كيف أنهى محمد عبدالجواد عصر الرواية الكلاسيكية؟ 🏁
زائد: لماذا نُصاب بالقشعريرة أسفل عمودنا الفقري؟ 🎶


أغلب قراءاتي في الفترة الأخيرة، تمّت في لحظات انتظار، في المطارات والمحطات، في العيادات والمستشفيات، أو في انتظار انتهاء اختبارات أولادي. كانت فرصة لاكتشاف كتب ومقالات لا أختارها عادة.
ما لفتني بحق في تلك الجلسات هو نمط النشر في المجلات النسائية، سواء الأجنبية أو العربية. هناك تناقض صارخ في مضمونها، حيث تستقبلنا صفحات تدعو المرأة إلى تقبّل ذاتها وعدم الاكتراث بآراء الآخرين، يليها وصفات وتمارين لفقدان الوزن، ثم صور لعارضات نحيلات يروجن لموضة لا تستوعب إلا الأجساد الأقل من ستين كيلو قرامًا، ثم مباشرة، ومع صور عالية الجودة، وصفات لأشهى الأطباق والحلويات.
هذا التناقض لا يقتصر على المجلات النسائية، بل يتكرر في المجلات الرجالية أيضًا. أشار زيقمونت باومان، في حديثه عن السيولة، إلى أن الكتب الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة تنتمي إلى فئتين متناقضتين: كتب عن أفضل الحميات الغذائية، وأخرى عن ألذ الوصفات.
ربما لا يعاني العالم اليوم من التضخم الاقتصادي فقط، بل من التضخم الثقافي أيضًا، حيث عُوّمت قيمٌ كثيرة، مما يدفعنا إلى استهلاك كل شيء دون تردد، بين ما نحتاجه فعلًا وما نجربه خوفًا من أن يفوتنا شيء. وبما أن التناقض صار قاعدة، فلا بأس أن أجرّب حمية في الصباح وأطبخ في المساء طبقًا عالي الدسم، بينما تراقبني عن قرب عينا دمية «لابوبو» بابتسامتها القبيحة.
نعم، تبدو الدنيا بخير، أليس كذلك؟
في هذا العدد، سيعرّفنا الروائي والقاص السعودي طاهر الزهراني على تجربة روائية عربية فريدة، وأخبركم لماذا أحب قراءة الشعر في شهر يونيو، كما يقترح عليكم فريق النشرة جديد الإصدارات والتوصيات.
إيمان العزوزي


كيف أنهى محمد عبدالجواد عصر الرواية الكلاسيكية؟ 🏁
يحدث أحيانًا أن تصدر رواية أولى لكاتبها فيُعرف، وربما تفوز تلك الرواية بجائزة، وقد تحدث لعنة بعد ذلك فيتوقف عن الكتابة، أو يستمر في إصدار العديد من الروايات الفاترة، لكن أن يظهر فجأة مشروع روائي لافت خلال أقل من ثلاث سنوات فهذه «واقعة خاصة» نادرة الحدوث.
بداية الواقعة كانت في عام 2022 حيث صدرت رواية لشاب مصري «يُدعى» محمد عبدالجواد بعنوان «30 أبيب». تحكي الرواية عن شخص توفيت أمه، فيتحدث عن مناماته بعد رحيلها في حالة من التأبين بثيمة الأحلام المتنوّعة التي تُصَبُّ في قالب سردي برزخي وبلغة صوفية تحاول أن تتشافى. أول ما يتبادر إلى ذهن قارئ هذه الرواية: كتاب «أحلام فترة النقاهة» لنجيب محفوظ، حيث تتنوع الصور وتتماهى لقول شيء ما.

هذا العمل، مثل غيره من مئات الأعمال الروائية العربية التي تمر على القرّاء مرور الكرام، حاول كاتبه تجاوزه بشكل أو بآخر، لكن الكتب والتجارب هي جزء من حياتنا، وتجربة الإنسان، مهما اختلفت، تشيّدها الأطوار والمنعطفات والمحاولات بشتى أشكالها، المرير منها والجميل، المتواضع منها وما نعتد به. فكانت «30 أبيب» العتبة الأولى، واللبِنة التي استفتح بها عبدالجواد مشروعه الروائي، ودون أن يلتفت إليه كثيرًا انطلق مستكملًا إيّاه بدأب وقفزة حرة محسوبة بفن.
بعد عام، صدرت ثلاث نوفيلات صغيرة للشاب الواعد في وقت وظرف واحد، وبعوالم متقاربة، أشياء تشبه عوالم محمد البساطي وخيري شلبي وإبراهيم أصلان، ويجد القارئ أيضًا شيئًا من ماركيز، تحديدًا روايته البديعة «قصة موت معلن». أطلق الكاتب على الثلاث نوفيلات اسم «الثلاثية»، وهنا بدأت الأعمال «تجرّس» كما يُقال، وبدأت التساؤلات عن الكاتب الشاب الذي لم يتوقف لجس النبض، فهناك رؤى وعوالم، ومشاريع كتابية أخرى، وتجارب بحاجة لطرق الباب، فصدرت العام الماضي روايته «أميرة البحار السبعة» التي طرق فيها الكاتب باب الواقعية السحرية، خالقًا كتابة تشبه المصدر الأصيل لها وهو «ألف ليلة وليلة».
بداية هذا العام وعندما زرت معرض القاهرة للكتاب، كان أول ما بحثت عنه جناح دار مرايا، الناشرة لأعمال عبدالجواد، وتفاجأت أن الدار لم تشارك. غيابها خيّب أملي إذ كنت أؤجل قراءة هذه الأعمال حتى أحصل عليها ورقيًّا مع أنها متوفرة رقميًّا على منصة «أبجد».
في اليوم التالي من الزيارة، ذهبت إلى مكتبة تنمية من أجل حضور فعالية ثقافية، وتفاجأت هناك بصدور رواية جديدة لكاتبنا خرجتْ للتو من المطبعة، وهي رواية «الواقعة الخاصة بأموات أهله»، رواية ضخمة تقع في 600 صفحة. كانت قراءة الأعمال الكبيرة مجازفة بالنسبة إليّ، فمن ذا الذي يراهن على قراءة عمل عربي بهذا الحجم؟ ومن يضمن لي عدم الوقوع في خيبة كبيرة؟ وهذا يعود إلى رأي متطرف كوّنته بخصوص الروايات البدينة. فالذين يملكون أدوات كتابة عمل ضخم هم قلّة في العالم، قد أقرأ ليوسا «شيطنات الطفلة الخبيثة» دون أن أرمش، وقد أقرأ رواية «الجزيرة تحت البحر» لإيزابيل الليندي دون الشعور بمضي الوقت، لكن في العالم العربي قلة من قد يكسر هذا التوقع.

رافقني التردّد إلى جدة، لذا تواصلت مع أحد الأصدقاء وطلبت منه الثلاثية الصغيرة وبدأت برواية «الصداقة كما رواها علي علي»، ثم «جنازة البيض الحارّة»، وختمتها برواية «عودة ثانية للابن الضال»، وهي نوفيلات صغيرة في ثمانين صفحة وبعضها أقل، تُقرأ في جلسة واحدة. هذه النوفيلات أو الثلاثية -كما يسميها كاتبها- أظهرت عبقرية وجمال كتابة محمد عبدالجواد.
يمتلك الكاتب قدرة هائلة على خلق الشخصيات المهمّشة، وانتزاعها لتوظيفها فنيًّا. فـ«علي علي» رجل يمتهن الرسم -ليس بمعناه الفني، بل بمعناه الشعبي- وهو الرسم على واجهات المحال وسيارات النقل، و«العم أحمد علي»، الشخصية الثانية في الرواية، هو صاحب «وايت» صرف صحي، يؤمن بموهبة «علي علي»، ويخلق عبد الجواد في «عودة ثانية للابن الضال» شخصية «حمادة أوريو» الذي اكتسب اسمه من خلط البسكويت الداكن، وكذلك الأمر مع «شريف البيض» في «جنازة البيض الحارّة».
تمتاز الثلاثية بهذا التنقيب المذهل عن الشخصيات في الحواري الشعبية، وقدرة الكاتب على خلق لغة تنسجم مع الأحداث المتوترة وتتقاطع كلها حول الحدث الجلل وهو الموت، والتناول الذي لا يخلو من سخرية خلف ذلك السرد.

انتهيت من الثلاثية ثم شرعت في «أميرة البحار السبعة» حيث كان الكاتب يريد الذهاب لعوالم أخرى عجائبية وسحرية لكنها بنكهة محلية تنسجم مع عوالم ألف ليلة وليلة، في هذا العمل تحديدًا تظهر قدرات الكاتب على خلق العوالم بجدارة واقتدار، صنعها فوق قرية «سيدي العوام» الغجر والزفر والكائنات المجنّحة التي تسقط على الأرض، يقابلها البحر الذي يصنع الحكايات ويدرُّ الرزق ويقطعه، مع لغة سردية سلسلة وصور فنية رسمها باحتراف بديع. لقد أربكتني تجربة هذا الشاب الذي سألت عنه الأصدقاء في القاهرة، وقالوا عرفناه العام الماضي!
بعد قراءة «الثلاثية» و«أميرة البحار السبعة»، خرجت بانطباع وأنا منبهر، فقد وقفت على كتابة فريدة وصوت خاص لشاب لا يزال في بداية مشروعه السردي. طبعًا أجّلت قراءة رواية «الواقعة الخاصة بأموات أهله» لما بعد عيد الفطر، فالرواية بضخامتها ستكون المضاد الفعّال لغيبوبة شوال الطويلة.

قرأت الرواية في أقل من أسبوع، وأستطيع أن أجزم الآن -بالنسبة لي على الأقل- أن عصر الرواية الكلاسيكية انتهى بأمرين:
الأول: ظهور الذكاء الاصطناعي. والثاني: صدور رواية «الواقعة الخاصة بأموات أهله».
فالكاتب الذي بدأ مسيرته الروائية قبل ثلاث سنوات، رأى أن الشكل الذي نشأ مع رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، وامتدَّ لأكثر من قرن لم يُغلق. فقد شرعت الرواية في البحث عن أبواب أخرى، مع نزوح البعض للتجريب بتطرّف، أو اللجوء إلى سرديات أخرى أقرب ما تكون للسيرة الذاتية أو الغيرية. هنا ظهر محمد عبدالجواد ورأى أنه من النبل إغلاق باب الرواية الكلاسيكية بعمل يليق بالختام فكانت رواية «الواقعة الخاصة بأموات أهله».
هي رواية أجيال تشبه في شكلها وتعاقب أحداثها رواية «الحرافيش»، إلا أن محمد -في ظني- استطاع شد خيوطه من البداية حتى نطقت «أمينة الرز»: «لا يوجد غير الرز ليستقبل الرز»، بلغة سردية غاية في الأناقة، وإعمال ما يلزم أحيانًا، وبقدرة هائلة في نحت الشخصيات، من شخصية «رمضان الرز» إلى سيف الدين، بل خلق شخصية روائية سوف تخلد في الأدب العربي هي شخصية «حسين الرز»، بائع البطاطس المقلية.
في الرواية الكثير من علامات النضج السردي، إحداها إعطاء كل شخصية -حقها ومستحقها- من الصوت الخاص بها، فـ«حسن» غير «حسين»، و«أمينة» غير «در»، وهكذا مع جميع شخصيات الرواية. مع توظيف الإيجاز والإطناب، وضبط إيقاع السرد، ومواطن التوتر السردي.
ثم الهبوط نحو الختام، والتأبين الظاهر الباطن، الحزين الساخر، الذي يغلق معه محمد عبدالجواد ليس روايته هذه وحسب بل الشكل الروائي الذي امتد لنا من قرابة قرن، وجعله قريبًا من الرفات، ومزج ذلك بشكل ساحر شمل نهايات الشكل مع رفات العائلة التي لم تتصالح إلا عند التداعي الأخير.
الجميل فيما حدث مع قراءة هذه التجربة السردية المفاجئة، أن الكتابة الجيدة تفرض نفسها، والقيمة الفنية هي الطريق للحضور بين يدي القرّاء، والمشروع الواعد ليس بحاجة لمن يقدمه، وأدوات الفنان ربما تبقى حبيسة حتى يأتي الوقت المناسب للتدفق، وكل هذه الطاقة السردية لم تأتِ من فراغ، فهي حصيلة دأب وتحصيل معرفي، وقراءة في التراث، ونظر في الفن، وقبل ذلك حضور روح الفنان في كل مراحل الكتابة.
محمد عبدالجواد كاتب واعد، وروائي قادم وبقوة، وسيكون له شأن كبير على مستوى السرد العربي.


لماذا نُصاب بالقشعريرة أسفل عمودنا الفقري؟ 🎶
لا أعرف رؤية واحدة للشعر مرضية بشكل كامل، غير رؤية إميلي ديكنسون حين تقول إنها أمام القصيدة الحقيقية، يصيبها البرد، حد أنها تتصور أن لا نار تستطيع تدفئتها
سيوران
أحبُّ يونيو، فهو يمثل الهدوء الذي يتسلّل بين ضجيج شهور السنة، هدنة ناعمة وسط صخب الروتين المتكرر، وفيه يُعلن الانقلاب الصيفي بداية موسم الشمس، محتفلًا بعيد ميلادي. في هذا الشهر تتباطأ الخُطى، تصفو النفس، وتتنفس الحياة إيقاعًا مختلفًا.
هو شهر الطفلة التي لا تزال تسكنني، تلك التي تخلع عنها عبء الاختبارات لتفتح ذراعيها للهواء الطلق، تركض في الخارج، تصطاد اللون الأخضر في نزهاتها القصيرة، وتتذوق بوظة الفستق من محل العم «بوجمعة» على زاوية الشارع، وتلتهم سندوتش التونة وهي تلعب بين أشجار الحديقة القريبة، وتبني خيمتها الخاصة من الملاءات القديمة على شرفة البيت.
في يونيو، تستيقظ هذه الطفلة من سباتها، هو شهر الحنين للذكريات وضحكات العائلة فوق سطح بيت الجدة، وأغاني إبراهيم تاتلس وهي تنساب من مذياع سيارة الخال العتيقة ونحن نخيط الطرقات، شهر الاشتياق إلى الزمن الذي كان كل شيء فيه ممكنًا.
وقبل كل هذا، قد جهّزتْ قائمة كتبها لليالي الصيف الطويلة، ولا أزال حتى اليوم أحافظ على هذه العادة وإن نضجت النصوص وتبدلت الأعمار.
لذلك، في يونيو، أتوق إلى قراءة الشعر، وكأن العالم قد صار قريبًا من الحلم، وأصبح الوقت أشد خفةً ورقّة واستعدادًا للإنصات.
نعيش في الشعر حالةً تجمع بين نقيضين: القلب والحدس، المشاعر والمنطق. إنه فن إدراك العالم لا بوصفه معطى، بل إمكانية. تجربة تعيد ربطنا بالواقع، لا لتفسيره وحسب، بل لعيشه بعمق وجداني وفكري. قد يعتقد البعض أننا نبالغ في تقدير الشعر وآثاره، لست في محل الدفاع عن الشعر وتبيان أغراضه، بل في وصف تأثيره عليّ. يقول شكسبير: «الشعر هو الموسيقا التي يحملها كل إنسان داخله»، صدق شكسبير في تشبيه الشعر بالموسيقا، فكلاهما له التأثير ذاته على مشاعرنا، وعلى أدمغتنا أيضًا. ربما تحمل القوافي في النهاية ما تحمله النوتات من سفر نحو الخيال والوعي.
وهذا ما أكدته عدة دراسات، منها الدراسة المنشورة في مجلة (Journal of Consciousness Studies)، حيث رصد باحثون من جامعة إكستير البريطانية أن الشعر، بخلاف النثر، له تأثير أقوى على الدماغ.
شارك آدم زيمان، الباحث الرئيس في الدراسة، تجربةً قرائية مع ثلاثة عشر متطوعًا من زملائه، تنوعت نصوصها بين تعليمات تقنية لتركيب نظام التدفئة، ومقتطفات من روايات، وسوناتات شعرية متفاوتة التعقيد، وقصائدهم المفضلة. وقد أُجريت التجربة باستخدام جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، لرصد المناطق الدماغية النشطة أثناء القراءة.
وكما هو مُتوقع، نشطت المناطق المسؤولة عن القراءة عند الاطلاع على النصوص، سواء كانت نثرًا أم شعرًا. غير أن الشعر، بخلاف النثر، أيقظ مناطق أخرى مرتبطة بالجهاز العاطفي-كما تفعل الموسيقا- تتموضع غالبًا في النصف الأيمن من الدماغ، وهي المسؤولة عن الشعور بالنشوة التي تتملكنا حين نُصغي إلى مقطع موسيقي أثير.
وعند قراءة القصيدة المفضلة لدى كل مشارك، لوحظ أن النشاط الدماغي انتقل من مناطق المعالجة اللغوية إلى تلك المرتبطة بالذاكرة، ما يدلّ على أن التجربة أقرب إلى الاستظهار منها إلى القراءة العادية. وفي حين أن النثر قادر بدوره على تحريك مشاعرنا، فإن الشعر يتسلل مباشرة إلى مناطق مثل القشرة الحزامية الخلفية والفصين الصدغيين الإنسيين، وهي مناطق مرتبطة بالمعرفة والذاكرة والإدراك، حيث لا يبقى للوعي بالذات سوى الانخراط الكامل.
بالتأكيد، لا ألتفت كثيرًا لما يحدث في دماغي أثناء قراءة الشعر، ولكن ما يشدني حقًا هو ذلك التواصل الذي ينشأ بيننا وبين الشاعر، بين القارئ والكلمات. كم مرة اندفعنا نحو حساباتنا على مواقع التواصل لكتابة جملة مفادها أن هذا الشاعر أو ذاك قد لامس شيئًا فينا؟ في الواقع، لا نعرف دومًا ما الذي لامسه تحديدًا، لكننا نشعر بذاك الأثر الخفيف الذي يستقر في أعماقنا، ويصعب أن يُمحى. وكلما استعدنا بيتًا من قصيدة أحببناها، انتعش ذلك الشعور من جديد، شعور القشعريرة التي تصيب أسفل عمودنا الفقري ويمنحنا السعادة، أليس هذا نوعًا من العلاج بالشعر؟

في صباح أحد الأيام الماضية، استيقظت أردّدُ أبياتًا للشاعر السوري منذر المصري، وكنت على يقين بأنني لم أقرأ له من قبل. أدهشني وقع تلك الأبيات عليّ. وبعد تفكير، تذكرت أنها تعود لقصيدة أهدتني إياها صديقة بمناسبة عيد من أعياد ميلادي السابقة. استحضاري لتلك الأبيات كان بمثابة استحضار لذكرى عزيزة، وحنين إلى صديقة غائبة. وكان أيضًا دعوة غير مباشرة للاقتراب أكثر من عالم هذا الشاعر الذي اقتنيت أعماله الكاملة منذ فترة قصيرة.
ولعل هذا ما يزيد الشعر بهاءً، مشاركته مع الآخرين، وقد لا نكتفي بالمشاركة فقط بل نقوم بتسجيل القصائد صوتيًّا، أو نلقيها مباشرة على أحبتنا، أولئك الذين لا تزعجهم أصواتنا، لأننا متى أحببنا قصيدة نجرب كل الطرق لتبليغ إحساسنا بها. حضرت الشهر الماضي أمسية شعرية للمخرج المغربي فوزي بنسعيدي، ألقى فيها أشعارًا لمحمود درويش، من حسن حظي لم يخذلني الرجل، كان يلقي القصيدة كما يشعر بها تمامًا، متجنّبًا تقليد طريقة إلقاء درويش التي يسقط فيها الكثيرون. يتوقف عند كلمات يراها أقوى من غيرها أو يرفع إيقاع أخرى، يجلس مع قصيدة ويقف مع أخرى، أحيانًا يتلو بلغة الشعر الأصلية أو مترجمًا إياه إلى الفرنسيّة، ألقى أمامنا على المسرح شعرًا، وفي الوقت نفسه ودون أن يتحرك كثيرًا، جسّد بصوته وملامح وجهه ويديه حالة تفاعل المتلقي مع شعر يحبَّه.
لا تكمن قوة الشعر في استحضار الحميمي فقط، بل له قوة أكبر في استحضار الذاكرة الجمعية أيضًا. منتصف شهر مايو الماضي، هطلت سماء روتردام شعرًا، بالمعنى الحرفي للكلمة وليس المجازي، حيث نظّمت مؤسسة الشعر العالمي (Poetry International) بالتعاون مع جمعية «كاساقراندي» (Casagrande) الفنية التشيلية فعالية «القصف الشعري» (Bombing of Poems)، خلال هذا الحدث. أُسقطت مئة ألف قصيدة من مروحية فوق منطقة بيننروت في قلب المدينة.
جاءت هذه المبادرة في الذكرى الخامسة والثمانين لقصف روتردام خلال الحرب العالمية الثانية، لتُستبدل القنابل بالكلمات. القصائد التي نُثرت كانت من تأليف خمسين شاعرًا ناطقًا بالهولندية، وخمسين شاعرًا تشيليًّا، وطُبعت بلغاتها الأصلية إلى جانب ترجمات إلى الهولندية أو الإسبانية، في تأكيد على الطابع الكوني للشعر وقدرته على تجاوز الحدود.
لا نستطيع الرسو على جوهر ثابت للشعر، أو بلوغ أسباب القشعريرة التي تسري في أبداننا، ولكن القصيدة في النهاية تظل هنا تواجه الفراغ والمجهول والأسئلة المفتوحة واليأس: «أشد ما أكرهه في اليأس…سهولته»، بهذه الحقيقة يستهل منذر المصري «آماله الشاقة» وتجربتي الأولى في قراءته.

ليس في استطاعة الأدب أن يغير الإنسان أو المجتمع، ومع ذلك، مع غياب الأدب تستحيل معاشرة البشر
تُبرِز هذه العبارة للكاتب الطاهر بن جلون، المستقاة من عمله الأيقوني «طفل الرمال»، أهمية الأدب وحدوده في عالمنا المعاصر. وهي تؤكد حقيقة يدركها معظم الأدباء: أن الأدب لا يمتلك القدرة السحرية على تغيير الأفراد أو المجتمعات جذريًّا.
في ظاهرها، تبدو الجملة متشائمة وهي تنفي عن الأدب هذه المقدرة التي يتغنى بها محبو الأدب. لكن المقطع الثاني يحمل دفاعًا ضِمنيًّا، بل تحذير: أن غياب الأدب لا يترك الإنسان على حاله، بل يدفعه إلى هاوية التوحّش والانغلاق. وكأنّ الأدب، وإن لم يكن مخلِّصًا، فهو يظل سبيلًا إلى حمايتنا، بإظهاره حقيقة أنفسنا. وهذا تحديدًا ما يود بن جلون شرحه في رواية «طفل الرمال»؛ هل يملك الإنسان أن يغفل عن حقيقته حتى مع نفسه؟
غياب الأدب لا يعني فقط غياب الجماليات، بل غياب أدوات مساءلة الذات والواقع. فهو يمنح القارئ مساحة للتخيل، لا للهروب، بل لصياغة رؤى مغايرة للعالم. فالكاتب الحقيقي هو ذاك الذي يعيش في التوتر القائم بين انتمائه للعالم ورفضه له في آن.
قد لا يصلحنا الأدب في النهاية، لكنه يمنحنا القدرة على احتمال الواقع دون أن ننكسر أو نكسر الآخرين.

معنى القلق وطبيعته الثقافية والنفسيّة والبيولوجية

صدر حديثًا عن دار الرافدين الترجمة العربية لكتاب «معنى القلق وطبيعته الثقافية والنفسيّة والبيولوجية» لمؤسس العلاج النفسي الوجودي رولو ماي وترجمة بندر الحربي.
يرى رولو ماي أن القلق ليس خصمًا ينبغي القضاء عليه، بل قوة خلّاقة تسكن جوهر الكينونة الإنسانية. إنه طاقة تحفّزنا على مقاومة العدم، ومحاولة منح الوجود معنًى. في هذا السياق، يرفض ماي اختزال القلق إلى مجرد خلل نفسي يُعالَج دوائيًّا كما تفعل بعض الخطابات السائدة، بل يؤكّد أنه مكوّنٌ أساسي من التجربة الإنسانية، بل وربما أحد منابع الحياة نفسها.
يتجاوز تحليل رولو ماي الحقل النفسي ليعبر مجالات الأدب والفن والفلسفة واللاهوت وعلم الاجتماع، في محاولة لبناء مقاربة ثقافية شاملة للقلق. يُعد الكتاب من أولى الكتب التي تناولت موضوع القلق في الولايات المتحدة الأمريكية، وتجدر الإشارة أن الترجمة العربية تأخرت للغاية في نقله إلينا، حيث نُشر الكتاب لأول مرة منتصف القرن الماضي، وأعيد تنقيحه سنة 1977. وتتميز لغة رولو ماي بالتعقيد والتكلف، لذا نتمنى أن تكون الترجمة العربية قد استطاعت تجاوز ذلك.

خَيَارات

تأليف: ليف أولمن / ترجمة: أسامة منزلجي / الناشر: المدى / عدد الصفحات: 179
«أفكّر في كل الخيارات التي لم أعرفها قط، وفي تلك التي اتّخذت بالنيابة عني - إرضاءً للحب، بدافع الخوف. أين تلاشت تلك الخيارات التي لم أُقم بها؟ كلها تشكِّل جزءًا من كياني. هي الإرث الذي تركته خلفي، واللوحة المكتملة لنفسي التي لا أستطيع أنْ أغيرها.»
حين تُذكر ليف أولمن، نستعيد حضورها في أفلام برقمان، ولا سيما «بيرسونا»، حيث تُجسّد ملامحها صمتًا وجوديًّا يتجاوز حدود الأداء، وذلك من خلال دور ممثلة مسرحية تتوقف عن الكلام دون علّة عضوية، فيغدو الصمت فعلًا احتجاجيًّا، واغتيالًا مؤقتًا للغة بوصفها وسيطًا مستنزَفًا. إنه انسحاب للتأمل، من أجل العودة بشخصية أقوى وأصدق.
لكن ليف لم تتوقف عند الصمت المفروض من برقمان، المخرج والزوج السابق. في كتابها «خيارات»، تُعيد اكتشاف ذاتها بالكتابة، بحثًا عن «المرأة التي ظنّت أنها هي». السيرة لم تكن مرآة للذات فقط، بل مواجهة صريحة مع ندمها وأسئلتها وهشاشتها. لم تكتب بقلمها وحده، بل بقلب مثقَل. تتقصّى معنى «الاختيار»، ومرارة ألا يكون دائمًا ممكنًا. فـ«خيارات» لا يحكي عن البطولات، بل عن الصدوع الدقيقة بين الحب الذي يُنهك، وعالم منتهك.
في هذا العمل، تسعى ليف إلى إعادة تعريف نفسها بعيدًا عن أضواء الشهرة، وسط عالم يجعل من «ترف الاختيار» امتيازًا. تحكي هواجس امرأة بلغت الأربعين عن دورها بوصفها أمًّا، وهي تعاين نضج ابنتها، ودورها ممثلةً وكاتبة في احتكاك مستمرة مع العاملين في الفن والجمهور. ثم أخيرًا دورها بوصفها إنسانة تواجه لأول مرة المأساة البشرية في أبشع تجلياتها.
من قرأ كتابها الآخر «أتغير» الذي صدر عام 1976 سيشعر بأن خيارات 1984، أتى مثل موجة أخيرة بعد هدير أمواج العاصفة. كتبت ليف «أتغير» في لحظة كانت لا تزال فيها تبحث عن صوتها بعيدًا عن ظل إنقمار برقمان. لذا جاء نصها أكثر تفتّتًا وتجريبية، كأنه فسيفساء من الذكريات؛ تستكشف فيه هويّتها من خلال مهنتها، وحياتها العاطفية. هناك هشاشة واضحة، وحنين محمّل بالأسئلة.
بين العملين يتجلى فارق النبرة، «أتغير» يطرح التساؤلات، و«خيارات» يحاول التعايش مع عبء الإجابات. هناك نضج ووضوح وانحياز لفعل ما في وجه الألم، لا مجرّد تأمله. شخصيًّا، أحببت «أتغير» لأني وجدته أكثر عذوبة في هشاشته، لكن قراءة العملين تمنحنا صورة مكتملة عن امرأة قرّرت أن تحيا بصدق وأن تخرج إلى الحياة والمخاطرة بهذا الفعل مثل ما فعلته شخصيتها الأثيرة «نورا» في مسرحية هنريك أبسن الشهيرة «بيت الدمية».
لماذا بقيت؟

تأليف: آن كلوتيلد زيغلر / ترجمة: علي يوسف أسعد / الناشر: صفحة سبعة / عدد الصفحات: 309
سيقوم المفترس بتعزيز ممارسات الافتراس كلها، ما إن يعرف بوجود نيّة في الانفصال
غالبًا لا نُدرك هول ما مررنا به في علاقة سامة تحت سيطرة شخص نرجسي منحرف، إلا بعد أن نغادر تلك الدائرة ونقف على الضفة الأخرى؛ الضفة الآمنة. هناك، يغمرنا شعور يتراوح بين الخلاص والذهول، ويباغتنا السؤال المؤلم: «لماذا بقيت؟»
سؤال يكرره المحيطون دون وعي، فيخفي خلفه اتهامات مبطنة بالضعف والهشاشة، أو حتى الاتهام باضطرابات نفسية كالعُصاب أو المازوشية، وهي اتهامات تتجاهل تعقيدات السياق وتبخس تجربة الضحية.
في كتابها «لماذا بقيت؟» تُقدّم الطبيبة النفسية آن-كلوتيلد زيقلر، بعد ثلاثين عامًا من العمل مع الضحايا، طرحًا مختلفًا. بدلًا من تسليط الضوء مجددًا على النرجسي السام، توجهت نحو من يُهمَّش عادةً في الخطاب: الضحية، أو كما تصفها الكاتبة، «الفريسة»، بكلمات مشوبة بالاحترام العميق.
هذا الكتاب ليس عن الجلّاد، بل ضحيته، عن النساء غالبًا، اللاتي لم يرحلن في اللحظة الأولى التي أظهر الطرف الآخر علامات نرجسيته. تحرر زيقلر السؤال القاسي «لماذا لم ترحلي؟» من اختزاله الجارح، وتعيد طرحه بلغة متفهمة لا تخدش ولا تُوبّخ الضحية، بل تكلّمها وهي لا تزال خلف القضبان، وترشدها إلى طريق الخروج بأقل الخسائر.
الجزء الأول من الكتاب يشرح بدقّة كيف تُبنى العلاقة المؤذية، من آليات السيطرة المتدرجة إلى الانزلاقات التي تُفقد الضحية عقلها. فيما يتناول الجزء الثاني الشروخ الداخلية التي سهّلت هذا التسلّل: نقاط الضعف التي عطّلت آليات الدفاع على مدى الأيام.
وما يميّز طرح زيقلر هو رفضها تحميل الضحية عبء الشفاء وحدها. فهي لا تلجأ إلى «يجب أن» و«كان عليكِ»، بل تطرح أسئلة أهم: «لماذا لم تعُد هذه العبارات تؤتي أُكُلها؟»،و «لماذا يبدو الخلاص مستحيلًا رغم وضوح الألم؟». بمنتهى التعاطف، تقدم نصيحة صادقة دون أن تفرضها، فيصير الكتاب رفيق طريق التحرر.
أما المرحلة الأصعب فتأتي بعد هذا الوعي: «الآن وقد أدركت عمق المشكلة، كيف أستطيع الفكاك مما أنا فيه؟» وهنا لا تقدم زيقلر وصفة جاهزة، بل تدعو إلى ترميم الذات ببطء، بخطى صغيرة، ولكن بثبات.
إن كنتَ في قلب علاقة سامة، وتجهل لمَ يصعب اتخاذ القرار رغم معرفتك ضرورته، أو إن خرجت منها، وتبحث عن مفاتيح تمنع تكرار الألم، أو حتى إن كان في محيطك من يعيش علاقة مماثلة، وتودّ الفهم عوض إصدار الأحكام، أو ببساطة، إن كنت ممن جنبتهم أقدارهم الوقوع في هذا الفخ وتود الاطلاع على الموضوع، فهذا الكتاب لك.
إلى اللقاء في الأعالي

تأليف: بيير لوميتر / ترجمة: حنان قصاب حسن / الناشر: ممدوح عدوان / عدد الصفحات: 608
من الروايات الجميلة التي قرأتها مؤخرًا وخلفت لديّ انطباعًا يجمع بين المتعة والمرارة، رواية «إلى اللقاء في الأعالي» للكاتب الفرنسي بيير لوميتر، سبق وشاهدت الفلم المقتبس عنها منذ فترة الحائز على جائزة «سيزار» الفرنسية لأفضل سيناريو، وأُعجبت بما يحمله فكر لوميتر من سخرية مريرة. ولكن قراءة الترجمة العربية الصادرة مؤخرًا قربتني أكثر من عالمه، ومن فرادة صوته السردي.
أصبحت الرواية، الحائزة على جائزة الغونكور المرموقة عام 2013، عمادًا من أعمدة الأدب الفرنسي المعاصر، وقد أثرت بعمق في القرّاء والنقاد على حدٍّ سواء. يقدم لوميتر نظرة فريدة حول تداعيات الحرب العالمية الأولى، مجدِّدًا بذلك الرواية التاريخية، إذ يدمج بين الواقع التاريخي الصارم والتخيل الأدبي، ليغمر القارئ في الأجواء الضبابية التي أعقبت الحرب.
بفضل سرد جذاب، ينجح بيير لوميتر في التقاط جوهر تلك الحقبة القاتمة، مسلطًا الضوء على التحديات التي واجهها الجنود الناجون، ممن عُرفوا اصطلاحًا بـ«الوجوه المحطمة» (Les gueules cassées)، وهم الجنود الذين شوهت الحرب وجوههم، فصاروا غرباء حتى عن صورهم القديمة، ولم يلقوا سوى القليل من الدعم عند عودتهم. عبر شخصيتي «ألبير مايار» و«إدوار بيريكور»، الشخصيتين الرئيستين في الرواية، تتجسد مرارة ما بعد الحرب، لا بوصفها نهاية الصراع، بل بدايته الحقيقية.
«ألبير»، الموظف البسيط، ينقذ الفنان الشاب «إدوار» من موت محقق في لحظة بطولية، ليتداخل مصيرهما ويتوحد في محاولات الانتقام من نظام احتفى بالموتى من الجنود وخلّدهم، بينما تجاهل الناجين وتركهم يتسولون في الشوارع. «إدوار»، بوجهه المشوه وأقنعته المزركشة، يرفض أن يُمحى من الذاكرة، فيخطط مع «ألبير» لعملية نصب ماكرة تهدف إلى فضح نفاق الدولة. وصف لوميتر حالتهما بعد الحرب بـ«الانهيار الأخلاقي لجيل تمت التضحية به».
من خلال هذه الحبكة الجريئة، تنمو بين الرجلين علاقة متشابكة، قائمة على الحاجة والعتَب والانتماء المتبادل لهامش العالم، علاقة إنسانية نادرة تقاوم التشظي، وتضيء ببساطة هشاشتنا البشريّة.
«إلى اللقاء في الأعالي»، رواية عن حرب طحنت رجالها، وعن الصداقة بوصفها فعل مقاومة. دعوني أخبركم بأمر آخر يدعو إلى التفاؤل، لم يتفرغ لوميتر للكتابة الروائية إلا وقد تجاوز الخمسين من عمره.


سواء كنت صديقًا للكتب أو كنت ممن لا يشتريها إلا من معارض الكتاب، هذه النشرة ستجدد شغفك بالقراءة وترافقك في رحلتها. تصلك كلّ أربعاء بمراجعات كتب، توصيات، اقتباسات... إلخ.