البشت: من خيوط الأحساء إلى أكتاف الكرام
صناعة البشت، قصة ترويها سعفات النخيل

لماذا ارتدى ميسي «البشت»؟
هذا السؤال كان حديث مواقع التواصل الاجتماعي الغربية عقب تتويج الأرجنتين بكأس العالم. بدا المشهد غريبًا في أعين كثيرين، هناك لاعب أرجنتيني يُكَلَّل برداء عربي أسود شفّاف في لحظة تتويج عالمية.
لكننا -نحن العرب- نعرف الجواب جيّدًا. فـ«البشت» لا يُلقى على الأكتاف اعتباطًا، ولا يلبسه إلا من يستحق: الملوك، الشيوخ، الوجهاء، ومن يعلو قدره في أعين الناس أو من يُحتفى به.
فاللباس ليس مجرد قماش يُرتدى، بل رمز ثقافي واجتماعي يُعبّر عن منظومة القيم التي يحملها المجتمع. و«البشت» تحديدًا، ليس مجرد زيٍّ تقليدي، بل قصة متكاملة، تمتد جذورها في التاريخ، وتحكي عن تكاتف جماعي، من الحياكة إلى الزري، من المهنة إلى الهيبة.
في هذه المقالة، نحاول أن نروي هذه القصة: كيف يُصنع البشت؟ ومن يصنعه؟ وما الذي جعله أكثر من عباءة.
نوّاف الحربي


البشت يتكلم حساوي
قبل سنوات ألقى الشاعر النبطي مسلط الميموني قصيدة مطلعها:
بشت ما هو بشت الرجال الطحاطيح
يا أهل الحسا بالله لا تصنعونه
انتشر هذا البيت بحماس بين أهل الأحساء، فلقد داعب الذاكرة الجماعية نحو مهنة ضاربة في ذكريات الناس، فـ«البشت» في أحاديث الحساوية يشبه حديث الموريسكي عن أندلسه. أتذكّر مجلسًا ضمّني بكهول في العقد السادس مارسوا خياطة البشوت في صباهم، وكنا نشاهد تسجيلًا لأحد الأعراس، فوجدتهم يتهكمون على من يلبس «بشت كمبيوتر» حسب تعبيرهم، ويقصدون به البشت الذي صنعته آلات مصانع النسيج. وشتّان عندهم بين صنيعة اليد وصناعة الآلة، لكن ما قطع التذمر والتهكم حين قال أحدهم بصوت فيه نغمة حزن: «خلاص، الكل سيلبس "بشت كمبيوتر"، ربما سينتهي زمن البشوت التي تُخاط باليد». ساد بينهم صمت غائر في الألم، ثم تحدث أحدهم عن أبناء عمومتهم الذين هاجروا منذ قرن لبعض دول الخليج والبصرة واستقروا ليعملوا خياطي بشوت، كأنهم «سفراء البشت» على كوكب الأرض.
كان ذلك إلهامًا لكتابة هذا المقال، فالبشت لباس عربي عريق، وحين ننقّب عن «البشت» في الوضع المصطلحي، سنجد بقليل من التتبع أنه مدوّن في القرن الثامن الهجري، باعتباره التسمية في ذلك القرن للعباءة العربية. لكن هيئة البشت ضاربة في القدم وليست جديدة على العرب، فهي تَطوُّر عن العباءة التي كان يرتديها الرجال في الجاهلية والقرون الهجرية الأولى. وإذا كانت الملابس في بداية نشأتها تؤدي حاجة فطرية، فإنها تطورت فيما بعد لتعبّر عن رمزية ثقافية وهوية حضارية. فالبشت المُوشّى بإطارٍ ذهبي، في مدلوله العميق، يخبّئ تفاصيل الجسد ويظهر العزة والفحولة، ويمكن أن نرى ذلك من منظور ميثولوجي ونؤوِّل ذلك أن العربي يرى أن للجسد خصوصيته التي لا تُتاح لأي أحد أن يراها.
القصة تبدأ من الإمساك بالخيط
صناعة البشت حكاية إحدى بدائع الحرف اليدوية السعودية، مما يوجب علينا سرد مراحل تكوينه التي تعبّر عن تكاتف البيئة بجغرافيتها ومكوناتها لتنسج هذا الملبوس. فالحكاية تبدأ من الخيط الذي يُنتزَع من الحيوانات التي تعيش في البوادي القريبة من حاضرة الأحساء: «الصوف من الغنم، والشعر من الماعز، والوبر من الإبل»، ولكل واحد منها خصائصه. وأول خطوة تكمن في «عملية الغَزْل» التي هي مهنة نسائية بامتياز، من خلال «نفش» هذه المواد عبر فك المتشابك وتنظيفه لإنتاج الخيوط. والتحكم بسماكة الخيط وطوله أمر يقرّره الغازل وطبيعة الطلب في السوق. تليها مرحلة صبغ الخيط بإكسابه اللون المطلوب، وتتداخل مواد البيئة لتشكيل اللون، من قبيل: قشور الرمان وصدأ الحديد، وخلط هذه العناصر بدرجة معيّنة ما هو إلا عملٌ فنّي، أليس كذلك؟
بعد انتهاء عملية الغزل تُباع هذه الخيوط في «سوق الغَزْل» وهي سوق ضخمة مزدحمة تضيق فيها الأنفاس، وكلٌّ يبحث عن خيط لغرض، ومن الخيط تبدأ حكايات، ومنها حكاية البشت التي ستبدأ الآن.
الحياكة: نسج الحكاية
يقال في التعبير الأدبي: «فلان يحوك الدسائس»، تعبير يُظهر أن الحياكة تتطلّب الإجادة بشيء من التريث والصبر، بيد أن الحائك الأحسائي لا يجيد الدسائس، لكنه من حفرته التي في مجلس منزله يحوك نسيج البشت بأدوات بعضها من بيئته الزراعية، التي تشكّل القوائم الخشبية، وظفيرة الخيوط، وقطعتان خشبيتان تسميان «المدواس» يحركهما الحائك، و«الجريد»، وهما جريدتان من سعف النخلة تُفرَط عليهما الخيوط، و«المزراق» وهو قطعة تحتوي على البكرة لتكوّن النسيج نتيجة حركة الحائك بجسده، لتتواشج وتتداخل الخيوط ملتحمة لتكون جسد البشت. وتستغرق منه هذه العملية من يوم إلى يومين، وما يلفتك أن عمل الحائك مرتبط بالغزل وبالنجارة، لذا فالعملية متكاملة. وبعد أن تكتمل العباءة المنسوجة، تُباع على «معزب الخياطة» أو تُسلّم له بحكم التعاقد.
المرحلة الثالثة: لمسات خياط
يسلم «أستاذ الحياكة» المهمة إلى «معزب الخياطة»، و«المعزب» في لهجة الخليج هو مالك الصنعة أو المصلحة التجارية، وفي الخياطة المعزب هو مشرف «فريق المخايطة» ومالك المجلس، ومدبّر عملية البيع. ويتركز عمله هو وفريقه في صناعة الإطار الذهبي «الزري» للبشت ليمنحه الفخامة التي تليق بعلية القوم، وهنا يتجلى الإبداع، فلكل «معزب» صنعته وإبداعه هو وفريقه.
المخايطة: عزف جماعي
نعم هو فريق عمل يحتشد على حصير واحد تلتحم فيه الأكتاف بالأكتاف، يكاد كل واحد يسمع خفق قلب زميله من الاقتراب، ولأن عملهم من جلوس في مجلس، فهذا يمنحهم فرصة لتداول الأحاديث، وربما التظارف فيما بينهم، وفي لحظة الصفاء تُتبادل التعليقات الساخرة، ليكون العمل مزيجًا من الحب والمرح، واستماع الراديو حين توفّر عند الناس. من المواقف الجميلة أنني في طريق سفر صحبت والد أحد الأصدقاء، كان من فريق خياطة بشت، وذهلت من كمية المعلومات التي لديه، ومحفوظاته الغنائية وثقافته مع أنه لم يواصل تعليمه! علّق صديقي: والدي عاش حياته بجانب الراديو وهو يعمل مخيط بشوت، لذا أغاني الستينيات والسبعينيات، والبرامج الإذاعية، شكّلت ذاكرته.
أما عن عملهم فيستلم هذا الفريق العباءة بلا ملامح، وهنا تأتي الهندسة. فليس كل عباءة مرشّحة لتغدو بشتًا له إطار ذهبي، فهناك عباءات لبعض رجال الدين التي تخلو في بعض الأحيان من الزينة المذهبة، بيد أن هذه العباءات تحتاج لضبط المقاس، وصناعة «المِكْسَر» الذي يحدّد حدود العباءة، ويصنع إطارًا من اللون ذاته. لذا لا بد من بصمة «المخايطة» على البشت ليستحق أن يُلبس.
تبدأ مهمة فريق المعزب بوضع البطانة، وهي عبارة عن قماش رقيق مصبوغ باللون الأصفر، ووضع بطانة غليظة في الأسفل، وربما استدعى الأمر طبقات مجاورة حسب سماكة البشت، ثم يفتح المعزب أكياس الخيوط الفضية المطلية بماء الذهب، وغالبًا تأتي مستوردة من ألمانيا أو الهند، وكأنها صافرة البدء في العمل الجاد، لتتواشج الخيوط مشكلة النقشات الشهيرة. وهنا ترسم الأنامل مسارات اعتادت عليها، لا مجال لديها للخطأ، فالنقشة يجب أن تؤدى كما يجب.
البشت في اللقطة الختامية
آخر عملية هي «التبردخ» وهو طَرْق «الزري» بالمطرقة، لكنه طَرْقٌ لتلميع الخيوط وتسويتها وتنعيمها بطرقات احترافية، لا تقسو فتُتلِف الزري، ولا تلين فيتراخى ولا يشتد قوامه. طَرْق يذكّرك بقول المتنبي: «فكأنه آس يجسُّ عليلا»، هو وسط بين الشدة واللين، مثل تربيت محب على كتف حبيبٍ في وداع أخير، أو ضربة فارس على فرسه الأثيرة لتنطلق. ولو تهوّرتْ المطرقة وغالت في الطّرْق، فكأن الطّرْق سيكون على قلب معزب الخياطة.
وبعدها يتنفس المعزب الصعداء، ويتدفق هرمون الدوبامين، وكأنه بُشّر بصبي! فلقد انتهى من إنتاج بشت لا يعلم أي كتف شمّاء سيكسو، ولكنه واثق أن البشت الكريم لا يزهو إلا على أكتاف الكرام. بشتٌ نفشت خيوطه يد امرأة أحسائية بعد أن صبغته بدمعها وكحلها، واحتضنه حائك أحسائي بعد أن أحكم نسج خيوطه، وقد سانده النجار الأحسائي في صناعة أدوات النسج من النخلة الأحسائية، ثم أتى الخياط بفريقه ليمنحوا البشت أناقته بأيدٍ لا تكل ولا تمل من الارتفاع والانخفاض، كخفة «المايسترو» وهو يدير فرقته. ثم يأتي الصائغ الأحسائي ليجمع ما تساقط من تلك الخيوط ليعيدها فضةً بطريقته في إعادة التدوير.
إنه عمل أحسائي سعودي، لذا هل ترانا نبالغ حين نقول: «البشت يتكلم حساوي»؟ ولو كان للبشت لسان ناطق، لسمعته يحدّثك بلكنة هفوفية!


وش لون؟
أكثر ما يشدّك في هذا التسجيل حرص الدكتور سعد الصويان على فهم كل ما في القصيدة من أبيات، وسؤاله: «وش لون؟»
في هذا التسجيل، بتاريخ 1403/04/24 هـ الموافق 7،فبراير 1983، مع الشاعر والراوية محمد بن علي العصيمي بالدرعية. يقول الراوي:
ضو يقرب جمرها للمعاميل ... وسوالفٍ ما قطع بالتلماع
ثم يقاطعه الدكتور سعد ويسأله: التلماع؟ وش لون؟
ثامر السنيدي


فلان القادم، بياخذنا تبوك، لحضور عادات وسلوم الزواج هناك. ما بين الرفيحي والهجانة رسمة كرنفالية، يختصرها ثامر بقولة «لا تحتسي»... يعني شيء من الآخر.
محمد السعدون




عندي اللّي يزهاك
أبو حسن علي الشواف، من أبناء عائلة معروفة في سوق البشوت بالدمام، أبوه وإخوانه كلهم يشتغلون بهالشغلة، لكن أبو حسن غير عن كل الباعة.
إذا جيته، لا تقول له أبي بشت، قل له ليش تبيه... هو بيختار لك اللون والزري والنوع المناسب لك.
مرّة سألته: «يا أبو حسن، بعض الناس ياخذون الأغلى، وأنت تقول لهم خذوا الثاني، وهو أرخص… ليش؟»
قال لي: «أنا يهمني الزبون يلبس بشت يزهاه، ويليق عليه. علشان كذا أختار لكل زبون بشته.»
تلقاه في محلّه «مشالح الشموخ». إذا جيته، اقعد معه، اشرب الشاهي، وخلّه يعلمك عن أنواع البشوت والزري والصنعة الزينة… وخلّه يختار لك بشتك.
نوّاف الحربي




الذاكرة السعودية بالنص والصوت والصورة، في نشرة بريدية نصف شهرية، تعيد اكتشاف الثقافة المحلية وارتباطها بالعالم.