رحيل آخر فرسان «البوم» اللاتيني، برقاس يوسا 🪦

زائد: أربعة كتب لدخول عالم يوسا 📚

برقاس يوسا / 
Imran Creative
برقاس يوسا / 
Imran Creative

رحيل آخر فرسان «البوم» اللاتيني، برقاس يوسا 🪦

إيمان العزوزي

الفالس الأخير

فقد العالم الأسبوع الماضي أحد عمالقة الأدب الحديث، الكاتب الإسباني - البيروفي ماريو برقاس يوسا، الذي توفي في ليما عن عمرٍ يناهز التاسعة والثمانين عامًا. برحيله يُطوى فصل من أبرز فصول الأدب العالمي، واللاتيني على وجه التحديد، وهو فصل أعاد تشكيل المشهد الأدبي منذ ستينيّات القرن الماضي.

نعت أسرة الكاتب فقيدها عبر منصة إكس، قائلة: «بحزن عميق، نعلن وفاة والدنا ماريو بارقاس يوسا في ليما، محاطًا بعائلته في هدوء»، وأضافت: «لن تُقام مراسم عامة. نأمل أن نحظى نحن ووالدتنا وأولادنا بمساحة وخصوصية لتوديعه بصحبة العائلة والأصدقاء المقرّبين. ستُحرق رفاته وفقًا لرغبته.»

وقد أعلنت الحكومة البيروفية الحداد الوطني، كما أمرت بتنكيس الأعلام على المباني العامة، ونعته رئيسة بيرو دينا بولارتي، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، مؤكدين على مكانة يوسا الأدبية والفكرية في هذه الدول تحديدًا، ثم بقيّة العالم.

لم يكن يوسا مجرد روائيٍّ متفردٍ بأسلوبه وحنكته، بل كان نجمًا أدبيًّا وأيقونة ثقافية وعالمية. وعلى النقيض من الصورة النمطيّة للكاتب المنعزل في محرابه، عاش يوسا الحياة بشراهة، متحديًا فكرته الخاصة عن الأدب، الذي يخلق عوالمَ موازية تمنح القارئ فرصة عيش حيوات عدة دون خوض غمارها حقًّا. خاض التجارب، وتذوّق الحياة بكل مرارتها وحلاوتها، وربما هذا يفسّر كرهه الذي أظهره دائمًا لمقولة بورخيس: «عشتُ قليلًا، وقرأتُ كثيرًا»، مفضّلًا أن يعيش الأمرين معًا.

أحب يوسا الأضواء وسعى إليها، ويؤكّد: «تزعجني النخبويّة الخفيّة التي تحثّ بعض الكتّاب على النفور من وسائل الإعلام.» وسطع نجمه في الحياة الاجتماعيّة، وتحوّلت حياته الشخصيّة إلى مادةٍ دسمة للصحافة، ويتابعها الجمهور الغربي بشغف، خاصّةً بعد انفصاله عن زوجته الثانية باتريسيا يوسا بعد خمسين عامًا من الزواج، ثم ارتباطه بعارضة الأزياء والإعلاميّة إيزابيل بريسلر (الزوجة السابقة للمغني الإسباني خوليو إيقليسياس، وأم ابنه المغني إنريكيه إيقليسياس)، وانتهاء علاقتهما عام 2022 بسبب غيرته، التي وصفتها إيزابيل فيما بعد بـ«غير المبرّرة».

كل هذه التفاصيل جعلته دائم الظهور في الصحف والمجلات. ومما يؤكد حضوره في الثقافة الشعبية، أن خبر وفاته وصل إلى البيروفيين عندما أعلنه أحد معلقي مباراة كرة قدم على الهواء مباشرة. كما وقف الجمهور دقيقة صمت على روحه في مباراة ريال مدريد وأرسنال الأخيرة، ضمن دوري أبطال أوربا. وقد حظيت وفاته باهتمامٍ واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، وتحول اسمه إلى «ترند» لأيام.

في أكتوبر 2023، ودّع يوسا عالم الأدب ومعجبيه في خاتمةٍ وضعها لروايته الأخيرة «أهديك صمتي». وقد شكّل الإعلان صدمة لجمهوره الذي اعتاد على غزارة إنتاجه، وهو الذي ردَّد دائمًا: «أتمنى أن يفاجئني الموت وأنا أكتب، وكأنه حادثة.» تبدو الرواية وصيّةً أخيرة يكتبها يوسا لأجل وطنه، تحكي عن «توني أزبيلكوتيا»، شخصية تشبه «دون كيخوته»، حالم بيوتوبيا توحد بلده بيرو، وتزيح عنه العنصرية والتمزّق، وذلك بفضل الذاكرة الشعبية وموسيقا الكريول والرقصات الشعبية، مثل الفالس البيروفي والمارينيرا.

بعد صدور الرواية بشهرين، قرّر يوسا التوقف عن كتابة عموده النصف الشهري «أحجار الاختبار» (Piedras De Toque)، الذي دأب على نشره بانتظام في صحيفة الباييس (El País) الإسبانية منذ عام 1990، منهيًّا بذلك مسيرة إبداعيّة استمرّت عقودًا.

قرار يوسا بالابتعاد عن الأضواء جاء نتيجة تدهور صحته، بعد إصابته مرتين بفيروس كورونا، مما دفعه إلى العودة إلى ليما للاستراحة بعيدًا عن الضجيج الإعلامي، في نوستالجيا أعادت ذاكرته إلى بلده بعد سفر طويل، لافظًا أنفاسه الأخيرة بسبب مضاعفات ذات الرئة، محاطًا بأسرته، كما أكد صديقه المقرب المحامي إنريكي قيرسي.

يوسا والكتابة

حصل يوسا على جائزة نوبل للآداب عام 2010، على مجمل أعماله الأدبيَّة، وأشادت به الأكاديميّة السويدية في حيثيات منحها الجائزة بقولها: «خرائط هياكل القوة التي رسمتها أعماله، وتصويره النيّر لمقاومة الفرد وثورته وهزيمته.» وكان يوسا بذلك آخر كاتب ناطق بالإسبانية يفوز بهذه الجائزة المرموقة حتى اللحظة. ويُعدّ يوسا عضوًا فعّالًا في الأكاديمية الإسبانية، كما حصل على عدة جوائز إسبانيّة مهمة، مثل جائزة أمير أستورياس للآداب 1986.

كان يوسا يحمل حبًّا خاصًّا للأدب الفرنسي؛ حيث تأثر عميقًا بكُتّابه الكلاسيكيين، أمثال هوقو وبلزاك، وفلوبير على وجه الخصوص. وكان لجان بول سارتر تأثير واضح في فكره الأدبي في بداياته، لا سيما ما يتعلق بمفهوم «الأدب الملتزم». كما أخذ عن أندريه مالرو براعة وصف المشاهد الجماعية في عمله الأشهر «الظرف الإنساني»؛ وكلها تأثيرات ظهرت جليًّا في عمله البكر «مدينة الكلاب».

وفي موقف أثار الجدل، اعترف يوسا عام 2020، في جريدة الباييس ببغضه لعمل بروست «البحث عن الزمن المفقود»، معبّرًا عن اشمئزازه من جمله الطويلة وعالمه «المحدود والمغرور». بل ذهب إلى حدِّ القول إنه لو كان محررًّا في دار قاليمار زمن بروست، لرفض مخطوطة كتابه، مقلدًّا بذلك موقف أندريه جيد، الذي ندم لاحقًا على رفضه العمل. وقد أثار هذا التصريح سخط محبي بروست، وسخروا من يوسا، واصفين إياه بــ«الكاتب المفرنس»، في إشارة إلى تناقض موقفه مع تأثره الواضح بالأدب الفرنسي.

بادلته فرنسا هذا الحب، ومنحته مقعدًا خالدًا في الأكاديمية الفرنسية، حيث جلس على الكرسي الثامن عشر، خَلَفًا للفيلسوف ميشيل سير، محقّقًا بذلك سابقةً فريدةً، ليصبح أول كاتب ينال هذا الشرف دون أن يكتب بلغة موليير، رغم إجادته التحدث بها. كما تجاوزت الأكاديمية شرطها الصارم بخصوص السن، فقبلت ترشّحه وهو في الخامسة والثمانين من عمره، متجاوزةً الحد الأقصى الذي وضعته (75 عامًا)، للحفاظ على حيويّة المؤسسة وتجنب الوفيات المتعاقبة التي تعقّد عمليات الترشيح والقبول.

وبهذا، يكون يوسا أول فائز بجائزة نوبل يدخل الأكاديمية، بعد مرور أكثر من نصف قرن على رحيل الكاتب الفرنسي فرانسوا مورياك، الذي انتُخب عضوًا عام 1933، وفاز بنوبل في 1952. كما خصّته دار قاليمار المرموقة بنشر أعماله الكاملة ضمن سلسلتها النخبوية «البلياد»، التي تضم مختارات من عيون الأدب العالمي والفرنسي على وجه الخصوص.

في عام 1959، نشر ماريو فارقاس يوسا مجموعته القصصيّة الأولى بعنوان «الجِراء وقصص أخرى»، ولكنها لم تحظَ باهتمام كبير. أما نقطة التحوّل الحقيقية في حياته جاءت بروايته الثورية الأولى «زمن البطل»؛ وهو الاسم الإنقليزي الذي فضّله الناشر لروايته «المدينة والكلاب». وقد استوحى يوسا تفاصيلها من تجربته الشخصية في الأكاديمية العسكرية في ليما. وأثار العمل جدلًا واسعًا، واستفزّ الأوساط العسكرية البيروفية، إذ أحرقت السلطات العسكرية 1,000 نسخة من الرواية، ووصفها بعض الجنرالات بـ«الكتاب المُزوَّر» واتهموا يوسا بالشيوعيّة.

وبفضل هذا الجدل، حقّقت «زمن البطل» نجاحًا كبيرًا وسريعًا، ما جعل يوسا في طليعة ما يسمى بـ«البوم» الأدبي في أمريكا اللاتينية؛ وهي حركة أدبية ازدهرت في الستينيات والسبعينيات، وشملت كتّابًا بارزين، مثل قابرييل قارسيا ماركيز وكارلوس فوينتيس وخوليو كورتاثار وغيرهم. تميّزت هذه الحركة بالتجريب الأدبي، والاهتمام بالواقع الاجتماعي والسياسي في أمريكا اللاتينية، واستخدام تقنيات سردية جديدة، مثل الواقعية السحرية والتخييل التاريخي.

أصبحت أعمال يوسا جزءًا لا يتجزّأ من هذه الطفرة الأدبيّة، حيث واصل استكشاف القضايا الاجتماعية والسياسية في رواياته اللاحقة، مثل «البيت الأخضر» و«محادثة في الكاتدرائية». وقد تميّز أسلوبه الأدبي بالواقعية الشديدة، والاهتمام بالتفاصيل، واستخدام لغة غنية ومجازية، ثم انتقل إلى مجاله المفضّل: التّخييل التاريخي، في رواياتٍ خالدة مثل «حرب نهاية العالم» و«حلم السلتي» و«حفلة التيس».

يتميّز يوسا، إلى جانب براعته الروائية، وقدرته على فتح عوالم الدهشة لعشاق الأدب، بأنه قارئٌ نهم، وناقدٌ يشارك قراءاته وتحليلاته مع جمهوره، عبر مقالاته الصحفية وكتبه النقدية. ففي مؤلفات مثل «الحقيقة عبر الكذب»، يقدّم مراجعات عميقة لأعمال أدبيّة خالدة مثل «الدفتر الذهبي» لدوريس ليسنق، أو «المحراب» لوليام فوكنر، مُظهرًا فهمًا استثنائيًّا لأسرار السرد. أما في «العربدة الأبدية»، فيغوص في رائعة فلوبير «مدام بوفاري». بل لم يتردّد في دراسة أعمال غريمه الدائم، قابرييل قارسيا ماركيز، وتحليلها، وقد خصّص لروايته «مئة عام من العزلة» أطروحته لنيل الدكتوراه من جامعة مدريد للآداب.

ولا يقف يوسا عند حدود النقد، بل يمدُّ جسرًا للكُتّاب الشباب، عبر محاضراته ورسائله، المجموع بعضها في كتبٍ ثريّة مثل «الكاتب وواقعه»، وهو سيرة ذاتية أدبية ترسم الخطوط العريضة لنظرية الرواية. وهو يفعل كل ذلك دون الوقوع في اللغة الأكاديمية، حيث تتدفّق الأفكار بإيقاع سردي، يحيّد النبرة المهيبة لهذا النوع من النصوص، ويحيّد أيضًا خطر الملل. ونصادف الشيء ذاته في «رسالة إلى روائي شاب»، حيث تغلب لغة المرشد الأبويّة.

تعرّف القارئ العربي في وقت مبكّر على يوسا وأصحابه في حركة «البوم» اللاتينيّة، على عكس ما يحدث اليوم، حيث تتهافت دور النشر العربية على ترجمة أعمال الفائزين بالجوائز العالميّة، متجاهلةً الكثير من الأسماء التي تستحق الترجمة. ويعود الفضل في هذا التقديم إلى المترجم صالح علماني ودار المدى، إذ أسهما في ترجمة مجموعة متنوعة من أعمال يوسا، ما أتاح للقارئ العربيّ الاطلاع على أبرز رواياته، مثل: «حفلة التيس» و«قصة مايتا» و«شيطنات الطفلة الخبيثة» و«امتداح الخالة».

تواصل منشورات الجمل حاليًّا مشروع إعادة إصدار أعمال يوسا السابقة، مع التصدي لترجمة أعماله الحديثة. وهكذا، أصدرت الدار رواية «خمس زوايا» (2021)، بترجمة مشتركة بين مارك جمال وصالح علماني (الذي توفي قبل إتمام ترجمتها)، ثم رواية «زمن عصيب» (2021)، و«الخالة خوليا وكاتب السيناريو» (2023)، بترجمة مارك جمال، ومن المُتوقّع إصدار ترجمة «أهديك صمتي» قريبًا.

وجدير بالذكر أن صحيفة الشرق الأوسط قد شرعت، منذ سنتين، في ترجمة مقالات يوسا ونشرها، وأعلنت عن استمرارها في ذلك بعد وفاته، بالاتفاق مع نجله ووكيلته الأدبية.

يوسا، السياسة والفساد

في مطلع حياته، تأثّر يوسا بأفكار جان بول سارتر والنظريات الاشتراكية، فانضم عام 1953 إلى الحزب الشيوعي لفترة وجيزة، وتبنى بحماسٍ قضية الثورة الكوبيّة التي أطاحت بباتيستا وأوصلت فيديل كاسترو إلى السلطة عام 1959. بل زار هافانا خمس مرات، وهو -في ذلك الوقت- يرى في الاشتراكية الأمل الوحيد لأمريكا اللاتينية. وقد علّق لاحقًا: «كان من الصعب على شابٍّ لاتيني اكتشف مظالم العنصرية والتفاوت الاجتماعي في الخمسينيات أن لا يرى في الشيوعية حلًّا لمشاكل القارّة.»

ولكن سرعان ما ذاب هذا الحماس مع مطلع السبعينيات، حيث تحوّل يوسا تدريجيًّا من الاشتراكية إلى الليبرالية الاقتصادية، بل تجاوز ذلك، ليتبنى أفكار الليبرالية الجديدة التي نادى بها الرئيس ريقان ورئيسة وزراء بريطانيا مارقريت تاتشر، التي أُعجب بها يوسا للغاية. وحين غادَرتْ السلطة عام 1990، أرسل إليها باقة ورد مع رسالة مؤثّرة جاء فيها: «سيدتي، لا تكفي الكلمات لشكركِ على ما قدمتِ لقضية الحرية.»

في العام نفسه، خاض يوسا غمار الانتخابات الرئاسية في بيرو عن حركة «الحرية»، متحالفًا مع أحزاب يمينية، واقترح برنامجًا مستوحًى من سياسة تاتشر، يشمل خصخصة الشركات الحكومية، وفرض سياسات تقشفية صارمة. هُزم في الجولة الثانية أمام ألبرتو فوجيموري، وأوقف كل نشاط سياسي مباشر في بيرو، لكنه استمرّ في المشاركة في النقاش السياسي في أمريكا اللاتينية. وقد أفرد لتجربته في الترشح للرئاسة كتابه القيّم «السمك في الماء».

عُرف يوسا بمعاداته الشديدة للشيوعية، وهو ما يدفعه إلى دعم أيِّ شخص يعارض المرشحين اليساريين، حتى لو كانوا يمثلون أقصى اليمين. ففي بيرو عام 2021، قام بحملة انتخابية لصالح كيكو فوجيموري -ابنة الرئيس السابق المُدان بارتكاب جرائم ضد الإنسانيّة، والمُتَّهمة هي بدورها بالفساد- ضد النقابي الماركسي بيدرو كاستيو. وفي تشيلي، بعد بضعة أشهر، دعا إلى التصويت لصالح مرشّح اليمين المتطرف خوسيه أنطونيو كاست، الذي يحنّ إلى ديكتاتورية أوقوستو بينوشيه. وفي البرازيل، عام 2020، انحاز إلى الرئيس المنتهية ولايته قايير بولسونارو، مبشِّر اليمين المتطرف في أمريكا اللاتينية. وأوضح: «حتى لو كان مهرِّجًا، فهو ليس لولا.»

بالتأكيد، نحن أمام كاتب أصيل، استطاع أن ينحت لنفسه أسلوبًا يُعرف به في تاريخ الأدب العالمي، ويُدرَّس في الجامعات وورش الكتابة. امتاز بالبلاغة، والقدرة على تطويع اللغة، وبناء الشخصيّات والأحداث بناءً حيًّا مؤثّرًا، نقف أمامه عاجزين عن نسيان رواياته حتى بعد زمن طويل من قراءتها. ولا تزال مشاهد كاملة من روايته العظيمة «شيطانات الطفلة الخبيثة» -المفضلة لدي من بين أعماله- عالقةً في ذهني بكل تفاصيلها الواقعيّة والبائسة.

ولكنه، رغم موهبته التي لا نستطيع الجدال حولها، تبنّى مواقف سياسيّة متقلّبة، مسّت سمعته وأثّرت في محبة معجبيه، خاصة بعد انحرافاته الأخيرة نحو دعم الفاشيّة ومعتقداتها العنصرية المتطرّفة. ولم تتوقّف مساوئه عند هذا الحدّ، بل شملت اتهامات بالفساد المالي؛ حيث كشفت تسريبات «وثائق بنما» عن تورّطه في النهل من خيرات «الفراديس» الضريبية، مما أثار تساؤلات حول نزاهته وأخلاقه.

وهذا التناقض صارخ ومخيّب للآمال، خاصةً وأنه يتعارض مع القيم والمبادئ التي دافع عنها في أعماله الأدبيّة ومقالاته وخطبه العديدة؛ تلك التي نادت بالعدالة والحريّة والمساواة. وبينما نظل نبحث عن حل لمعضلة القارئ الأبدية: أن يختار بين «الكاتب» و«شخصه»، فقد خسر الأدب آخر فرسان العهد الذهبي لفن الرواية، رحل دون أن يُفشي سِرَّ لكمته الشهيرة لقابرييل قارسيا ماركيز.


فاصل ⏸️

رحلة ممتعة مع الفكر والأدب 📚☕️

مبادرة الشريك الأدبي تجمع القرّاء مع الأدباء والمفكرين، في جلسات حوارية، وورش ولقاءات مع كتّاب بارزين في تجربة غنية بالتفاعل والتفكير النقدي.

انضم لمجتمع الأدب، واكتشف الفعاليات القريبة منك عبر منصة جسر الثقافة.


الأدب هو أفضل ما اختُرع للوقاية من التعاسة

يفتتح يوسا رسالته الثانية إلى روائي شاب بهذه العبارة، وحين ننظر إلى حياة هذه الرجل كما رُسمت في المقال أعلاه، يتبيّن لنا أن يوسا كان يملك كل ما يحتاجه المرء ليكون سعيدًا. لكنه، على العكس من ذلك، أصرّ مرارًا أنه لم يشعر بالسعادة، فنجده يُقرِن حاجته إلى الكتابة بمواجهة التعاسة: «أكتب لأنني لست سعيدًا، أكتب لأحارب التعاسة.» ويؤكّد أنّ «المادة الخام للأديب ليست السعادة، بل التعاسة، والكُتّاب مثل النسور، يتغذّون أساسًا على الجِيَف.»

يبني يوسا رؤيته للأدب، باعتباره وسيلةً لمقاومة التعاسة، انطلاقًا من رؤيته لفن الرواية، الذي ينبثق، حسب رأيه، من التجربة الإنسانية. وهذه التجارب، نادرًا ما تخلو من معاناة يخوضها الإنسان، حتى ينتصر عليها أو يستسلم لها، ليعود إليها لاحقًا، إما مفاخرًا أو ناصحًا غيره. وهكذا، يجد القارئ في الرواية ملاذًا للسلوى، أو دافعًا للاستمرار.

في تصوّر يوسا، لا مكان للنهايات السعيدة في الأدب الجيّد: «الرواية الجيدة تخبر الحقيقة، والسيئة تكذب.» لأن تلك النهايات لا تعبّر إلا عن آمال زائفة، والكذب بالنسبة إلى يوسا هو السرد السطحي الذي يقتصر على تصوير واقع زائف يرضي الجماهير؛ أو ما يسميه كونديرا «الكيتش»، وهو تقديم الأصيل بصورة مبتذلة تُفرِغه من مضمونه الحقيقي.


  1. حلم السلتي

المؤلف: ماريو بارفاس يوسا / ترجمة: صالح علماني / الناشر: منشورات الجمل / عدد الصفحات: 534

في رواية «حلم السلتي»، يقدّم ماريو بارقاس يوسا حكايةً متعددةَ الأبعاد، تمتد عبر القارات والحقبات الزمنية، ويكشف النّقاب عن الحقائق القاسية للاستعمار الأوربي وتأثيره المدمّر في السكان الأصليين والبيئة. ومن خلال قصة حياة روجر كيسمنت -الثوري الأيرلندي، وتاجر الأسلحة، والدبلوماسي البريطاني- يستكشف يوسا المناطق المظلمة للاستغلال الاستعماري في كلٍّ من إفريقيا وأمريكا الجنوبية.

تقدم الرواية سردًا مروّعًا للفظائع التي ارتُكبت في ظلِّ حكم الملك ليوبولد الثاني في الكونقو، حيث استُعبد واستُغلّ السكان الأصليون بلا رحمة، من أجل جمع المطّاط وموارد أخرى. ويسلط يوسا الضوء أيضًا على الأنشطة الاستعمارية البريطانية في منطقة الأمازون البيروفية أوائل القرن العشرين، حيث استُغلّت الغابات المطيرة وسكانها الأصليّون -بلا هوادة- من أجل تحقيق المكاسب الاقتصادية.

و من خلال شخصية «كيسمنت»، يقدم يوسا صورة معقّدة لرجلٍ كافح لأجل التوفيق بين مُثله العليا والحقائق القاسية للعالم من حوله. وعلى الرغم من تخفّيه خلف تجارة الأسلحة، ودوره في خدمة الإمبراطورية البريطانية، يُصوَّر «كيسمنت» أيضًا على أنه شخصية مأساوية، مدفوعة بالرغبة في كشف الظلم ومحاربته.

والرواية ليست مجرد إدانة للاستعمار، بل تأمل في قوة الأدب ودوره في تحدي الوضع الراهن. يؤكّد يوسا أن الأدبَ شكلٌ من أشكال التمرد، ووسيلةٌ لخلق عوالم بديلة تعكس عدم الرضا عن العالم كما هو. ومن خلال إعادة تخيّل حياة كيسمنت، ونسج سرد خيالي حول أحداث تاريخية حقيقيّة، يوضح يوسا قدرة الأدب على تحدي الروايات الرسمية، وإعطاء صوت لمن لا صوت لهم.

  1. رسائل إلى روائي شاب

تأليف: ماريو بارقاس يوسا / ترجمة: صالح علماني / الناشر: دار المدى / عدد الصفحات: 131

يضم الكتاب إحدى عشرة رسالة موجهة إلى الروائيين المبتدئين، وتُعدّ مرجعًا غنيًّا لكل من يسعى إلى تحسين مهاراته في الكتابة والقراءة؛ حيث يساعد يوسا الكتّاب المبتدئين على بناء أسس قويّة للكتابة الإبداعيّة، كما يوجّه القرّاء أن يتعلّموا تفحّص النصوص بعيون ناقدة ومستبصرة. يحدّد يوسا، بأسلوبه الأدبي والفني، الركائزَ الأساسية لكل كاتب طموح، ويشرح الدافع وراء الكتابة في كلِّ عصر، مع تعزيز روح الإبداع من أجل التمرد على الواقع، وتحقيق المستحيل عبر التخييل.

يرى يوسا أن التجارب الحياتية هي نقطة الانطلاق للكاتب، مع ضرورة انفصال العمل الأدبي -لاحقًا- عن حياة مؤلِّفه، ليحقّق الكاتب استقلاليته وكماله، ويبلغ مرحلة «الكاتب الأصيل»، كما يعبّر عنها. ويشدد يوسا على أهمية خلق سردٍ مُقنِع، لا يستطيع القارئ معه تمييز الخيال عن الواقع.

إضافةً إلى ذلك، يُبرِز يوسا دور الأسلوب في تمييز الكاتب؛ حيث يعتمد على اختيار المفردات وتأثيرها، بغضّ النظر عن صوابها النحوي. ما يهم، حسب يوسا، هو كتابة رواية متماسكة ومُقنِعة. ولا يُغفِل الحديث عن رمزية الزمان والمكان وأهميتهما في تعزيز عمق النص الأدبي.

في كل رسالة من الكتاب، يستشهد يوسا بأمثلة من روايات عالميّة، لكُتّاب وضعوا بصمتهم بأساليبهم الفريدة. ويوصي بقراءة أعمالٍ تساعد على تطوير مهارات الكتابة، كما ينصح الكتّاب بالتجريب والاستمرار في المحاولة، مهما تكاثرت العثرات، فأغلب الكتّاب، كما يؤكد يوسا، ألفوا كتبًا سيئة.

روح هذه الرسائل تكمن في رسالة خفيّة تتوارى خلف النصائح الصريحة: هذه القواعد ليست قواعد جامدة، بل إضاءات؛ اقرأها، استوعبها، ثم اكسرها عندما يحين الوقت. لأن الرواية الحقيقية هي تلك التي تُكتب حيث تنتهي كل النصائح. وهذا ما فعله يوسا ذاته.

  1. حرب نهاية العالم

تأليف: ماريو برقاس يوسا / ترجمة: أمجد حسين / الناشر: منشورات الجمل / عدد الصفحات: 715

تدور الأحداث في المنطقة الجافة والمهزومة من الشمال الشرقي في البرازيل، حيث يختلط الجفاف والوباء بالخرافات واليأس، في أجواءٍ تشبه نبوءة نهاية العالم، التي سادت في نهايات القرن التاسع عشر.

تنقسم الرواية إلى أربعة أجزاء، تعكس الحملات العسكرية الأربع التي شنها الجيش ضد «كانودوس»، مستعرضة الصراع منذ بدايته حتى مصير البلدة المأساوي. في قلب الأحداث، تتصاعد مواجهة كبرى بين الفلّاحين الفقراء «الياقونزوس»، بقيادة الزعيم الدينيّ المتشدّد «أنطونيو كونسيلهيرو» -الذي يقود حركته وكأنها حملة صليبيّة لاستعادة قِيَم المسيح المفقودة- وبين الجيش البرازيلي، الذي يمثّل الجمهورية الحديثة ومصالح النخبة، في صراعٍ يفضح التناقض بين التقدّم الزائف والهويات المنسيّة.

وعلى الرغم من أن الرواية عمل متخيّل، فإنها تظلّ وفيّةً للجذور التاريخيّة للصرّاع، حيث تتعارض الجمهوريّة الوليدة مع بقايا النفوذ الملكي، وتتدخّل المصالح الاستعمارية، صانعةً خلفية مُظلمة للصراع.

يقدّم يوسا، من خلال سرده البارع وتوظيفه للتاريخ، روايةً مشوّقة، يتابعها القارئ بشغف، متتبِّعًا الصراع، متنقِّلًا في دعمه وتعاطفه بين أطرافه؛ مما يثبت حنكة يوسا، وقدرته على تصوير الخيال بواقعية تأسر القرّاء.

  1. حقيقة الأكاذيب

    تأليف: ماريو فرقاس يوسا / الناشر: Debolsillo / عدد الصفحات: 440

في كتاب «حقيقة الأكاذيب» أو ما يترجم أحيانا بـ«الحقيقة عبر الكذب»، يقدم ماريو فارقاس يوسا انتقاءً شخصيًّا لأفضل خمسٍ وثلاثين رواية في القرن العشرين، من جويس وتوماس مان إلى فوكنر ونابوكوف. هذا العمل ليس مجرد سرد لأهم الروايات، بل هو غوص في إشكاليات السرد الحديث وتطوره، معبِّرًا عن رؤية الكاتب للدور التحرّري للأدب.

يؤكد يوسا أن الخيال الأدبي يمثل مواجهةً مع الواقع، ويكشف قصور الحياة عن إرضائها للبشر. فالأدب، عبر أكاذيبه الخلّاقة، يتحدى محاولات إخضاع الإنسان، ويكشف زيف التسويات التي يضطر الإنسان إلى إبرامها. في مراجعة يوسا لـ«قلب الظلام»، رواية كونراد، يخلص إلى أن: «هناك حقائق في الحياة لا تُطاق، إلى درجة أنها تبرّر الأكاذيب، وهذا هو الخيال، وهذا هو الأدب.»

لا يمكن أن نؤكد أيهما أفضل، الحياة أم الخيال، ولكن يوسا في معرض تعليقه رواية «محراب» لفوكنر يؤكّد: «الخيال لا يعيد إنتاج الحياة، بل ينكرها، ويعارضها بخرافة تتظاهر بأنها تحل محلها.» يكشف يوسا عن العلاقة المتينة بين الكلمات وثراء تجربتنا في الحياة. ويستشهد باقتباس لقراهام قرين يلخص قوة الرواية: «الواجب الأول للرواية ليس الإرشاد، بل سحر القارئ، تدمير ضميره النقدي، وامتصاص انتباهه، والتلاعب بمشاعره، وتجريده من العالم الحقيقي، وإغراقه في وهم يجعل الكذب حقيقة والحقيقة كذبة».

وفي معرض تحليله لرواية «الفهد» للإيطالي لامبيدوزا، يرى أن مهمة الأدب هي «الكذب بإتقان»، لخلق حقائق جديدة تنبثق من الخداع الفني. الأكاذيب الأدبية لا تخدعنا بل توسع آفاقنا وتدفعنا لتجارب لم نكن لنعيشها لولاها.

على الرغم من عمق أفكاره وسلاستها، يظل الكاتب في «حقيقة الأكاذيب» وفيًّا لذوقه، ممّا قد يثير الجدل حول إغفاله أعمالًا مهمة، مثل أعمال قونتر قراس «طبل الصفيح». ولكن قراءاته وتحليلاته تظل استثنائية، مع الإشادة بمقدمة الكتاب وخاتمته، حيث يجد فيهما القارئ بيانًا شغوفًا عن متعة القراءة ومستقبل الأدب.

الجدير بالذكر أن الكتاب لم يُترجَم كاملًا إلى العربية، ولكن توجد منه ترجمات لفصولٍ مختارة، مثل ترجمة التونسي وليد سليمان «إيروس في الرواية»، التي أفرد لها يوسا تقديمًا خاصًّا جاء فيه: «هذه المقالات هي، قبل كل شيء، رسالة حب واعتراف بالجميل لأولئك الذين عشت -بفضل كتبهم، خلال فتنة القراءة- في عالم جميل ومتماسك ومفاجئ وكامل، تمكنت بفضله أن أفهم العالم الذي أعيش فيه بشكل أفضل.»

القراءةالكتبنشرة إلخأدب
نشرة إلخ
نشرة إلخ
أسبوعية، الأربعاء منثمانيةثمانية

سواء كنت صديقًا للكتب أو كنت ممن لا يشتريها إلا من معارض الكتاب، هذه النشرة ستجدد شغفك بالقراءة وترافقك في رحلتها. تصلك كلّ أربعاء بمراجعات كتب، توصيات، اقتباسات... إلخ.

+70 متابع في آخر 7 أيام