أين ستتجه حرب إيران وإسرائيل
دول الخليج تخشى من الانهيار الإيراني، ليس حبًّا لطهران، بل خشية من الفوضى وتفكك الدولة.


يعيش الشرق الأوسط، مرة أخرى، مرحلةً حرجة وحساسة، سيتمخّض عنها شرق أوسط جديد بتوازنات مختلفة.
يحلّل هذا العدد التطوّرات الاستثنائية الأخيرة من مختلف جوانبها، كالدوافع الجذرية لحالات التصعيد الأخيرة، والتوازنات الحالية بين إيران وإسرائيل، والمآلات المحتملة التي قد يستقر عليها الشرق الأوسط.
عمر العمران


نشهد تطورات غير مسبوقة وسريعة في مسار الصراع الإيراني - الإسرائيلي، في منطقة تعيش حالة توتر منذ عقود. فجر الجمعة من الأسبوع الماضي، شنّت إسرائيل هجومًا جويًّا واستخباراتيًّا واسع النطاق على أهداف داخل إيران، استهدفت فيه مواقع لتخصيب اليورانيوم، ومقرات للقيادة العسكرية، وعددًا من كبار القادة والعلماء النوويين. الهدف المعلن من وجهة نظر إسرائيلية هو منع إيران من امتلاك سلاح نووي، لكن السياق الاستراتيجي أوسع بكثير، ويشمل سعيًا واضحًا لتفكيك منظومة الردع الإيرانية وإعادة رسم توازنات المنطقة.
التحركات الإسرائيلية، وفق رؤية استراتيجية، لا تقتصر على إضعاف النظام الإيراني الحالي فحسب، بل تتجاوز ذلك نحو تقويض هيكل الدولة الإيرانية بوصفها قوة إقليمية فاعلة. تستهدف إسرائيل، حسب تصريحات مسؤولين إسرائيليين وغربيين، تفكيك أسس الحكم الإيراني بقيادة علي خامنئي، ودفع الدولة نحو حافة الانهيار الداخلي. هذا التوجه يعكس استراتيجية «تفريغ القوة»، التي تتجاوز مسألة «تغيير النظام» نحو خلق حالة من التفكك الداخلي، تُقلّص قدرات إيران على تشكيل تهديدات مستقبلية لإسرائيل، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي المقبل.
المتضح من سياق الأحداث في الأيام القليلة الماضية أن الهدف الإسرائيلي هو إبقاء إيران في حالة من الضعف الدائم، عبر تحجيم قدراتها العسكرية والنووية والسياسية إلى حد كبير، ما يجعلها عاجزة عن ممارسة نفوذ إقليمي واسع النطاق. ويعكس ذلك إدراك إسرائيل لتجارب سابقة في المنطقة مثل العراق وسوريا وليبيا، حيث أدى انهيار الدولة إلى عقود من عدم الاستقرار. وهو سيناريو، مع خطورته على الإقليم، ترى فيه إسرائيل فائدة استراتيجية تتمثل في ضمان عدم تشكّل دولة مركزية إيرانية قادرة على تحديها مستقبلًا.

هذه الاستراتيجية، مع فعاليتها في المدى القصير من وجهة نظر إسرائيلية، تحمل في طياتها مخاطر استراتيجية أوسع، أبرزها: احتمالية إحداث فراغ أمني واسع النطاق، وتحويل إيران إلى دولة فاشلة. وهذا السيناريو، كما تُظهر التجارب التاريخية القريبة، قد يؤدي إلى فوضى إقليمية واسعة النطاق تمتد تداعياتها إلى دول الخليج والولايات المتحدة، في حين تبقى إسرائيل بعيدة نسبيًّا عن الآثار المباشرة لهذا الفراغ.
في الوقت نفسه، تظهر بعض التحليلات الاستخباراتية الغربية -وليس كلها بل هناك خلاف في هذا الملف- بافتراض أن إيران قريبة جدًا من تطوير سلاح نووي، وهو ما يُبرر من وجهة النظر الإسرائيلية التصعيد الحالي بوصفه ضرورة استراتيجية عاجلة تلغي أي أهمية للمخاطر الأخرى.
من الأذرع إلى الرأس
الضربة لم تكن ممكنة لولا تفكك شبكة الوكلاء التي بنتها إيران على مدى عقود لتكون خط دفاع أول. حزب الله، الذراع الأقوى والأخطر والمُسلّح بأكثر من 150,000 صاروخ، تراجع بعد ضربات موجهة أصابت قياداته، وشلّت نحو 70 - 80% من قدراته العسكرية، بحسب تقديرات معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي. كما فشل في منع تعيينات حكومية لبنانية معادية له، ويواجه الآن صعوبات في إعادة بناء نفسه وسط انهيار العلاقة القديمة مع نظام الأسد، الذي كان الممر اللوجستي الحيوي بين طهران وبيروت.

في المقابل، حماس باتت مُنهكة بعد أشهر من المعارك، وتدرك أنها لم تعد قادرة على الاعتماد على دعم إيراني مستمر، خصوصًا إذا ما تُوصِّل إلى تسوية بين طهران والغرب. أما الحوثيون، فمع استمرارهم في إطلاق الصواريخ، إلا أن علاقتهم بطهران ليست تبعية تامة؛ فهم يتصرفون وفق مصالحهم الذاتية، ويعيدون الآن حساباتهم، خصوصًا بعد تلقيهم ضربات إسرائيلية وأمريكية وتعرض ترسانتهم لأضرار ملحوظة. كما أنهم يسعون للحصول على مساعدات عسكرية من موسكو وبكين، ما يعكس براغماتيتهم ويضعف فكرة انضوائهم الكامل تحت المحور الإيراني.
والميليشيات الشيعية في العراق والهلال الخصيب، لم تُبدِ حتى الآن استعدادًا للتصعيد، بل تراجعت إلى نمط حذر، مدفوعة بمصالح اقتصادية وسياسية محلية. و«الحشد الشعبي»، الذي كان يضم أكثر من سبعين ميليشيا في ذروته، تقلّص إلى النصف، وبعض فصائله أصبح يميل إلى التنسيق مع الحكومة العراقية بدلًا من المواجهة مع واشنطن أو إسرائيل.
غياب «محور المقاومة» بهذا الشكل، وخوف وكلائه من دفع أثمان باهظة في صراع مباشر، حرم إيران من أذرعها الخارجية في اللحظة الحاسمة. وبهذا، بات البرنامج النووي الأداة الأخيرة للردع، ليس فقط لمنع الضربات، بل للحفاظ على ما تبقى من هيبة إقليمية. لكن الضربة الإسرائيلية نفسها غيّرت طبيعة هذا البرنامج: فبعد أن كان سلاحًا تفاوضيًّا، تحوّل إلى مسألة بقاء. وباتت طهران الآن تنظر إلى السلاح النووي على أنه ضرورة استراتيجية لحماية النظام، وليس فقط ورقة ضغط.
إيران: صمود النظام ومخاطر الفوضى
إيران الآن هي الهدف المركزي في استراتيجية إسرائيل، إذ تخوض لأول مرة مواجهة مباشرة مع «الرأس» وليس مع «الأذرع»، ما يمثّل تحولًا جوهريًّا في استراتيجية المواجهة الإسرائيلية، من التعامل مع التهديدات الحدودية إلى استهداف مصدر هذه التهديدات ذاته. هذه المهمة ليست سهلة؛ فإيران دولة ذات مساحة واسعة مترامية الأطراف، وتضاريس جبلية معقدة تُصعّب من فعالية العمليات العسكرية التقليدية، وسكان يتجاوز عددهم تسعين مليونًا، يشكّلون مجتمعًا واسع التنوع ثقافيًّا وعرقيًّا، قادرًا على الاستجابة بصورة غير متوقعة وغير موحدة في حالة حدوث انهيار مفاجئ للنظام.
على المستوى القيادي، تتمتع طهران بخبرة استراتيجية طويلة في التعامل مع الضغوط والعقوبات الدولية، ونجحت تاريخيًّا في تحويل هذه الضغوط إلى عنصر تعزيز للتماسك الداخلي وتعميق التعبئة السياسية. واستطاعت القيادة الإيرانية المزج بذكاء بين تعبئة دينية قائمة على خطاب المظلومية الشيعية التاريخية، وتعبئة قومية ترتكز على الهوية الفارسية وإرثها الحضاري، وهو ما خلق إطارًا متماسكًا من الدعم الشعبي، أو على الأقل من التردد في الانقلاب عليها انقلابًا جماعيًّا ومنظمًا.
ومع وجود حالة تململ وتوتر داخلي ملموس من السياسات الاقتصادية والاجتماعية للنظام الإيراني، فإن هذا التوتر لم يُنتج معارضة سياسية منظمة قادرة على تقديم بديل سياسي حقيقي ومستدام. هذه النقطة تحديدًا تضعف احتمالات حدوث انهيار سريع للنظام، وتجعل من السيناريوهات المراهنة على تفكك القيادة الحالية أمرًا غير واقعي.
من زاوية أخرى، وعلى الرغم من الإنجازات الاستثنائية للعمليات العسكرية الإسرائيلية حتى اللحظة، أظهرت إيران مرارًا قدراتها العالية على امتصاص الضربات العسكرية وإعادة البناء السريع لمنشآتها وبناها التحتية، ما يعكس الاستراتيجية الإيرانية التي تعتمد على الصمود طويل الأمد بدلًا من المواجهة التقليدية السريعة.
كذلك، فإن غياب معارضة إيرانية موحدة وفعالة، وعدم وجود مؤشرات واقعية على تصدعات جديّة في هيكل الحرس الثوري الذي يُشكّل العمود الفقري للنظام، يجعل احتمالية انهيار النخبة الحاكمة بعيدة المنال. هذا الواقع يثير قلقًا إقليميًّا حقيقيًّا، إذ يخشى العديد من المسؤولين أن أي انهيار مفاجئ للدولة الإيرانية لن يؤدي إلى ديمقراطية أو استقرار، بل إلى تفكك سياسي واجتماعي، قد يتحول إلى حرب أهلية شبيهة بما شهدته سوريا والعراق وليبيا، مع تداعيات عابرة للحدود تمتد من أذربيجان شمالًا حتى باكستان شرقًا.
من الناحية الاستراتيجية الإيرانية، يُنظر إلى محاولات الإذلال أو فرض الاستسلام الكامل، وتحديدًا استهداف شخصية المرشد الأعلى علي خامنئي، على أنها خطر وجودي يدفع بالقيادة الإيرانية نحو خيارات متطرفة مثل المواجهة الشاملة. هذه الحسابات الدقيقة عبّر عنها خامنئي نفسه، عندما حذر من أن أي تدخل عسكري خارجي قد يؤدي إلى «أضرار لا يمكن إصلاحها»، ما يؤكد أن إيران، رغم ضعف موقفها الحالي، قد تجد في التصعيد الكامل فرصتها الأخيرة للحفاظ على الهيبة والوجود.

في ظل هذه المعطيات الاستراتيجية المعقدة، فإن النجاح الإسرائيلي في تعطيل المشروع النووي الإيراني، حتى الآن، قد يؤدي إلى رد فعل عكسي يدفع إيران إلى تسريع ملحوظ في وتيرة مشروعها النووي. إيران اليوم لم تعد ترى في مشروعها النووي مجرد ورقة تفاوض سياسية، بل ضرورة حيوية لاستمرار النظام. وبذلك، فإن هذه الظروف تفرض على إسرائيل ضرورة إعادة تقييم أهدافها البعيدة، والسعي للخروج من هذا الصراع بأقل الخسائر ودون التورط في حرب استنزاف طويلة؛ قد تستنزفها عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وتحوّل إنجازاتها العسكرية الحالية إلى تحديات مستقبلية أكثر تعقيدًا وخطورة.
طبيعة الشعب الإيراني وتماسكه الداخلي
يتسم المجتمع الإيراني بتنوع واختلاف ثقافي وعرقي عميق، وهو ما ينعكس في ردود فعله المتباينة تجاه احتمالات انهيار الدولة. وتضمّ إيران أقليات قومية مثل الأكراد والأذريين والبلوش والعرب. والكثير من القوميات لديها تاريخ طويل من النزاعات مع الحكومة المركزية وحنق كبير على النظام، ما قد يؤدي إلى مطالب انفصالية أو اضطرابات داخلية حادة في حالة انهيار النظام.
ومع ذلك، يمتلك جزء كبير من الشعب الإيراني حسًّا قوميًّا قويًّا يدفعه في الغالب إلى رفض التدخلات الأجنبية أو الاعتداء على سيادة البلاد. والتجارب التاريخية، مثل انقلاب عام 1953 ضد حكومة محمد مصدق والدعم الغربي لنظام الشاه، لا تزال حية في الذاكرة الجمعية الإيرانية، وتعزز من التماسك القومي عند مواجهة تهديد خارجي. وتجارب الاحتجاجات الشعبية الأخيرة مثل احتجاجات عام 2009، «الثورة الخضراء»، و2019، أظهرت أنه مع التوترات الداخلية المتكررة والاحتجاجات الواسعة، لم تفرز هذه التحركات معارضة سياسية موحدة يمكن الاعتماد عليها بديلًا حقيقيًّا للنظام الحالي.
أما سيناريو اغتيال المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي طرحته بعض الدوائر الإسرائيلية بوصفه وسيلة لإنهاء «الفكر الديكتاتوري» وفتح المجال أمام قيادة جديدة ديمقراطية، فقد يكون مغامرة محفوفة بالمخاطر. فالتاريخ القريب يؤكد أن سقوط القادة الاستبداديين في الشرق الأوسط لم يؤدِ إلى ديمقراطية، بل إلى مزيد من الفوضى والاضطراب. وعلى هذا، فإن افتراض أن اغتيال خامنئي سيؤدي بالضرورة إلى نظام أفضل أو استقرار طويل الأمد يبقى تبسيطًا خطيرًا ومعرّضًا لسوء التقدير الاستراتيجي.
في النهاية، يبقى التساؤل الأكبر: مَن سيحكم إيران بعده؟ وهل سيحافظ الحرس الثوري على سلطته وتحالفه مع المؤسسة الدينية، أم سيُحدث الاغتيال انفجارًا داخليًّا لا يمكن السيطرة عليه؟
إسرائيل: انتصار هش
إسرائيل من جهتها، تتحرك دون قيود استراتيجية، مستغلة الزخم العسكري والدعم الغربي. لكنها في الوقت نفسه، تعاني من هشاشة داخلية بعد حرب طويلة في غزة، واستنزاف قوى الاحتياط والمجتمع. وتركز خطابات القادة على مفردات البقاء والوجود والضرورة التاريخية، في محاولة لتوحيد الجبهة الداخلية خلف الجيش، لا خلف الحكومة. كما أن المعارضة السياسية تدعم العملية العسكرية دون دعم مباشر لنتنياهو، كما قال يائير لابيد: «نحن لا نصطف خلف الحكومة، بل خلف الضرورة.» لكن هذا لا يخفي التناقض العميق بين الرغبة الشعبية في إنهاء الحروب، والمسار السلطوي الذي يعيد إنتاج دائرة الصراع.

ومع الإنجازات العسكرية الكبيرة التي حققتها إسرائيل، بما فيها اغتيال كبار القادة الإيرانيين وتحقيق سيطرة جوية متقدمة فوق إيران، فإن قدرة إسرائيل على الاستمرار بالوتيرة نفسها تواجه قيودًا استراتيجية ولوجستية واضحة. فإسرائيل دولة أصغر من إيران، وكل يوم إضافي من المواجهة يرفع من كلفة الحرب، مع استهلاك كبير للصواريخ الاعتراضية والذخائر المتطورة، ما يضع إسرائيل أمام خطر حقيقي من الاستنزاف الاقتصادي والعسكري. كما أن غياب خطة خروج واضحة من هذا الصراع يزيد من خطورة التورط في حرب استنزاف طويلة الأمد، خصوصًا مع تراجع الدعم الدولي الذي بات يحمّل إسرائيل مسؤولية انتهاكات جسيمة في غزة، ويهدد صورتها الدبلوماسية عالميًّا.
من جانب آخر، فإن إطالة أمد الصراع تضعف إنجازات إسرائيل وتجعلها عُرضة لتراجع الفاعلية العسكرية مع مرور الوقت. هناك إدراك متزايد داخل المؤسستين العسكرية والسياسية الإسرائيلية لضرورة وضع سقف زمني للعملية، استباقًا للوصول إلى نقطة الاستنزاف التي لا رجعة فيها. في هذا السياق، يصبح التحرك الإسرائيلي نحو اتخاذ خطوات أحادية الجانب، مثل إعلان وقف إطلاق نار تكتيكي، أحد الخيارات الاستراتيجية الممكنة التي تتيح إعادة التفاوض مع إيران عبر الوساطة الأمريكية، دون التضحية بالقدرة على استئناف العمليات العسكرية عند الضرورة.
في الداخل الإسرائيلي، هناك قلق عميق من اتساع خطير في نطاق أهداف الحرب، حيث انتقلت الأهداف من منع التهديد النووي إلى استهداف بنى تحتية مدنية وعلمية، مثل المحطات التلفزيونية والجامعات ومنشآت في منطقة أراك النووية. هذه الاستراتيجية، التي قد تبدو ناجحة عسكريًّا في المدى القصير، تحمل في طياتها مخاطر كبرى، أبرزها: تعميق حالة الانفصال عن الواقع لدى القيادة السياسية، وتجاهل الأزمات الداخلية المتفاقمة في غزة، وتكاليفها الإنسانية والسياسية الثقيلة.
حدود القوة الجوية الإسرائيلية
تعتمد إسرائيل في هذه الحرب اعتمادًا رئيسًا على القوة الجوية لتحقيق نصر استراتيجي دون الانخراط في عمليات بريّة موسعة؛ نظرًا لمحدودية إمكاناتها مقارنة بإيران. لكن التاريخ العسكري يشير إلى أن القوة الجوية وحدها لم تحقق نصرًا استراتيجيًّا حاسمًا ومستدامًا قط. والحروب السابقة، مثل حملة الناتو في كوسوفو وعملية «عاصفة الصحراء» في العراق، تؤكد أن العمليات الجوية قد تحقق تفوقًا عسكريًّا مؤقتًا وتدمر البنى التحتية الحيوية، لكنها لا تستطيع بمفردها فرض استقرار طويل الأمد أو تغيير جذري في الأوضاع السياسية، وهو ما يتطلب عادةً تدخلًا بريًّا أو مسارًا سياسيًّا واضحًا ومقبولًا من الأطراف المتنازعة.
يعتمد صانعو السياسات الإسرائيليون اعتمادًا كبيرًا على قدرة القوة الجوية مع دعم محدود من القوات الخاصة، لكن هذا النهج له قيود كبيرة؛ فالقوة الجوية قد تؤدي إلى تدمير مادي للمنشآت، لكنها لا تتيح الاستيلاء عليها أو فرض السيطرة الكاملة على الأرض. وتتمثل أهداف إيران من الحرب في الحفاظ على قوتها وقدرتها على تخصيب اليورانيوم، في حين أن أفضل استراتيجية لديها هي الصمود حتى تصل إسرائيل إلى نقطة الاستنزاف اللوجستي والعسكري.
تغيير العقيدة الأمنية الإسرائيلية
في السياق الأوسع، يشير جوناثان أديري في يديعوت أحرونوت إلى تحوّل عميق في العقيدة الأمنية الإسرائيلية من «الاحتواء وإدارة الصراع» إلى «الاشتباك الاستباقي». هذا التحول لم يأتِ من فراغ بل نتيجة تجارب مؤلمة مثل حرب غزة وهجمات حماس وحزب الله التي أظهرت بوضوح أن استراتيجية الاحتواء لم تؤدِ سوى إلى منح أعداء إسرائيل الوقت لتعزيز قدراتهم العسكرية.
اليوم، تعتمد إسرائيل على ما يسمى «عقيدة الاشتباك»، التي ترتكز على المبادرة الاستباقية والمحسوبة. وتعكس الحرب الحالية مع إيران تطبيقًا واضحًا لهذه العقيدة، من خلال بناء التفوق الجوي وجمع المعلومات الاستخباراتية والتعامل مع التهديدات مباشرة. ومع ذلك، يؤكد هذا التحول في العقيدة الأمنية ضرورة التوازن بين الاشتباك وبين إدراك حدود القوة، وتجنب الوقوع في حرب استنزاف لا نهاية لها.
وبناءً على ذلك، تظل المرحلة المقبلة حاسمة لإسرائيل، التي تواجه تحديًا كبيرًا يتمثل في الموازنة بين استثمار النجاح العسكري التكتيكي والمحافظة على الاستقرار الاستراتيجي وتجنب الدخول في مستنقع استنزاف عسكري واقتصادي طويل الأمد.
أمريكا: معضلة القرار وخطر التورط
جزء من الحسابات الإسرائيلية موجه نحو جرّ الولايات المتحدة إلى المواجهة عبر توسيع نطاق الحرب، كما في ضربات اليمن، وذلك بهدف توريط إدارة ترمب في صراع إقليمي واسع، وهو ما يحاول ترمب تجنبه بتأكيده أن الضربة الأمريكية الأخيرة لها أهداف محددة معنيّة بالشأن النووي حصرًا.
تعكس سياسة «أمريكا أولًا» التي يتبناها ترمب معضلة بارزة؛ إما الانزلاق إلى حرب شاملة ستكون مكلفة عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، أو الاكتفاء بدعم محدود مع الإبقاء على حذرها الحالي. فإذا تورطت الولايات المتحدة في حرب مباشرة مع إيران، فإن النتائج قد تكون مدمرة، كما أن السقوط في هذا الصراع سيكون خطيرًا ومكلفًا.
ترمب نفسه وعد خلال حملته الانتخابية بعدم الدخول في نزاعات خارجية، فيما قاعدته الشعبية -باستثناء شرائح قليلة من الإنجيليين القوميين- تعارض بشدة التدخل العسكري. وتبرز هنا تحذيرات رموز من داعميه مثل ستيف بانون وتولسي قابارد (مديرة الاستخبارات الوطنية)، الذين يحذرون من التورط في مستنقع يصعب الخروج منه.
العملية الأمريكية في فوردو لم تهدف إلى إسقاط النظام، بل ركزت على هدف تكتيكي محدد، ونُفذت بدقة عالية وتخطيط محكم، وتميزت بالسرعة وتقليل الأضرار الجانبية، متجنبة التصعيد الشامل. وقد فهمتها إيران في هذا السياق.
لكن في حال تدخل أمريكي أوسع يهدد بقاء النظام، تدخل يختلف عن فوردو، سيكون هناك رد إيراني، وعلى الأغلب سيكون مختلفًا نوعيًّا عن ما رأيناه حتى الآن؛ سيحركه الذعر، وسيستخدم كل أوراقه دفعة واحدة، حيث يرى النظام الإيراني الصراع وجوديًّا. وقد سبق أن هدّد خامنئي بإشعال المنطقة بالكامل، بما في ذلك إغلاق مضيق هرمز.
داخل أمريكا
على الصعيد الداخلي الأمريكي، يظهر انقسام عميق بين التيارات الجمهورية، خصوصًا بين تيار «ماقا الحقيقية» الذي يرفض التورط العسكري، وبين المؤسسة الجمهورية التقليدية. وهو ما يقيّد ترمب ويجعل اتخاذه قرارًا واضحًا أمرًا بالغ التعقيد. يضاف إلى ذلك التوتر الجيلي بين موظفي الإدارة الشباب الذين يشعرون بالإحباط بسبب الاتجاه الحالي ويرون فيه انحرافًا عن المبادئ التي جذبتهم لدعم ترمب في البداية.

على الصعيد الدبلوماسي، ذكرت شبكة (CBS) أن هناك محادثات سرية بين دبلوماسيين أمريكيين وأوربيين حول مستقبل القيادة الإيرانية وتأمين المواقع النووية في حال انهيار النظام الإيراني. كما أكدت (CNN) أن إيران أبلغت الأوربيين بوضوح أنها لن توافق على محادثات مباشرة مع الولايات المتحدة ما لم توقف إسرائيل ضرباتها داخل إيران.
في هذا الإطار، وعبر مقارنة موقف ترمب الحالي مع استراتيجية الرئيس جون كينيدي خلال أزمة الصواريخ الكوبية، التي استطاع من خلالها تجنب كارثة نووية عبر التفاوض والدبلوماسية الذكية بدلًا من التصعيد العسكري، يواجه ترمب ضرورة تقديم رسائل واضحة ومتسقة من أجل التوصل إلى حل دبلوماسي محتمل.
أخيرًا، فإن المرحلة المقبلة تبقى شديدة الحساسية، وتتطلب من ترمب اتزانًا ووضوحًا في الأهداف لتفادي كارثة محتملة، وفتح نافذة للحل الدبلوماسي الذي قد يضمن مصالح الولايات المتحدة ويخفف من مخاطر الصراع الإقليمي الواسع الذي سيؤثر في أمريكا.
على المستوى الإقليمي والدولي
أما دول الجوار، مثل باكستان وتركيا، فتتوجس بشدة من هذا التوسع العسكري. وترى أن إيران باتت اليوم بمثابة خط الدفاع الأخير في وجه نزعة الهيمنة الإسرائيلية. ومن مصلحة جميع الأطراف في المنطقة ألا تخرج إسرائيل من هذه الحرب أقوى مما كانت عليه، لأن ذلك سيؤدي إلى مزيد من التوتر وعدم الاستقرار.
نتنياهو، من جانبه، لا يُخفي قناعته بأن الدول العربية ستنجرّ إلى اتفاقيات سلام بعد أن تستنفد خياراتها، ويعتقد أن الاستفزاز والقوة هما ما سيدفعانهم لذلك، لا التفاهم.
الخليج: بين الوساطة وخطر الانفجار
أما عن المنطقة، فإن دول الخليج تخشى من الانهيار الإيراني، ليس حبًّا لطهران، بل خشية من الفوضى وتفكك الدولة، وتحوّل إيران إلى سوريا جديدة على حدود الخليج. والسعودية وقطر تبذلان جهودًا لاحتواء التصعيد، لكن إسرائيل ليست في مزاج تسوية، وترمب متقلب.
تدرك دول الخليج جيدًا أن أي تصعيد إضافي في الصراع قد يؤدي إلى رد فعل إيراني قوي ومضر، مما سيؤدي إلى اضطرابات واسعة في سوق الطاقة العالمية. والمخاوف الخليجية تُعززها التجارب السابقة في العراق وسوريا، حيث أدى انهيار الدولة إلى فوضى عارمة وانتشار الإرهاب والصراعات الطائفية، وهو سيناريو تحاول دول الخليج جاهدة تجنبه.
قبل أيام قليلة فقط من الهجوم الإسرائيلي، كانت دول الخليج، مثل السعودية، تسعى إلى تسهيل المحادثات النووية بين إيران والولايات المتحدة، بهدف تحقيق استقرار إقليمي طويل الأمد وتجنب مواجهة عسكرية كبرى. ومع معرفة دول الخليج بنوايا إسرائيل العامة، فإن سرعة تنفيذ إسرائيل للضربات على إيران شكّلت صدمة، وأثارت مخاوف من أن الرئيس ترمب قد لا يتمكن من السيطرة على توجهات نتنياهو التصعيدية.
حاليًّا، تجد دول الخليج نفسها في موقف حرج للغاية، إذ تحاول جاهدة استغلال نفوذها السياسي والاقتصادي وعلاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة وإيران لإعادة تفعيل المسار الدبلوماسي وتخفيف حدة الأزمة. ويقول الدبلوماسي الأمريكي السابق آلان إير: «نعلم جميعًا أن إيران تضغط على دول الخليج الأخرى للضغط على الولايات المتحدة. لكن لا أرى أنهم سينجحون في إقناع واشنطن بكبح جماح إسرائيل.» ويواجه هذا الجهد تحديات كبيرة بسبب إصرار ترمب على تنازلات إيرانية جوهرية تشمل التخلي الكامل عن تخصيب اليورانيوم، وهو مطلب لا يبدو أن إيران مستعدة لتحقيقه بسهولة.
الجهود الخليجية لاحتواء التصعيد تواجه أيضًا معضلة كبيرة؛ إذ قد تصبح دول الخليج نفسها في مرمى نيران الصراع إذا توسعت الولايات المتحدة في تدخلها المباشر. وترى هذه الدول أن انزلاق المنطقة نحو حرب واسعة سيهدد خططها التنموية الطموحة، ويحوّلها إلى ساحة مفتوحة لصراع إقليمي طويل ومُكلف، في وقت كانت تحاول فيه دول الخليج التركيز على التنمية الاقتصادية ومشروعات البنية التحتية والتكنولوجيا الحديثة.
لهذا، تظل دول الخليج في حالة تأهب شديد، وتحاول الحفاظ على مسار دبلوماسي هشّ للغاية، تسعى من خلاله لمنع التصعيد الأكبر.
المستقبل
تَعدّ إدارة ترمب الهجمات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية ضربة تفضل ألا تكررها، وتراها ورقة مساومة لتسهيل مفاوضات جديدة مع إيران التي هي في أضعف حالاتها. وإيران من جهتها تروج لفكرة أن فوردو تعرضت لأضرار طفيفة، وأن القدرة على الاختراق النووي ما زالت موجودة. لذلك، لم ترد إيران بشكل كبير على الولايات المتحدة، لأن ترمب نفّذ ضربة محدودة، متجنبًا التصعيد الواسع. فبدلًا من مواجهة واشنطن، قد تختار إيران التصعيد ضد إسرائيل، لو انهارت الهدنة الهشة، مما يزيد الضغط على تل أبيب دون استفزاز أمريكي مباشر.
في الوقت نفسه، قد تتبنى إيران استراتيجية نووية تعتمد على الغموض المتعمد، حيث قد تزعم أنها لا تسيطر على كل كميات اليورانيوم المخصب بسبب الفوضى التي سببتها الحرب، دون أن تُسارع بالانسحاب الرسمي من معاهدة عدم الانتشار النووي. هذا الأسلوب يُحاكي السياسة النووية الإسرائيلية، التي تعتمد على إبقاء الوضع النووي مبهمًا دون تأكيد أو نفي امتلاك أسلحة نووية. من خلال هذا الغموض، تستطيع إيران خلق حالة من الردع الاستراتيجي دون الحاجة إلى إجراء تجربة نووية علنية، مما يُربك الدول الغربية ويُصعّب عليها وضع استراتيجيات واضحة لمواجهة طهران.
هذا النهج يمنح إيران مزايا متعددة: أولًا، يُمكنها تأخير أي صدام مباشر مع الولايات المتحدة، مما يتيح لها مساحة لإعادة بناء قدراتها أو التخطيط لخطوات لاحقة. ثانيًا، يوفر لها ذريعة مقنعة لتقليل تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بحجة الظروف الأمنية، مما يقلل من الرقابة الدولية على برنامجها النووي. ثالثًا، يعزز موقعها في أي مفاوضات مستقبلية، حيث يصبح الغموض النووي ورقة ضغط قوية.
لكن، وإن كانت الهجمة الأمريكية تكتيكية، فالهجوم الإسرائيلي منذ بدايته ليس تكتيكيًّا، بل هو رغبة منها في هيكل جديد للشرق الأوسط، تحاول إسرائيل من خلاله ترسيخ موقعها بوصفها القوة الوحيدة المهيمنة، بعد تحييد المشروع الإيراني. لكن يبقى السؤال: هل تمتلك إسرائيل القدرة السياسية والعسكرية والشرعية الدولية لاستكمال هذه المهمة؟ أم أن تعقيدات الداخل الإيراني، وغموض الموقف الأمريكي، وتقلّب الرأي العام الإسرائيلي، والضغط الخليجي، ستجعل من هذا الانتصار مجرد مرحلة أخرى في صراع لم يُحسم؟

فقرة حصريّة
اشترك الآن


في حلقة «متى تتوقف إسرائيل» من بودكاست فنجان، يحلّل هشام الغنام أحداث 7 أكتوبر، وما تلاها من تطوّرات استثنائية في تاريخ الشرق الأوسط، مثل تحييد حزب الله، وكيفية تغير التوازنات الإسرائيلية والإيرانية في الشرق الأوسط وفقًا لهذه التطورات.
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.


مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.