وونق كار واي «أصلي» صُنع في الصين

زائد: أفلام كار واي ليست للجميع

«صُنع في الصين» عبارة صغيرة مطبوعة في زاوية خفيّة أسفل المنتجات، اعتدت رؤيتها ختمًا على شيء مؤقت، لا يستحق التعلّق به، وُجِد ليُستهلك ثم يُنسى. عبارة تحمل حُكمًا مسبقًا على القيمة والعمر.

لكن ماذا لو كان ثمة شيء «صُنع في الصين» لا يُستهلك ولا يتعطّل ولا يُنسى؟ شيء لا يُقاس بوزنه أو سعره، بل بقدر ما يتركه فيك من أثر؟ شيء لا ينكسر، بل يكسر فيك شيئًا؟

هنا يظهر وونق كار واي، ليقلب هذا المفهوم رأسًا على عقب؛ فلَم يصنع أفلامًا على أنها منتجات تُستهلك، بل ذكريات تبقى. أفلام لا تحتاج إلى أن تفهمها، بل أن تشعر بها. تتحدث أفلامه عن نفسها بمشاهد تتراكم فيها اللقطات كأنها ذكريات قديمة، أو من أحلام لا تستطيع تفسيرها.

عبد العزيز خالد


تصميم: أحمد عيد
تصميم: أحمد عيد


وونق كار واي «أصلي» صُنع في الصين

محمد الشبعان

وونق كار واي: حلمٌ حميمي

كأنّي غفوتُ في ممرٍّ ضيّق على صوتِ وترٍ يُعزف في أذني، ولونٍ أعمى بصري، ألقاني في عالمٍ لا أفهم لغته ولا أعرف ملامحه. كانت عيناي تتحركان وأذناي تتراقصان، أمّا جسدي فساكن. يأخذني بين مسافاتٍ وعلاقاتٍ تتشابك وتبعدني عن واقعي، وتغمرني بمشاهد تُعيد إليّ شغف الحياة.

كيف لإنسانٍ أن يُفهَم بلا تواصل؟ ويؤثِّر بلا عقاب؟

شاعريته تبدأ بكلماتٍ مبعثرة، وتتلاشى في حضوره الهويات. ويُظهر أبطاله مركّزًا على كلماتهم التي يُلقونها على جمهورهم بهدوءٍ وانكسار. من قلب هونق كونق، يقف خلف عدستها حاكمٌ يسيطر على شعبها باسم: وونق كار واي.

همسٌ فوق الصراخ

يبني كار واي عالمه الخاص، يتنفّس فيه ألوانه الحيّة؛ تبدأ بالأبيض والأسود، وتنتصف بالأحمر والأصفر، وتنتهي بالأخضر والأزرق. تملأ هذه الألوان إطاراته لتعكس الشعور العام لما يحدث أمامنا.

يستخدم هذه الألوان بديلًا للجرأة، للعلاقات المحاصَرة بالمسافات القريبة، المتلهفة للإفصاح عمّا بداخلها. يُضفي على المشهد طبقةً لطيفة رغم قساوة المحيط؛ تمويهًا عن الغياب بسردٍ يشعرك بالحنين.

ترجمة بصرية

«أفلامي لا تتناول أبدًا ما تبدو عليه هونق كونق، أو أيّ شيءٍ يقترب من صورةٍ واقعية، بل ما أفكّر فيه بشأن هونق كونق، وما أريدها أن تكون عليه.»

يُصوّر الخلفية بتقنيةٍ ثابتة ومتقطعة، لا تركز على الأشخاص العابرين، في ترجمةٍ بصرية للشعور. يتوقّف الوقت في أذهان أبطالها، ويعلو صوتهم الداخلي كالسِّرّ المفضوح.

وبينما ينهار العالم من حولهم، يُشيّد كار واي حركةً ضبابية تمنح من في المقدّمة خصوصية وتُحيطهم بالأهمية.

علاقة غير خطية

لا يسير عشّاقه على خطٍّ زمنيٍّ تقليدي، ولا يتبعون تسلسلًا واضحًا للأحداث، بل يهربون من شمسهم لممارسة حُبّهم المُحرَّم ليلًا. يترك أبطاله في سباقٍ مع ذكرياتهم وزمانهم، مبعثرًا آمالهم.

الكاميرا في أفلامه ليست مجرد راصد، بل تتفاعل مع كلّ تعبير وكلّ عضلة تتمدّد، وكأنها جزء من الشخصيات.

في «قطار تشونقكينق السريع»، يروي علاقاتهم العابرة ويربطهم بخيوطٍ معقّدة؛ تُبعِدهم وتشدّهم في آنٍ واحد. وفي «في مزاجٍ للحب»، نرى فتنةً نزاهتها محظورة. وفي «الملائكة الساقطة»، يُسقِطهم من سماء الألفة والانتماء.

بموسيقا تصويرية تُحوِّل المَشاهد البسيطة إلى شعرٍ أدبي، ونغمات تُرخي التعقيدات بجودة تناغمها، وكأنها خُلقت خصيصًا لتلك المشاهد، ثم اختفت بعدها.

هلّا تركتني في سباتي؟

أقولها بلا تردد: أفلامه ليست للجميع.

عند دخولك عالمه، والاستيقاظ في وعيه، ستتمنّى أن تزيد ساعات نومك، وأن يبقى الفراش دافئًا. إنّه حلم كالثقب الأسود؛ يجذبك إلى دوامته، وتطول فيه الحوارات، وتُلحَّن المشاهد لتزداد قوةً وثباتًا.

حلمك لا يحتمل المشاركة، ليس لليلة أربعاء برفقة الأصحاب، ولا مقترحٍ عند السؤال عن توصيةٍ سريعة للتسلية.

وونق هو عرّاب الصين، هو سورها العظيم، هو السينما الآسيوية التي تُحاكي الفرد ببساطتها وعمقها. تأثيره يتجاوز الأحلام، يفتح عينيك على رؤيةٍ شعرية سينمائية، تجعلك مستيقظًا لأيام، تسترجع شريطها، وتبتسم عند ذكرها.


Chunking Express» (1994)»
Chunking Express» (1994)»

  • يُعرض اليوم الخميس في صالات السينما السعودية فِلم الرسوم المتحركة «How To Train Your Dragon»، الذي يروي حكاية فتى «فايكنق» يُصادق تنينًا ويُغيّر تاريخ العداء بين قومه وهذه الكائنات الأسطورية.

  • أُصدر الإعلان التشويقي الرسمي لفِلم «Eddington» من إخراج آري آستر، ومن بطولة خواكين فينيكس وإيما ستون وبيدرو باسكال. تدور أحداث الفلم خلال جائحة كورونا؛ إذ تنشب مواجهة مشحونة في بلدة إدينقتون بولاية نيو مكسيكو، حين يتصادم شريف البلدة «جو كروس» (خواكين فينيكس) المعادي للكمامات، مع «تيد قارسيا» (بيدرو باسكال) عمدة البلدة الذي يسعى لإعادة الانتظام، في سباق انتخابي يتحوّل إلى حرب أهلية.

  • أعلنت «Pixar» تولّي المخرج بيتر سوه، المعروف بأفلام مثل «The Good Dinosaur» و«Elemental»، إخراج الجزء الثالث من فِلم «The Incredibles».

  • حقق فِلم «Sinners» أعلى إيرادات لفِلم أصلي في السوق الأمريكية خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة.

  • كشف جيمس قن عن فِلم جديد من سلسلة «Wonder Woman» يجري العمل عليه حاليًّا.

عبد العزيز خالد


«Yumeji’s Theme» (02:29)

فِلم «In the Mood for Love»
فِلم «In the Mood for Love»

في فِلم «In the Mood for Love»، لا تُقال المشاعر، بل تُرى وتُستشعر في نظراتٍ تخاف أن تطيل، وفي خطواتٍ تتردّد داخل ممرّات ضيّقة، ومواعيد لا تُلبّى. يبني وونق كار واي علاقة بين جارَين يكتشفان خيانة زوجيهما، لكن تلك العلاقة على اقترابها، تبقى مؤجلة، ومعلّقة في لقطات بطيئة وإيماءات مترددة، وموسيقا تُكرّر نفسها.

كيف صِيغ «المزاج»؟

اختار وونق كار واي للفِلم مزيجًا صوتيًّا غير مرتبط بزمن أو مكان بعينه؛ فاستعان بمقطوعة يابانية حزينة، وأغنية إسبانية بصوت نات كينق كول، وقطعة تأملية من تأليف مايكل قالاسو. لا تعكس هذه الاختيارات ثقافة محددة بقدر ما تُحيط بالشخصيات كغلاف شعوري، تعبّر عمّا لا يمكن قوله.

يهيمن على التوزيع استخدام الكمان والتشيلو وآلات النفخ الخشبية، في حين يضيف صوت نات كينق كول دفئًا مشحونًا بالعاطفة.

ثلاث مقطوعات لثلاث حالات شعورية

لحن كمان دائري، يتوقف ويُعاود الدوران؛ ليعكس الحيرة والتردّد. استخدمه كار واي تسع مرات في مشاهد الانتظار والسير واللقاءات المؤجّلة. يكشف هذا التكرار عن قلق داخلي، ويمنح حياة للصمت الظاهر.

أغنية إسبانية بإيقاع راقص بطيء، تُغنّى فيها كلمة «ربما» (Quizás) بإصرار، في انسجام تام مع علاقة تُبنى على الاحتمال. تظهر الأغنية في لحظات اقتراب بلا اكتمال؛ لتعكس التردد بين الامتناع والرغبة.

مقطوعة تشيلو وآلات وترية منخفضة الإيقاع، تظهر في النهاية كمرثية موسيقية صامتة. وترافق مشهدًا يُودَع فيه السرّ في جدارٍ حجري، كأنها اعتراف صامت يضع حدًّا لعلاقة وُلدت متأخرة، وماتت قبل أن تُعلَن.

عبد العزيز خالد


Giphy /  فِلم «Days of Being Wild»
Giphy / فِلم «Days of Being Wild»

اليوم نقول «أكشن» في هذا المشهد من فِلم «Days of Being Wild» الصادر عام 1990.

يحكي الفِلم قصة «يودي»، شاب وسيم ومضطرب نفسيًّا يعيش في هونق كونق في الستينيّات، وتتقلّب حياته العاطفية بفعل شعورٍ مزمن بالهجر منذ الطفولة؛ إذ نشأ «يودي» على يد امرأة ربّته، لكنها ليست والدته البيولوجية، وهو ما يغذّي داخله إحساسًا عميقًا بالرفض والفراغ. 

يمضي «يودي» أيامه في علاقات عاطفية عابرة مع مجموعة من النساء، لكنه يبقى أسيرًا لهوسه بالعثور على والدته الحقيقية التي تخلّت عنه. ويقوده هذا الهوس إلى الفلبين، في رحلةٍ أخيرة لفهم هويته ومحاولة ملء الفراغ الداخلي الذي ظل يطارده. 

يأتي هذا المشهد في الجزء الأخير من الفِلم، بعد وصول «يودي» إلى الفلبين لمواجهة والدته. وبعد رحلة طويلة مشبعة بالتوتر والانتظار، يقف أخيرًا في قصر فخم تعيش فيه والدته؛ امرأة ثرية عاشت طوال حياتها على الضفة الأخرى من العالم، منفصلة تمامًا عن ابنها.

يبدأ المشهد بلقطة خارجية تُظهر القصر محاطًا بجدران عالية وحديقة ضخمة، لتنقل الإحساس بالانفصال العاطفي والجفاء. لكن اللقاء الذي توقّعه «يودي» طوال حياته لم يحدث؛ لا احتضان، ولا دموع، بل رفض صريح من أمه لمقابلته أو الاعتراف به.

نسمع أيضًا في المشهد صوت «يودي» الداخلي وهو يقول: «12 أبريل، 1961، وصلت أخيرًا إلى منزل أمي، لكنها لم تكن راغبة في رؤيتي، وقالت العاملة إنها لم تعد تعيش هنا. كنت أعلم أنها كانت تحدّق في ظهري وأنا أغادر، لكن كان يجب عليّ ألّا ألتفت. كنت فقط أريد أن أراها، لكنها لم تمنحني الفرصة، وأنا بدوري لم أمنحها إياها.»

نلمس في هذا الاعتراف الداخلي تحوّلًا في وعي «يودي»؛ فلم يعُد يركض خلف صورة أمٍّ غائبة، بل يقف على حافة حقيقة أن اللقاء الذي انتظره لم يكن ممكنًا أصلًا؛ لا لأن أمه لم تشأ ذلك فقط، بل لأنه هو ذاته لم يعُد يرغب فيه كما تخيّله.

يكمن جوهر شخصية «يودي» في امتناعه عن الالتفات، لأنه قضى حياته يراوغ الالتزام، ويتنقّل بين النساء دون رغبة حقيقية في البقاء، مدفوعًا بنفور داخلي من الانتماء الكامل. وهذه اللحظة تتويج لتلك النفس المنكسرة. والامتناع عن الالتفات امتناعٌ عن مواجهة خيبة الأمل الأخيرة ورفضٌ للاعتراف بالخذلان.

يبلغ هذا المشهد ذروة رحلة «يودي» النفسية، حيث يتحوّل أمله بلقاء والدته إلى قطيعة نهائية، يدخل في إثرها سلسلة من المتاعب والاحتكاكات التي تُدخِله في منعطفات أكثر قسوة.

عبد العزيز خالد


فقرة حصريّة

آسفين على المقاطعة، هذه الفقرة خصصناها للمشتركين. لتقرأها وتستفيد بوصول
لا محدود للمحتوى، اشترك في ثمانية أو سجل دخولك لو كنت مشتركًا.

اشترك الآن

بدأ وونق كار واي مسيرته في صناعة الأفلام من خلف الكواليس، لا من كرسي الإخراج. فبعد تخرّجه من قسم التصميم القرافيكي، التحق بدورة تدريبية في محطة تلفزيونية، وبدأ العمل كاتبًا لمسلسلات تلفزيونية، حيث تعلّم البناء الدرامي وتحرير الحوارات.

بحلول منتصف الثمانينيّات، تحوّل كار واي إلى كتابة السيناريوهات للأفلام، حيث خاض عدّة تجارب أعطته الفرصة لرؤية كيف تُحوَّل الكلمات المكتوبة إلى صور على الشاشة. وفي عام 1988، أخرج أول فِلم له بعنوان «As Tears Go By»، مستلهمًا أسلوبه من فِلم «Mean Streets» لمارتن سكورسيزي. ومع أن الفِلم بدا فِلم عصابات تقليديًّا، ظهرت في الفِلم بعض عناصر كار واي الشهيرة في أفلامه اللاحقة، مثل الاهتمام بالعزلة والزمن غير الخطي واختياراته المميزة للموسيقا.

وبهذه المعلومة نستهلّ فقرة «دريت ولّا ما دريت» عن شاعر السينما الآسيوية وونق كار واي:

  • في أوائل التسعينيّات، كان كار واي يتخبّط بين مشروعات متعثّرة، حتى وجد نفسه مخرجًا لفِلم «Chunking Express» الذي لم يُخطط له أصلًا؛ فبدأ تصويره دون نص سيناريو مكتمل، ودون تحديد مسبق للمواقع والمَشاهد، إذ كان كار واي يكتب المشاهد مساءً، ويصوّرها في اليوم التالي. لم يكن الفِلم إلا محاولة منه لشغل وقته في أثناء توقف إنتاج مشروع آخر أكثر طموحًا وهو «Ashes of Time» الصادر عام 1994. لكن ما وُلد عملًا جانبيًّا مؤقتًا، تحوّل إلى أحد أكثر أفلام التسعينيّات تأثيرًا. 

  • بعد تجربة «Chunking Express»، تعمّد كار واي أن لا ينتهي من كتابة نصوصه قبل التصوير، وكان يدفع الممثلين للعيش في الشخصيات دون معرفة مصيرها. قال الممثل توني ليونق ذات مرة إنه لم يعلم كيف ستنتهي قصته في فِلم «2046» حتى آخر يوم تصوير. 

  • يعتمد كار واي على التحرير بوصفه مرحلة إبداعية لا تقل أهمية عن التصوير؛ فكثيرًا ما يدخل غرفة المونتاج أيضًا دون سيناريو واضح، ويعيد ترتيب المشاهد وتشكيل أكثر من بنية للفِلم في أثناء عملية التحرير. يصف كار واي هذه المرحلة بأنها شكل من أشكال إعادة الكتابة، لا يتردد فيها في حذف مشاهد رئيسة أو تغيير مسار السرد بالكامل. وصرّح كار واي أنه استمر في تحرير فِلم «2046» حتى الليلة التي سبقت عرضه الأولي في مهرجان كان.

  • تأثّر كار واي، بعد انتقاله في صِغَره إلى هونق كونق، بأفلام الموجة الفرنسية الجديدة وأعمال مارتن سكورسيزي، رغم عدم إتقانه للغة الكانتونية المستخدمة في ترجمة الحوارات. وتأثر كار واي بالصورة نفسها أكثر من الكلمات، وهو ما يُفسّر اعتماده في أفلامه على عناصر بصرية وشاعرية أكثر من اعتماده على الحوار.

  • في عام 1997، فاز كار واي بجائزة أفضل مخرج من مهرجان كان السينمائي عن فِلمه «Happy Together»، ليصبح بذلك أول مخرج صيني ينال هذا التكريم.

  • يبتعد كار واي قدر الإمكان عن الأضواء. ودائمًا ما يختبئ خلف نظارات شمسية في الأماكن العامة، ولا يحب المقابلات الصحفية، ويرفض تفسير أفلامه والحديث عنها، بل يؤمن أن الفِلم الجيّد لا يحتاج إلى تفسير.

  • في عام 2013، كرّمت وزارة الثقافة الفرنسية كار واي بمنحه وسام «قائد في الفنون والآداب»، وهو أحد أرفع الأوسمة الثقافية في فرنسا، تقديرًا لإسهاماته في السينما العالمية، ودوره في تعزيز حضور الثقافة الفنية الآسيوية على الساحة الدولية.

عبد العزيز خالد

النشرة السينمائية
النشرة السينمائية
أسبوعية، الخميس منثمانيةثمانية

مقالات ومراجعات سينمائية أبسط من فلسفة النقّاد وأعمق من سوالف اليوتيوبرز. وتوصيات موزونة لا تخضع لتحيّز الخوارزميات، مع جديد المنصات والسينما، وأخبار الصناعة محلّيًا وعالميًا.. في نشرة تبدأ بها عطلتك كل خميس.

+90 متابع في آخر 7 أيام