أحداث سبتمبر بثلاثة أشهر فقط. وعلى الرغم من الضغوطات، قرر إبقاءها في نسخة الـ(DVD)، مؤمنًا بأن المستقبل الذي تصوَّره الفِلم يجب أن يظل كما هو.

  • بالرغم من اعتماد القصة الأصلية على قصة قصيرة، تأثر الفِلم بعمقٍ بقصيدة «The Stolen Child» للشاعر ويليام بتلر ييتس، وظهرت مقتطفات منها داخل الفِلم، خاصة في نهاية «ديفيد» عندما تأخذه «الجنيّات» بعيدًا عن عالم البشر.

  • في مشهد يمر فيه «ديفيد» بمدينة «روج سيتي»، تظهر لافتة تحمل اسم «بار الحليب»، وهي تحية لفِلم كوبريك «A Clockwork Orange».

عبد العزيز خالد

النشرة السينمائية
النشرة السينمائية
أسبوعية، الخميس منثمانيةثمانية

مقالات ومراجعات سينمائية أبسط من فلسفة النقّاد وأعمق من سوالف اليوتيوبرز. وتوصيات موزونة لا تخضع لتحيّز الخوارزميات، مع جديد المنصات والسينما، وأخبار الصناعة محلّيًا وعالميًا.. في نشرة تبدأ بها عطلتك كل خميس.

+20 متابع في آخر 7 أيام