وهم تفوق الديمقراطية
علو كعب النظام الديمقراطي وهم محض، وصل ذروته في وقتنا الحاضر مع احتداد الدعاية الأمريكية.


مع تبدّل الظروف والأحوال بمرور القرون، ظلّ تساؤل «نظام الحكم الأمثل» راسخًا ودائمًا ضمن تساؤلات الفلاسفة وعلماء السياسة. وازدادت أهميته بعدما قُدّمت له إجابات، مثل الديمقراطية، واستُخدمت مبررًا لغزو قوى استعمارية لغيرها وفرض نظام الحكم الذي تعدّه تلك القوى الخيار الأصح والأمثل حتى باختلاف المكان والزمان.
يحلّل هذا العدد بعض جوانب هذا السؤال، وينقد -بالتحديد- توهّم علوّ الديمقراطية المطلق على غيرها من أنظمة الحكم.
قراءة ماتعة!
عمر العمران


الدارس للسياسة والعلوم الاجتماعية كافة يضع الديمقراطية -بوصفها نظامًا سياسيًّا- في مكانة لا تعلو على غيرها من النظم السياسية الأخرى. فالنظم تتشكل وتحيا لقرون تبعًا لمتغيرات عدة، أهمها الطبيعة المجتمعية والأسس الأنطولوجية والإبستمولوجية لأي حضارة في أي فترة زمنية كانت.
لكن علو كعب النظام الديمقراطي وهم محض، وصل ذروته في وقتنا الحاضر مع احتداد الدعاية الأمريكية واستغلالها لقوتها العظمى منذ الحرب العالمية الثانية، ومن ثم مع أُحاديتها المهيمنة على النظام الدولي بعد انكسار شوكة المعسكر الشيوعي إثر سقوط جدار برلين عام 1991.
وزاد من ترسيخ هذا الوهم عجز النظم السياسية الأخرى عن الدفاع عن نفسها في ظل الاجتياح الأمريكي وسيطرته التامة، ليس فقط على إدارة النظام المالي والسياسي للمجتمع الدولي، بل حتى في تشكيل الهويات وتغذية العقول ونشر المعارف، من خلال الترويج لثقافتها وقيمها ومبادئها على أنها المعيار الذي لا بد لكل إنسان ومجتمع ودولة حضارية أن تحذو حذوه.
وإن خالط أيَّ امرئٍ شكٌ حيال وصم علوّ الديمقراطية بالوهم المحض، فعليه فقط قراءة الأحداث السياسية الكبرى منذ ستينيّات القرن الماضي وحتى زمننا الراهن، لتتضح عيوب ذلك النظام قبل محاسنه، رغم ما حظيت به القوة العظمى الأمريكية من أدوات وتقنيات وطرق متطورة في تشكيل العالم، ورغم تبرير انتهاكاتها وتدخلاتها في شؤون الدول المختلفة بذرائع الحرب على الإرهاب والحرب على الاستبداد ونشر الديمقراطية للشعوب والمجتمعات المضطهدة.
وكأن الديمقراطية هي الترياق الذي يُذهب كل أزمات الشعوب الفقيرة والمغلوبة. وما أشبه اليوم بالأمس؛ إذ كانت كل القوى الاستعمارية تستخدم شعارات نشر التمدن، ونشر الحضارة، ونشر قيم «الحرية»، وصولًا إلى الحاجة إلى نشر الديمقراطية بوصفها نظامًا سياسيًّا «يردع القمع ويطبق المساواة».
الديمقراطية نظام سياسي له مساوئ وعيوب تمامًا كما له إيجابيات ومحاسن، وهو في هذا الحكم لا يختلف البتة عن أي نظام سياسي آخر، وكل ذلك تابع لطبيعة المجتمع وثقافته وأسسه المعرفية.
إن اتفقت مع هذا الطرح أو خالفته، وإن جادلت بتفوق الديمقراطية أو خلاف ذلك، فمحاولتي في هذه المقالة لا تسعى للتفصيل في ماهية النظم السياسية وتقييمها حسب الأفضلية، ولكن أحاول طرح رؤى تاريخية ومعرفية تتحدى النظرات السائدة إزاء الديمقراطية والنظم السياسية.
وأعي تمامًا القدر الهائل من النقاشات الفلسفية والفكرية التي قد تنطوي عليها جدالات تفوّق الديمقراطية، وقراءتي ليست اعتباطية أو رغبوية؛ إذ سأبرهن على عيوب وتناقضات في صميم أكمل النظم الديمقراطية الحديثة وهو النظام الديمقراطي الليبرالي الأمريكي.
لتكون هذه البراهين مدخلًا لمقالات لاحقة تناقش إشكاليّة مهمة ومنضوية ضمنيًّا تحت وهم «تفوق الديمقراطية»، ألا وهي: كيف أصبحنا نسلّم بما يسلّم به العقل الغربي؟ لا سيما في قراءته لتاريخنا ونظمنا السياسية والمعرفية والاجتماعية. وما دور الاستشراق في ذلك؟ وكيف تغدو الأطر المعرفية للعلوم المشكَّلة حديثًا من بعد عصر التنوير الأوربي -بما فيها العلوم الاجتماعية والسياسية- حاجزًا يدّعي «العقلانية» وصندوقًا مانعًا للطرح الفكري من خارجه؟
نقض الدلالة الإيجابية الضمنية لكلمة «الديمقراطية»
الأمور «الديمقراطية» ليست جيدة في ذاتها، والأمور «غير الديمقراطية» ليست سيئة في ذاتها. والاعتقاد بهذا وهم صريح؛ فالمؤسسات المجتمعية كالجامعات، أو الخاصة كالشركات مثلًا، ليست ديمقراطية، لكن هذا لا يعني أنها سيئة في ذاتها.
في السياسة، كانت الديمقراطية بالنسبة إلى الشيوعيين تعني المساواة الجماعية لا حرية الفرد. وبلدان، كالاتحاد السوفيتي، رأت نفسها ديمقراطيات حقيقية؛ تزيل الطبقات الاقتصادية وتفرض المساواة وتشغّل كل أفراد الشعب وتوفر التعليم. وقد رأت تلك البلدان الديمقراطية في المجتمعات الغربية، كالولايات المتحدة الأمريكية أو أوربا، مجرد صراع بين نخب صغيرة. وبالمقابل، رأت البلدان الرأسمالية الأنظمةَ الشيوعية ديمقراطيات مشوَّهة تخضع لسيطرة حزب واحد وتفتقر إلى الحريات المدنية والفردية.
وقد يشار إلى محاور الديمقراطية الرئيسة على أنها ثلاثة: المشاركة السياسية من خلال التصويت والانتخابات، والمنافسة كما يحدث بين الأحزاب، والحرية كحرية التعبير والتجمع والتظاهر. لكن هذه الإشارة تنبع من داخل الرؤية الغربية، صاحبة الديمقراطية الليبرالية، التي تركز على الحريات الفردية وتُعلي من شأنها، بخلاف النظم الديمقراطية التي تحتوي على إجراءات انتخابية في صنع القرار، ولكنها تهتم بالصالح العام وتحقيق المساواة وحريات المجتمع برمّته على حساب الحرية الفردية.
تاريخ الديمقراطية
تعود جذور مؤسسات الديمقراطية وممارساتها إلى اليونان وروما القديمتين. لكن النظام السياسي في تلك الحقب، وبالأخص في أثينا، كان ديمقراطيًّا مباشرًا في مجتمع صغير؛ مجتمع الدولة - المدينة. في حين تأسست الإمبراطورية الرومانية على مفهوم الجمهورية الذي ركز على فصل السلطات داخل الدولة وتمثيل المجتمع من خلال موظفين منتَخبين. بمعنى أن أثينا كانت بها سيادة شعبية، وروما اختصت بالهيئات التشريعية.

لكن، في كل حال، ينبغي التنبه إلى أمرين أشار إليهما علماء سياسيون معاصرون، منهم باتريك أونيل في كتابه «مبادئ علم السياسة المقارن»: أولًا، أن الديمقراطية اليونانية المباشرة والجمهورية الرومانية لا يمكن أن تُعرّفا بأنهما ديمقراطيات ليبرالية بمعايير الوقت الحاضر. وثانيًا، أن تطور النظام السياسي الديمقراطي لم يكن خطًّا طويلًا لم ينقطع من اليونان القديمة إلى اليوم، كما يُتصور في الفضاءات السياسية الحديثة.
فالجمهورية الرومانية مختلفة إلى حد كبير عن الديمقراطية التشاركية اليونانية، وانهارت الاثنتان مع الزمن. والعالم الغربي نفسه يؤرخ للديمقراطية الحديثة بأن بوادر ظهورها كانت في إنقلترا القرن الثالث عشر، حين أجبر نبلاؤها الملكَ جون على توقيع «الماقنا كارتا»، وهي وثيقة كبحت حقوق الملك ووضعت أساسًا لأول هيئة تشريعية في أوربا الحديثة.
وقد اتسعت الممارسات الديمقراطية مع الوقت على مر القرون، وصولًا إلى الحرب الأهلية الإنقليزية التي اندلعت في عام 1642 بين الملك تشارلز الأول والبرلمان، وانتهت بقطع رأس الملك. وكانت الدولة في إنقلترا ضعيفة نسبيًّا ولا مركزية، لأسباب منها عدم الحاجة إلى دولة قوية تعتصر الضرائب من الناس، وهو ما فتح المجال أمام الأيديولوجيا الليبرالية السياسية التي تركز على حرية الفرد والملكية الخاصة.
دوليًّا، أُسّست اتفاقيات تاريخية مثل معاهدة «وستفاليا» عام 1648 على حق الدول الأوربية تطبيق دياناتها الخاصة وتعزيز سيادة الدول. وفي عام 1689 كان إقرار قائمة الحقوق في إنقلترا، التي أسست الهيمنة البرلمانية داخليًّا. ثم في 1690، كتب الفيلسوف الإنقليزي جون لوك كتابه «بحثان في الحكومة»، الذي برهن فيه أن وظيفة الحكومة هي حماية «الحق في الحياة والحرية وحيازة الملكية».
ومنذ توماس هوبز ولوك وجان جاك روسو، مرورًا بالثورات الفرنسية والأمريكية، حتى قوانين الإصلاح في القرن العشرين، التي أعطت المرأة والعرقيات المضطهدة بعضًا من حقوقهم، كالأفارقة القابعين تحت وطأة الرِّق على مدى قرون في العالم الغربي، وبتبريرات العقلانية الرأسمالية والمادية الغربية.
التاريخ المغيّب للحضارات غير الغربية
يبقى التساؤل المهم هنا إذن: ماذا حدث في حضارات البشرية المختلفة خلال المدد الزمنية ما قبل أثينا اليونان، كالحضارات الصينية والهندية؟ والمدد الزمنية منذ تضعضع قوة الإمبراطورية الرومانية، ثم انهيارها، حتى زمن الـ«ماقنا كارتا» ومعاهدة «وستفاليا»؟ وهو زمن أوْج الحضارة الإسلامية.
هذه الفترات الزمنية مغيبة بكل ما فيها من فنون ومعارف ونظم سياسية وإبداعات فكرية، وإن أشير إلى شيء من هذه المعارف فلا يشار إليها ضمن سياقاتها التاريخية والحضارية، بل تُجتزأ اجتزاءً، وتُقرأ فقط من خلال العيون الغربية، لا من خلال الرؤية الأصيلة من داخل تلك الحضارات.
من شكّل الوعي الحديث ومعارفه هو الرجل الغربي الأبيض الذي قرأ وكتب عن الحضارات بفهمه، وأوَّلَها على طريقته من خلال أطره المعرفية وحدها، وفرض تلك الأطر وجعلها سياجًا وصندوقًا لا يمكن لنا أن نعي ونفهم تاريخنا إلا وفق قواعده وإجراءاته وإسقاطاته.
ولا أدَلّ على هذه المعضلة الفكرية من رداءة الأسئلة البحثية في العلوم الحديثة؛ تلك التي تنطلق من مسلمات غربية سطحية لم تُساءل بالقدر الكاف. والعديد من أبحاث العلوم الاجتماعية الاستشراقية قائمة على هذا النهج. فيكون تساؤل باحث ما مثلًا: لماذا لم تجد الديمقراطية بيئة ملائمة لتطبيقها في البلدان العربية؟ ليخلص البحث إلى أن العرب يفتقرون إلى التحضر والتمدن كي يتشربوا قيم الديمقراطية. والغريب أن يشاركهم الرأي العديد من الكتاب العرب، الذين باتوا يتسابقون في التقليد للغرب أكثر من بذلهم الجهد في تمحيص ما ينقلون ويقلدون.
والأجدر أن نمحص القيم الديمقراطية ونقارنها بما لدينا في حضارتنا لنعي بماذا، وكيف أصابت؟ وهل قدمت حضاراتنا الإسلامية، خلال اثني عشر قرنًا قبل الاستعمار الغربي، نظمًا سياسية أكثر تطورًا وتعقيدًا وأجدر على تحقيق المنفعة المجتمعية الشاملة؟
تفكيك وفهم الديمقراطية الليبرالية
تناقضات الديمقراطية -لا سيما الديمقراطية الليبرالية الحديثة- لا يسعها مقال واحد، بل تستغرق كتبًا، ولكن سأعرج على بعض الحقائق التي لا يمكن لعاقل تجاهلها في أهم النظم السياسية الغربية الراهنة: الديمقراطية الأمريكية. وجلّ ما أستعرضه هنا مضمّن في كتب أكاديمية عريقة مثل كتاب «الحكومة الأمريكية: الحرية والسلطة» لكاتبيه ثيودور لووي وبنيامين قينسبرق، وغيره من المصادر الموثوقة في العالم الغربي.
بداية، فإن أَولى ما يفخر به مواطن أي دولة ديمقراطية هو المشاركة في الانتخابات وفي صنع القرار، بوصفها رمزًا لحريته. ولكن، في الحقيقة، فإن الرأي الشعبي الأمريكي لم يعد ذا سطوة كبيرة، كما كان الحال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. والسبب أن النظام البيروقراطي المحكم والمتزايد منذ بدايات القرن العشرين حتى وقتنا الحالي، استلزم تحول جزء كبير من سلطة صنع القرار من الأجهزة المساءلة سياسيًّا، مثل مجلس الشيوخ، إلى وكالات إدارية. ونتيجة لذلك، غدت عمليات صنع السياسات العامة تحت وطأة أحكام ومؤسسات وإجراءات لا يستطيع الناخب أن يؤثر فيها بسهولة.
علاوة على أنه في القرنين التاسع عشر والثامن عشر مثّل الرأي الشعبي سلطة لا يمكن لأي حكومة تجاوزها، لا سيما في توافق الظروف السياسية والاجتماعية لجمع الضرائب وتحصيل الدعم الشعبي وبسط الأمن. أما في وقتنا الحالي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الديمقراطيات الأوربية، كأهم الدول الحديثة تقدمًا وامتلاكًا للتقنيات الأمنية والرقابية، لديها أجهزة إدارية وعسكرية وشرطية قوية وكافية لقمع أي مظاهرات أو اضطرابات، وقادرة على جمع الضرائب وعلى كبح جماح أي اعتداء على سيادتها، دون الاعتماد بالضرورة على التأييد الشعبي.
ولسان حال الباحث السياسي الأمريكي يردد مقولة الفيلسوف الفرنسي دو توكفيل، الذي تنبأ بأن الأمريكيين -في ظل نظامهم الديمقراطي- سيسمحون لحكومتهم كي تغدو قوية بما فيه الكفاية لتُحيل عملية الانتخابات وإجراءات التمثيل الشعبي إلى مجرد مسرحيات ساخرة، قبيل فصول انتقال السلطة بين نخب سياسية ودوائر سلطة معتادة.
جدير بالذكر أن تفاوت مواعيد مدد الخدمة في مجلس الشيوخ الأمريكي كان مقصودًا من الآباء المؤسسين منذ مراحل التأسيس، لجعل هذا الجهاز أكثر قدرة على مقاومة الضغط الشعبي؛ إذ إن ثلث عدد أعضاء المجلس فقط يعاد اختيارهم كل عامين، في حين تمتد خدمة كل عضو لست سنوات. وبذلك فإن تكوين المجلس يكون بمنأى عن التغييرات التي تطرأ على الاختيارات الشعبية التي تعكسها المجالس التشريعية للولايات. فقد كان واضعو الدستور يرون في الرأي الشعبي تهديدًا راديكاليًّا للنظام الاقتصادي والاجتماعي.
هذا عائد بالطبع إلى الفلسفة السياسية اليونانية التي تشبّع بها الغرب خلال عصر التنوير وفي أعقابه، لا سيما فلسفة أرسطو ونقاشه للحكومة الدستورية بعدّه إياها أفضل نمط حياة للناس؛ كونها تلعب دور القوة الملطّفة بين القوتين المتباعدتين والمتنافستين في المجتمع: واحدة تمثّل مصالح الطبقة النخبوية الأوليقاركية، والأخرى تمثّل مصالح الديمقراطية (الغوغاء أو الفقراء) والعامة من الناس. وقد تمثّل هذا في المجلسين المكونين لمجلس الشيوخ والنواب الأمريكي؛ مجلس الشيوخ الممثل لمصالح النخب في الولايات، ومجلس النواب الممثل لعوام الشعب.

ولا ننسى نظرية الدساتير الصالحة والسيئة عند أرسطو، ودورة الزمان الحتمية التي تفضي من نمط دستور صالح إلى مقابل له سيئ. فالملَكية الصالحة يقابلها الحكم الطغياني، والأرستقراطية التي يحكمها ذوو الخبرة يقابلها الأوليقاركية الجشعة، والدستورية المثالية يقابلها الديمقراطية. وعلى هذا، فالديمقراطية بالنسبة لأرسطو هي أفضل النظم والدساتير السيئة وأكثرهم اعتدالًا.
خلاصة القول، إن واضعي الدستور الأمريكي خلقوا نظامًا للحكومة يقوم على الموافقة الشعبية، لكنه لا يترجم بصورة ثابتة وتلقائية التحولات والآراء الشعبية إلى سياسات عامة. وهناك نقطة ذات صلة متعلقة بخوف الآباء المؤسسين من تحول جمهوريتهم إلى ديمقراطية غوغاء تمثل مصالح العامة والفقراء لا النخب، على اعتقاد أنها انتكاسة. وقد استدللنا على هذا في النقطة السابقة.
لكن هناك من يقرأ التحولات الراهنة في السياسة الأمريكية ووصول دونالد ترمب من خارج دوائر السلطة السياسية المعتادة على أن خوف الآباء المؤسسين بدأت بوادره تلوح في الأفق. غير أني أختلف مع هذا الطرح وأعتقد أن الحكومة الأمريكية، يومًا بعد يوم، تتعمق تحولاتها وتترسخ نحو حكومة أوليقاركية تسيطر عليها نخب سياسية واقتصادية رأسمالية، وما ترمب إلا واحد من هؤلاء، وإن استعطف عوام الشعب من العرقية البيضاء واستمال دعمهم بذرائع مواجهة الحرب الثقافية التي تُشن عليهم.

الناخب الأمريكي المتعلم الذي يعتدّ بصوته رمزًا للحرية، بات اليوم، من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، يشعر بيأس وإحباط؛ جرّاء غياب ممثلين حقيقيين، وانحسار الخيارات التمثيلية في شخوص تمثل أطيافًا نخبوية، أو تدافع عن مصالح سياسية حزبية كبرى، أو تتماهى مع مطالب جماعات مصالح رأسمالية وحكومات خارجية متهمة بجرائم الفصل العنصري مثل إسرائيل.
لم يختَر جلّ الناخبين الديمقراطيين جو بايدن أو كمالا هاريس أو حتى هيلاري كلينتون، بل كانوا مجبرين تبعًا لعمليات انتخابية منظمة، وما ثورة ترمب الشعبوية إلا دلالة على ذلك؛ إذ كان لقدرته على التأثير في العوام بالحرب الثقافية والخواصّ بدواعي عقد الصفقات، دور في إتاحته للناخب الأمريكي -والجمهوري على وجه الخصوص- خيارًا مختلفًا وإيهامه أنه يسعى لمصالح الناخب البسيط لا مصالح الطبقات العليا، كما هو الحال في الواقع.
بالحديث عن الحرب الثقافية ومسائل الصوابية السياسية، فإن حرية التعبير التي يتبجح بها المواطن الأمريكي باتت على محك حقيقي وتواجه تحديات كبيرة على جبهتين:
الأولى، مع تزايد الحريات الفردية الصارخة وغير الإنسانية التي تنبع من الأفكار النيوليبرالية اليسارية، مثل الشذوذ الجنسي و«حركة الووك» والدعاوي النسوية الشاذة التي لا يمكن للمرء أن ينتقدها ويندّد بها بأريحية موضوعية.
وعلى الجبهة الأخرى، فلا حرية تعبير للقضايا التي تمس السياسات الأمريكية الخارجية، لا سيما مع إسرائيل، التي ترتكب إبادات جماعية أمام المجتمع الدولي، وتجد معارضة شبابية وشعبية كبيرة من داخل الولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك تُستخدم قوانين «معاداة السامية» لتجريم من يندد بالجرائم الإسرائيلية أو يطالب بوقف الإمداد العسكري والدعم السياسي والاقتصادي لدولة الاحتلال والفصل العنصري. وخير دليل ما تواجهه الجامعات الأمريكية العريقة -مثل جامعة كولومبيا وهارفرد وغيرهما- من تضييق وتهديد، حتى على المستوى الفيدرالي؛ كالتهديد بسحب الدعم والتضييق عليها وعلى مموليها بدون وجه حق، مع أنها مساحات طبيعية للتعبير بحرية الطلاب والمنتسبين الأكاديميين.

النظام الانتخابي الأمريكي والمؤسسات البيروقراطية الكبيرة والمحكمة تستخدم طرقًا معينة في التحكم في الانتخابات، خدمةً لمصالح نخبوية. وبينما تتيح الانتخابات للمواطنين فرصة المشاركة السياسية، تتيح القواعد التي تشكّل المؤسسات الانتخابية الفرصةَ للحكومة لتمارس قدرًا كبيرًا من التحكم في نتائجها. والأمثلة عديدة ولا يسع المقالةَ الكثيرُ من التفصيل، لكني أذكر هنا أهم مثالين صارخين:
الأول، التحكم في قواعد الناخبين، كما كان معمولًا به في العديد من ديمقراطيات الغرب لزمن طويل؛ إذ يقتصر حق الانتخاب على أصحاب الأملاك، ومنهم من تلاعب بتكوين الناخبين عن طريق إعطاء وزن متفاوت لأصحاب الأملاك من صوت إلى ثلاثة أصوات للشخص، بحسب قيمة ملكياتهم، كما كان معمولًا به في بلجيكا القرن التاسع عشر. لكن في أمريكا أيضًا، وحتى وقتنا المعاصر، لا يزال تكوين الناخبين عرضة للتلاعب؛ فقد حاولت بعض الولايات التلاعب في التصويت عن طريق اختبارات القراءة والكتابة، أو عن طريق ممارسات مثل تعيين مراكز الاقتراع للناخبين وتحديد ساعات عمل قصيرة ومحددة لتلك المراكز. وأبرز طريقة للتلاعب في التصويت هي مطالبة الأفراد بتسجيل أنفسهم في القوائم الانتخابية شخصيًّا، أو التسجيل في حق الانتخاب قبل فترة من الزمن من موعد الانتخاب الوطني.
المثال الثاني، والأهم، هو ما يعرف بـ«ممارسات جيريماندر»؛ إذ يعيد حكّام الولايات ومجالسها التشريعية رسم حدود دوائر مجلس الشيوخ والنواب في الولايات المتحدة كل عشر سنوات، بعد تحديد التعداد السكاني، وعلى إثره يُحدّد عدد مقاعد مجلس الشيوخ والنواب لكل ولاية. وبدل السعي إلى التلاعب في معايير الفوز، سعى الساسة الأمريكيون إلى تنظيم الدوائر الانتخابية؛ فالتوزيعات المختلفة للناخبين بين الدوائر تؤدي إلى نتائج انتخابية مختلفة، ومثال ذلك تخفيف القوة الانتخابية للأقليات العرقية في دائرة معينة عبر تقسيمها لأكثر من دائرة أو بطريقة تمنع تشكيلهم لأغلبية بها.
لا يمكن تجاوز أدوار جماعات المصالح والمال السياسي في التلاعب بكل العمليات السياسية في الداخل الأمريكي وفي سياسات الإدارة الأمريكية الخارجية، لكن دون إسهاب تستحقه هذه الخصال الشنيعة في النظام الديمقراطي الأمريكي، أشير إلى عملية استغلال جماعات المصالح لثغرات المال السياسي وقواعده في التأثير في الانتخابات الأمريكية أو حتى في السياسات العامة عبر الوكالات الإدارية.
وأهم الطرق، عبر الأموال السلسة التي تستخدمها الأحزاب السياسية من أجل الدعاية لقضاياها السياسية. ومثال ذلك قرار ترمب نقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس عام 2017، بعد تقديم أكبر ممولي الحزب الجمهوري الملياردير شيلدون أديلسون -الذي يصرح بأن اهتمام حياته الوحيد هو إسرائيل- عشرين مليون دولار أمريكي، عبر استغلال قوانين الدعم المالي لمرشّحٍ ما، دون التنسيق معه أو مع حملته، للضغط على ترمب كي ينفذ وعده الانتخابي بنقل السفارة. والوصول إلى دور جماعات المصالح في تشكيل السياسة الأمريكية ليس بالأمر الصعب، ولا يخفى على القارئ الكريم حجم الاستغلال والفساد والتحوير في السياسات لصالح جماعات وقطاعات وشركات كبرى.
النظام السياسي الأمريكي ليس مبنيًّا على رؤى «طيبة» وذات أساس أخلاقي متين كما قد يروّج له، ولم يشكّله آباء «طيبون وخيرون»، بل هو في مجمله قواعد وإجراءات بشرية معقدة حاولت تغليب مصالح طبقات على أخرى، وهو ما مكّن الساسة على مدى قرون من التمرس دومًا -إن ابتغوا النجاح السياسي- على كيفية التلاعب بالإجراءات والقواعد تلك لتجييرها لمصالح فئات أو جماعات خاصة.
أما الحديث عن مبدأ فصل السلطات لدى النظام السياسي الأمريكي فيشوبه تشوهات وعيوب لا حد لها، أذكر هنا مقالة المحامي الأمريكي جاري لاوسن في دراسته (The Rise and Rise of the Administrative State) منتقدًا شكل الحكومة الأمريكية وحقيقة مبدأ فصل السلطات لا سيما بعد إقرار «العهد الجديد» في عهد الرئيس فرانكلين روزفلت ثلاثينيّات القرن الماضي: «إن دولة ما بعد العهد الجديد الإدارية غير دستورية، وإجازة النظام القانوني لها ليس إلا ثورة دستورية بلا دماء…. فالهيئات والوكالات الإدارية باتت تجمع، بصورة اعتيادية، بين الوظائف الحكومية الثلاث -التشريعية والتنفيذية والقضائية- في المؤسسة نفسها، بل حتى في الأشخاص أنفسهم داخل تلك المؤسسة.» ومقالة الفيلولوجي الدنماركي موقن هيرمان هانسن في دراسته (The Mixed Constitution Versus The Separation of Power): «القوانين تضعها المجالس التشريعية، وتطبقها السلطة التنفيذية، ويفسرها القضاء... هذا المبدأ... قد شوهته الاستثناءات إلى درجة أن غدا من الضروري عدّه قطعة من الخردة.»
لا عجب أن يُذهل مثلًا مواطن سعودي من مواطن أمريكي يزدري نظمنا الحاكمة، لا سيما الملَكية في دول الخليج، ويتبجح بافتقارنا إلى حريته المزعومة، رغم كل هذه التعقيدات والمساوئ التي تعتري نظام الديمقراطية الأمريكية، الذي غدت انتخاباته ومشاركة الشعب السياسية فيه مجرد مسرحيات وتلاعبات تحاول أن تضفي شرعية ما على نظام يخدم الطبقات العليا التي تمتلك المال.
بين الملكية والديمقراطية
لأن يعيش المرء في ظل نظام سياسي يقوم على التعاضد بين العائلة الحاكمة من جهة، والقبائل والعوائل والأفراد القاطنين فيه من جهة أخرى، ويرتكز على عقد اجتماعي يحفظ كرامة المحكومين ويفتح لهم الآفاق للإبداع والنجاح، خير وأسمى من إجراءات ديمقراطية زائفة.
لكن الإشكالية الكبرى، كما أشرت في بداية المقالة، تكمن في فَهمنا لتاريخنا وثقافتنا وكيفية قراءتنا لها دون تدخل وتحريف من الأطر المعرفية الغربية. لا مندوحة للباحث عن الحقيقة من أن يفصح عن تشويه الاستشراق وكل المعارف التي أنتجها العالم الغربي لفحوى الثقافات الأخرى، لا سيما الإسلامية منها.
ولا يجب أن نغفل أن الاستعمار الغربي هو من يحاول منذ بداياته تفكيك المجتمعات العربية والمسلمة إلى عرقيات وقوميات متضاربة كي ينعم بالتسيّد عليها، ثم يوجه أصابع الاتهام للمسلمين بعجزهم عن التعايش والتسامح. ولن يستطيع العالم الغربي، حتى في محاولات الكثير من كتّابه الصادقين والمخلصين للأمانة الأكاديمية، أن يقرؤوا تاريخنا كقراءتنا له؛ كونهم مشبعين بنظرة أنطولوجية لا تقرّ بوجود إله لهذا الكون، ولهذا يصعب عليهم تخيل قيادات سياسية ملكية تخاف من خالقها وتتحسب في أعمالها للمساءلة في اليوم الآخر من رب العباد.
فهذه النظرة الأنطولوجية هي ما يؤسس للإلزام السياسي الأخلاقي، ويبرر لقدسية الطاعة لدى الشعوب المسلمة لحكامهم القائمين بشرع الله، فضلًا عن استناد تلك العلاقة بين الحاكم والمحكوم والنظام السياسي لإبستمولوجية لا تُعلي من شأن العقل وحده، بل تضعه في مكانة لاحقة على الوحي وكلام الخالق الديان. لكن عجز العقول الغربية عن فهم مجالنا التداولي جعلهم يُسقطون رؤاهم وتاريخهم -لا سيما دموية الحروب الدينية واضطهاد الكاثوليكية والإمبراطوريات المتسلطة- على قراءاتهم لكيفية عمل النظم السياسية والاجتماعية في بلداننا وتاريخنا الإسلامي.
وهنا ملمح مهم إزاء دوغمائية «نظرية التقدم» الغربية التي تفترض أن للزمن بنية غائية متجانسة، بحيث تمهد أطوار التاريخ الباكرة للأطوار اللاحقة، وصولًا إلى قمة الارتقاء الإنساني المرجوة، وهي الحداثة الغربية بجوانبها؛ الرأسمالية نظامًا اقتصاديًا، والديمقراطية تنظيمًا سياسيًّا، والبيروقراطية تنظيمًا إداريًّا.
يؤكد تيودور أدورنو، أحد لامعي مدرسة فرانكفورت الفلسفية، أن بنية الزمن هذه ليست مجرد مطلب منطقي لهذه النظرية وللهيمنة الغربية على العالم، بل تبرير لأحداث الحاضر، وللفوقية البيضاء، كما أنها إضفاء عملي لشرعية هذا التسيّد الغربي على مجتمعنا الدولي، بذريعة أن التقدم حتمي لا مناص منه، وأنه يتأتى فقط بالسير على خطى الغربي الأبيض. هذه الفكرة بكل تجلياتها عملت على بناء التاريخ بطريقة متمركزة حول أوربا، بعد توغل ما سماه ماكس شيلر «بنية الهيمنة الفكرية الغربية». ونظرية «الروح التاريخانية» لدى الفيلسوف الألماني هيقل هي جزء من تجليات فكرة التقدم الحداثية الغربية ودغمائيتها.
لكن وإن سلمنا بمكاسب البشرية جرّاء التقدم التكنولوجي المنسوب جزافًا إلى الحضارة الغربية وحدها دون غيرها، رغم الكم الهائل من الاستنزاف لموارد العالم «غير المتطور» خلال عصور الاستعمار، فإن مآلات هذه الحداثة الغربية هي الفقر والجوع والمرض، وهي أمور صنعها الإنسان ولم تكن بسبب الظروف الطبيعية، خلافًا لما كانت عليه في العصور قبل الحداثية.
والأثر الثاني للحداثة الغربية هو التفكك الاجتماعي والأسري في ظل رأسمالية وبيروقراطية متسلطة، مما فاقم من خلق أفراد مغتربين ومتشظّين ونرجسيين. وأما الأثر الثالث، الذي لا يظهر بجلاء، فهو الآثار الكارثية للمشروع الحديث في العالم الطبيعي والبيئة التي نعيش فيها. وأهم الفاعلين في المشروع الحديث هو النظم السياسية الغربية الحديثة، بديمقراطيّاتها الليبرالية المشوهة.
وأخيرًا، أختم برأي مخالف للنظرة الغربية عن النظم الحاكمة في التراث الإسلامي، يرويه لنا البروفيسور في جامعة كولومبيا الأمريكية وائل حلاق، إذ يجادل بأن تاريخ الشعوب المسلمة لم يكتب بعد، وما هو متاح الآن من كم هائل عن التاريخ الإسلامي، بمعنى كلمة «التاريخ» في العصر الحديث، ليس إلا رؤية استشراقية غربية مشوهة، كتبها المستشرقون.
تُعزى الفروق الجوهرية بين الأنظمة الإسلامية والأطر القانونية والاجتماعية الحديثة، لدى حلاق، إلى الآراء الأخلاقية والميتافيزيقية والكوزمولوجية الأساسية. ويؤكد حلاق أنه في الفكر الإسلامي، ترتبط الأخلاق بالمعرفة والسياسة والقانون والثقافة وكل جانب من جوانب الحياة الاجتماعية ارتباطًا وثيقًا، رافضًا الفصل الأوربي للأخلاق عن تلك الجوانب.
كما جادل حلاق في مشروعه المعرفي الممتد لعقود، أن الشرق -وخاصة جزأه الإسلامي- لم يعرف شيئًا مثل الدولة والنظام السياسي الغربي الحديث. بعبارة أدق، طوّر العالم الإسلامي شكلًا من أشكال الحكم الذي، حتى لقائه مع الاستعمار الأوربي الحديث، لم يعرف مفهوم «السيادة السياسية» الذي قدمته الحداثة الغربية. بدلًا من ذلك، كانت الشريعة الإسلامية، بمفهومها الواسع الذي يرتكز على الأخلاق والمسؤولية أمام الخالق، هي التي تحدد معنى السيادة، وكان هذا القانون ظاهرة زمنية ومكانية.
كان ذلك ممكنًا بفضل أن الشريعة كانت عملًا لجماعة من الفقهاء، الذين منحهم تعليمهم وتقواهم السلطة للمشاركة في المساهمات الجزئية في تطور تلك الشريعة على مدى قرون. لم يستطع أي فقيه، أو حتى مؤسس أي مدرسة فقهية، أن يدعي ملكية القانون.
بعبارة أخرى، لم يكن هناك وكالة موحدة تنتج القانون - الشريعة أو تديرها. ونظرًا لأن مصدر كل سلطة أخلاقية وقانونية كان التفاعل الأنثروبولوجي - التأويلي مع النصوص المصرح بها من قبل عدد لا يحصى من رجال التقوى، في مناطق جغرافية مختلفة وعبر حقب زمنية متفاوتة وقرون متتابعة، فإن القانون في الإسلام لم يكن فقط خارج نطاق فساد السياسة، ولكن أيضًا كان فوق جميع المؤسسات البشرية.

فقرة حصريّة
اشترك الآن


في حلقة «التاريخ السياسي لدول الخليج العربية» من بودكاست فنجان، يستعرض ضيفها الدكتور أحمد البسّام، أستاذ الدراسات العليا في التاريخ بجامعة القصيم، مراحل تكوّن الدول الخليجية المعاصرة، وطبيعة ارتباطاتها المعقّدة بالعالم الخارجي إبان مراحل تأسيسها، بالإضافة إلى شكل علاقاتها العميقة بشعوبها.
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.


مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.