ماذا علمتني تجاربي مع الخلايا 🧫
زائد: موقف غازي القصيبي من الحياد


للأسف الشديد، كلما أصابتني وعكة صحية لا أحمل همّ أخذ موعد مع الطبيب، بل أحمل همّ انشغالي عن مهامي اليومية واضطراري للاعتذار عن دوامي، والتعامل مع الإحساس بالذنب الذي سيرافقني. (إذا قرأت تدوينة مجد عن ذنب طلب الإجازة المرضية، ستفهم ما أعني 😥.)
لكن مع تطوّر الذكاء الاصطناعي قد لا نضطر لأخذ إجازة أو استئذان ساعتين للذهاب إلى الطبيب. فقد ابتكر فريق من الأطباء والباحثين تطبيقًا يشخّص مرض فقر الدم وانت «قاعد في مكتبكم»، كل ما عليك فعله التقاط صورة «سيلفي» لإظفرك!
جرى تدريب التطبيق على أكثر من مليون شخص وبياناتهم، والنتائج مبهرة. وأبشرك أنَّ هذه ستكون بداية سلسلة من بحوث طبية تمكّنك من التشخيص الذاتي، وتساعدك على ألا تروح «يمين وشمال» بعيدًا عن عين مديرك🙂.
في هذا العدد، أشارككم ما تعلمته من تجاربي مع الخلايا، وكيف علمتني الوحدة الأساسية للحياة أفضل خصال البشر وأسوأها. وفي «شباك منور»، تكشف لنا شهد راشد الوجه الآخر للحياد. ونودعكم في «لمحات من الويب» مع أجمل صباح على رهف الجميلة ❤️.
خالد القحطاني

ماذا علمتني تجاربي مع الخلايا 🧫
أقضي معظم وقتي برفقة الخلايا. أعتني بها وأقيس نموها وأطعمها وأعطيها أدويتها وأنظف مسكنها. ولكل مجموعة من الخلايا اسمها المختلف عن البقية حسب الأعضاء الجسدية التي اسْتُخْلِصَت منها. وعلى عكس الخلايا التي تُكوِّن أجسادنا وأجساد كل المخلوقات الحية، تسكن هذه الخلايا السرطانية في أطباق بلاستيكية ذات أحجام مختلفة.
بعدما تستقر الخلايا في بيتها الجديد الذي اخترته لها بعناية وكتبت عليه اسمها، تظلُّ مستلقية في سائل صنعته لها، مكوَّن من مكملات غذائية وأدوية تحميها من العدوى. كما تتطلب أن أضعها في «حاضنة» (incubator) على درجة حرارة أجسامنا (37 درجة سيليزية) لكي تنمو وتتكاثر.

وبالرغم من نموّ تلك الخلايا خارج جسم الإنسان، فهي تذكرني كثيرًا بنا كبشر؛ فهي عنيدة وتتصرف كما يحلو لها، حتى لو حاولت منحها كل ما تحتاج إليه لكي تنمو. مع ذلك، تلهمني تلك الخلايا وتذكرني بأهمية الصبر، خاصة عندما ألاحظ إصرارها على الحياة. فهي بقايا من أجسادنا وأجساد حيوانات أخرى، تقضي حياتها إما مجمدة في أنابيب صغيرة أو تطفو في طبق بلاستيكي.
كلما نظرت إليها تحت المجهر، تظهر الخلايا في عيني عالمًا آخر يسكنه أفراد وجماعات وقبائل، متشابهون بالأصل ومختلفون بالشكل والحجم والسلوك. وتذكرني ببيت علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): «وتحسب أنك جرم صغير…وفيك انطوى العالم الأكبر»؛ فما نحن إلا عوالم مختلفة تكوّنها هذه الخلية، الوحدة الأساسية للحياة.

كانت نيتي من هذه التدوينة أن أصف ما تعلمته من تربية الخلايا والنظر إليها لساعات تحت المجهر، وأن أتأمل الإنجاز العلمي المبهر الذي جعلنا قادرين كباحثين أن نربي الخلايا خارج أجساد المخلوقات الحية، ونشخّص من خلالها الأمراض ونختبر عليها الأدوية بطريقة آمنة قبل تجريبها على الحيوانات أو البشر. ولكن يصعب علي أن أتعامل مع هذه الظاهرة برومانسية دون أن أذكر قصة المرأة التي جعلت هذا الاكتشاف ممكنًا: هنريتا لاكس.
عانت هنريتا لاكس من ألم مزمن في بطنها، وظنت حينها أنه سيزول لكنه أرهق جسدها، خصوصًا أنها كانت تربي خمسة أطفال. لم يكن السبب في تأجيلها طلب التشخيص خوفها من نتيجته، بل خوفها من الحالة السياسية التي سادت الولايات الجنوبية الأمريكية وميّزت عنصريًّا بين البيض والسود. ولأنها امرأة سوداء وفقيرة، لم تجد إلا مستشفى جونز هوبكنز في مدينة بالتيمور قادرًا على تشخيصها، وكان يبعد ساعات من بيتها.
زارت هنريتا لاكس عيادة الطبيب هوارد جونز في 1951، ووجد ورمًا على عنق رحمها. حاول إخضاعها للعلاج الإشعاعي، فهو الحل الوحيد المتوفر لمرضى السرطان وقتها. لم تنجُ هنريتا لاكس من العلاج، وتوفيت في العام نفسه الذي زارت به العيادة، عمرها حينذاك لم يتعدَّ الحادية والثلاثين. وبالرغم من دفنها وتلقّي عائلتها العزاء، بقيت خلاياها خالدة.
لم يخبرها الطبيب هوارد جونز بأنه أرسل عينة من ورمها إلى معمل الطبيب جورج قي، والذي كان يحاول لسنوات جمع عينات من مختلف المرضى، وجعل خلاياهم تنمو خارج أجسادهم ليبدأ عليها تجارب مختلفة. كان قي قد بدأ يشعر باليأس بعد تكرار موت الخلايا بين يديه، لكنه لاحظ أمرًا مختلفًا في الخلايا التي وصلته من هنريتا لاكس. كانت الخلايا تتضاعف كل أربع وعشرين ساعة، ونجت في البيئة التي بناها لها في الحاضنة في ظروف بيئية ودرجة حرارة مماثلة للبيئة الداخلية لأجسادنا.
سمَّى الطبيب جورج قي هذا النوع من الخلايا (HeLa)، آخذًا أول حرفين من اسميْ هنريتا لاكس الأول والأخير. بدأت هذه الخلايا تجول العالم، وتناقلها العلماء من أمريكا إلى أوربا إلى اليابان حيث أبهرتهم بنموّها السريع. وفي نهاية المطاف، مكَّنتنا هذه الخلايا من تجريب الأدوية وغيرها من المواد عليها، دون أن نجربها على البشر. وأدت إلى أهم اكتشافات القرن الماضي، منها تطعيم شلل الأطفال.
في كتاب «الحياة الخالدة لهنريتا لاكس» (The Immortal Life of Henrietta Lacks) تحاول الصحفية ريبيكا سكلوت أن تكشف الوجه الآخر لهذه القصة. فهي ليست مجرد سلسلة من الاكتشافات العلمية التي غيَّرت صحة البشرية، بل هي قصة إنسانة تعرَّضت للظلم ولم تجد علاجًا لها إلا بأصعب الطرق، فقط للون بشرتها. كما أنَّ الطبيب لم يستشرها بقرار مشاركة خلاياها ولم يستأذنها. فقد عاملها كلا الطبيبين كما يعاملان فئران التجارب، وتكسَّبا من جسدها دون تقدير لحياتها. فهذه النجاحات العلمية الباهرة صاحبتها مكاسب مالية هائلة حُرِم منها أبناء هنريتا لاكس الخمسة، ولم يعرفوا عنها إلا بعد وفاتها بعقود.
لذلك لديّ فرضية بأن الخلايا التي أربيها تجمع أفضل خصالنا البشرية وأسوأها، وتذكّرنا بها دائمًا. ننظر إليها على أنها وسيلة علمية بحتة لاكتشافاتنا، ناسين أنَّ نظرتنا هذه هي ذاتها النظرة التي تَعامَل بها الطبيبان هوارد جونز وجورج قي مع مريضتهما هنريتا لاكس. مهما كانت مهنتنا في البحث العلمي المختبري مساعِدَة للبشرية وتقدّمها؛ فيجب علينا تذكير أنفسنا بتاريخها ومن أين أتت، وأن نفكّر دومًا بحلول لتغيير هذا الماضي دون محاولة رمنسته بفلسفة لا تمد للواقع بصلة.


أود إقناع نفسي بالاعتقاد بأنني ممن يملك شجاعة الوقوف مع الحق عندما يتطلب الأمر، وأود إقناع نفسي بأن طبيعتنا البشرية تثِب مسرعة لتقديم «الفزعة»، ولكن في أثناء تصفح كتاب «في عين العاصفة» الذي جمع مقالات كتبها غازي القصيبي في عدة صحف، وقفتُ عند أول مقال:✍🏼
«قد يكون الحياد أعنف أنواع التدخل وأخطرها، وأقل المواقف أخلاقية وأكثرها انتهازية. كيف؟ عندما تشهد ماردًا يقتل طفلًا صغيرًا وتُعلن أنك على الحياد، فإنك قررت بإعلانك أن تقف مع المارد ضد الطفل. عندما تشهد إنسانًا يحمل «تنكة» كيروسين وعود ثقاب ويتجه إلى مسجد ليحرقه وتعلن أنك تقف على الحياد فقد قررت بإعلانك هذا أن تقف مع مرتكب الجريمة ضد المسجد. وعندما تشهد في ظلام الليل فتاة صغيرة تتعرض لمحاولة اغتصاب وتعلن أنك على الحياد فقد قررت بإعلانك هذا أن تشترك في جريمة الاغتصاب. الحياد فضيلة عندما تكون المعركة بين شر وشر، ولكنه رذيلة عندما تكون المعركة بين حق وباطل. الحياد ذكاء عندما يكون الصراع بين ظالم وظالم، ولكنه حُمق عندما يكون بين ظالم ومظلوم.» ⚖️ 🤐
تعاني مجتمعاتنا من فردانية مفرطة تتسلل لكل إنسان، ويتناول القصيبي مواقف يسطع فيها الخير عن الشر حيث يمكن الإشارة لمن يختار الحياد أمامها أنه بلا ضمير. لكن الحياد يبدأ من مواقف صغيرة، عندما نزرع في أطفالنا مفهوم عدم التدخل لأنه من الأدب، دون توضيح وإسهاب عن التمييز بين مقام الأدب ومقام الوقوف لأجل الحق. فنمنع أطفالنا من التدخل عندما يختصم طفلان مثلًا، ومن جانب آخر نُقصِّر في دورنا بتوضيح ضرورة التدخل في المواقف الأخلاقية، فنقف متفرجين مع أطفالنا عندما نرى أطفالًا آخرين يعنّفون حيوانًا ضعيفًا بحجة أنهم مجرد أطفال يلعبون. 🐈🙅🏻♀️
أظن أن الحياد المستمر في غالبية المواقف يعود إلى مشكلة في التعاطف وفهم الحدود. فنحن بحيادنا نقول إن ما يحدث للآخر لا يمسّنا ولا يؤثر بنا، فننسلخ عن شعورنا بمعاناة الغير، أما الحدود فتتلاشى عندما نعتقد بأن الجهل يعذر القسوة. ننسى أن كل موقف له تأثيره غير المباشر، وبتطبيع تصرفٍ سيء أو معاملة مجحفة ضمن المجتمع الصغير، سنجد هذا التصرف قد تفشَّى في المجتمع الأكبر. 🦠🫣
لا نتدخّل لأننا نعتقد أن يدًا خفية ستتدخل وتقف مع الحق، أنَّ شخصًا آخر سيتخذ الإجراء الصحيح. وعندما يكون ضميرنا أوعى من تصديق ذلك سيرمينا بحجة: أن ما يحصل للآخرين لا يمكنه الحصول لنا ولمن نحب، فلماذا نتدخل؟ ❤️🩹 🙃
🧶إعداد
شهد راشد

«لاحظت أنَّ الخطوة العقلانية تنجح متى أخذناها في الشؤون الصغيرة من حياتنا. أما القرارات الكبرى غالبًا تتطلب منا القفز والمخاطرة حتى ننجح.» جينيت ونترسون
تعرف أن عندنا تيتانيك سعودية؟
انتبهت لهذه الخدعة في تصوير المسلسلات والأفلام!
أحب عيالي مثل ما تحب العنكبوتة عيالها.
أجمل صباح على رهف الجميلة.

تطبيق يغنيك عن زيارة الطبيب!
حرية الاختيار لا تسهّل اتخاذ القرار.


نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.