«ميكي 17»: فِلم في ظل باراسايت.
زائد: أبرز افلام المخرج بونق جون

حقّق فِلم «Parasite» نجاحًا باهرًا، وليس مبالغةً القول إنه البوابة للدخول إلى السينما الكورية بالنسبة إلى كثير من المشاهدين حول العالم.
أصبح الفِلم نموذجًا ناجحًا بكل المقاييس، لكن المؤسف أن مخرجه عندما جاء بفِلم جديد اسمه «ميكي 17» لم يحصل على الصدى والنجاح نفسه، وكأنه لم يصنع يومًا فِلم «Parasite».
في اعتقادي، انقطاع المخرج لمدة خمس سنوات كاملة قد يكون عاملًا مؤثرًا؛ عدم استثمار النجاح قد يضيّع عليك فرصًا كبيرة... والاستمرارية عامل مؤثر جدًّا، وهذا لا يناقض فكرة التروّي في اختيار القصة والمشروع القادم، خصوصًا إذا كانت في اطار زمني معقول: سنه أو سنتين.
نايف العصيمي

«ميكي 17»: فِلم في ظل باراسايت.
منذ ما يقارب الخمس سنوات، وتحديدًا في 2019، اجتاح العالم فِلم «Parasite» للمخرج الكوري الجنوبي بونق جون-هو. تحدّث الكل عن هذه التحفة السوداء: فِلم اجتماعي ساخر يقفز فوق حدود السينما الكورية ليهزّ أوساط السينما العالمية بكل ثقة، مُدشّنًا تاريخًا جديدًا للسينما الكورية، بعدما حصد جائزة الأوسكار عن أفضل فِلم. ولأول مرة في تاريخ الأكاديمية، يفوز فِلم غير ناطق بالإنقليزية بهذه المكانة.
وبعد هذا النجاح الضخم، أصبح السؤال الملح: ما المشروع الذي سيحمل توقيع بونق مجددًا؟
جاءت الإجابة مع إعلان «Mickey 17»، فِلم مقتبس عن رواية «Mickey 7» لإدوارد آشتون، صدرت عام 2022. وقد كان واضحًا اختلاف نوع الفِلمين وثقافتهما، إذ جاء «Mickey17» وهو يحمل بصمةً خاصة، ولاقى بعد عرضه في مهرجان برلين السينمائي الدولي حفاوة نقدية وجماهيرية لافتة.
الموت والهوية والفناء: قراءة الفِلم في النفس البشرية
ينبض جوهر الفِلم في مكان شديد القرب من فلسفة «الأبله» لدوستويفسكي، العمل الأدبي الذي تناول قصة «الأمير ميشكين» الذي عانى في حياته من تكرر شعوره بوطأة الاقتراب من الموت، متأملًا كيف ينزع الموتُ عن الحياة معناها؛ فلطالما راودت البطل نوبات من غياب الوعي جرّاء الصرع الذي لازمه فترة طويلة، مما اضطرّه لترك روسيا والتجول في أوربا بحثًا عن العلاج.
وعلى لسان «الأمير ميشكين» يروي دوستويفسكي حادثة إعدام رجلٍ قويٍّ مهيب، فارقته مهابته تمامًا وأخذ يجهش بالبكاء كالمجذوب فور نطق الحكم عليه بالإعدام وتقييده نحو المقصلة؛ لأن يقين الإنسان بمصيره القاتم يلقي عليه ثقلًا يفوق احتمال الجسد، بخلاف ما يكون عليه الحال عند مواجهة موتٍ محتمل، كملاقاة أسد مفترس؛ فعندها يتحرك ويقاوم طلبًا للنجاة، لأن الأمل -وإن كان ضئيلًا- لا يزال حاضرًا.
لكن «Mickey 17» يقفز بنا إلى مرحلة فارقة تمامًا من التفكير في هذه المعضلة الوجودية، فهنا لدينا رجل قابل للاستبدال، يُعاد استنساخه في كل مرة يموت فيها. بيد أن سؤال رواية «الأبله» يُعاد طرحه من قبل العديد من الشخصيات؛ كيف هو شعور «ميكي» بالموت؟
ومرجع هذا السؤال أن «ميكي» يعمل «مُستهلَكًا»، ويقتضي عمله الخروج في مهام استكشافية -أقرب إلى كونها انتحارية- على كوكب «نيفلهايم»، للتعرف على مدى قابلية البشر لاستعماره. وفي كل مرة يموت فيها «ميكي» يُعاد استنساخه من جديد، ليصل إلى النسخة السابعة عشرة.
ولعل ما كان يخيف «ميكي» من الموت ليس الفناء، بل عدم يقينه من استمرارية وعيه، وعدم معرفته بحدود ذاته؛ فيشعر أنه يمشي على حافة الهاوية النفسية، فلا هو بالحي ولا بالميت. وفي كل نسخة جديدة يحمل ذكريات النسخة السابقة، لكنها تبقى نُسخًا وليست أصلًا، فتطرأ عليها تحولات لا يكاد يدركها إلا بعدما يخوض صراعًا حاسمًا عندما يكتشف أن هناك نسخة جديدة منه، «ميكي 18».
ومن هنا يتقبّل حقيقة أنه مجرد نسخة بيولوجية غير أصلية عن نفسه، وكأن إلغاء الموت الظاهري لا يمنح الإنسان تحرّرًا، بل يدفعه إلى هوّة من فقدان المعنى. لعبة ذهنية قاسية تجعل الحياة تصبح دائرة مغلقة، تمضي فيها على شفا الانهيار النفسي.
سقوط المدينة الفاضلة
من اللحظة الأولى للفِلم، نجد أنفسنا أمام استعارة شاسعة للطبيعة البشرية. البشر، حين يَخطون خارج حدود نطاقهم المكاني وإمكاناتهم التقنية، لا يفقدون جذورهم فقط، بل يحملون معهم كل نقائصهم الأخلاقية إلى المجهول؛ مثل «الطبيب» الذي تحكم بتقنية الاستنساخ وحوّلها إلى وسيلة لإشباع نزعاته الشريرة في رغبته بتصفية المشردين، أو «المارشال» عندما وضع قواعد العيش على الكوكب الجديد، لم يتخلص من آثام تجربة العيش على الأرض، بل أعاد استنساخها، ليحتم إنتاج الديناميكيات نفسها التي مزّقت قدرة العيش على الأرض، واضطرتهم إلى البحث عن كوكب آخر، غير أنهم تمسكوا بالمثالب التي ستظل عائقًا في وجه الاستقرار… مهما تغيّر المكان.
لا يكتفي الفِلم بهذا الطرح، بل يمضي لما هو أبعد، حين يستعرض كيف يستولي المستعمرون الجدد على أراضي السكان الأصليين. هذه المرآة تعكس تاريخ الإنسان المتكرر في سلب الآخر، من استعمار الأرض إلى استعمار المريخ، وتظل النزعة البشرية في سعيها نحو السيطرة قائمة، وهي أبشع ما تكون عندما تأتي فكرة استغلال الأرض المسلوبة لبناء «المدينة الفاضلة» التي يستوطنها المميَّزون فقط؛ هذا الحلم القديم الجديد.
هنا يتوهّج الفِلم بأسئلته الأخلاقية، دون تقديم إجابات جاهزة، بل يترك المشاهد يغوص في تلك الحيرة التي نسج شِراكها المخرج بونق جون-هو، بقدرة نادرة على المزج بين الأفكار المعقّدة وطريقته المشوقة في سرد القصة.
الإيقاع الحيوي للفِلم، واللقطات البصرية التي تنبض بالحياة، واستخدام المؤثرات الخاصة بإتقان شديد، كلها عناصر جعلت من «Mickey 17» رحلة سينمائية مشبعة وممتعة، رغم بعض الهنّات في السيناريو، يتركز جلّها على إغفال الشخصيات الجانبية في لحظات كان حضورهم فيها مهمًّا، فكانت الشخصيات تظهر ثم تختفي بطريقة فجائية ومربكة أضرّت نوعًا ما بسلاسة سير الأحداث.
إضافة إلى ذلك، بدت بعض الحوارات المباشرة حول الأسئلة الفلسفية مُثقَلة ومباشرة، إلا أن إيقاع الفِلم السريع لم يسمح لهذه المباشرة أن تطول أو تفسد التجربة؛ فغالبًا ما تعاني أفلام الخيال العلمي في نصفها الثاني من هذه اللحظات التي يختزل فيها الفِلم أفكاره في حوارات مملة ومباشرة، تُخرج المشاهد من الحالة الشعورية.
ختامًا
اختيار بونق جون-هو لنصٍّ غني كهذا، وتحويله إلى تجربة سينمائية، كان يمكن بسهولة أن يقع في فخ الجدية الزائدة، محوّلًا إياه لمحاضرة فلسفية وأخلاقية. لكنه، بتوازن ذكي، حافظ على ديناميكية الإيقاع وشدّة الجذب البصري. وهنا يكمن جمال «Mickey 17»؛ فِلم يُمتعك بقدر ما يحفّز عقلك.



يُعرض اليوم الخميس في صالات السينما السعودية فِلم «The Amateur»، من إخراج جيمس هويس، ومن بطولة رامي مالك وراشيل بروسنهان. يحكي الفِلم قصة تشارلز هيلر، موظف في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية يتحول إلى عميل ميداني بعد مقتل زوجته في هجوم إرهابي في لندن، ويسعى للانتقام بكل الوسائل.
إتاحة فِلم «Novocaine» على المنصات الرقمية، بعد أقل من شهر من طرحه في صالات السينما.
قررت شبكة «HBO» أن يقتصر الموسم الثاني من مسلسل «The Last of Us» على النصف الأول فقط من أحداث الجزء الثاني من اللعبة.
أخبار عن ترشيح مُحتمل لروبرت باتينسون لدورٍ في الجزء الثالث من فِلم «Dune».
طرح إعلان تشويقي جديد لفِلم «Final Destination: Bloodlines»، المقرر عرضه في صالات السينما بتاريخ 16 مايو 2025.
تدرس الصين فرض حظر على استيراد الأفلام الأميركية، وذلك جزءًا من إجراءاتها المضادة تجاه الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة.

The Belt of Faith (07:15)

لا تتقدّم الموسيقا في «Parasite» إلى الواجهة لتخطف انتباهك، بل تنسحب خطوة إلى الخلف، وتتماهى مع حركة الشخصيات. وقد لا تلتفت إليها مباشرة، لكنها تُحكِم قبضتها على أعصابك في الخفاء. ولا تأتي نغماتها لتُخبرك بشيء، بل لتضعك في حالة مزاجية رمادية ومشوّشة، تُشبه قلق شخصيات الفِلم. ولا ترفع وتيرة الإثارة، أو تعزف على أوتار العاطفة المباشرة، بل تُجيد الوقوف على الحد الفاصل بين الهدوء والخطر، وبين الطبيعي والمُريب.
قد تعجز، في لحظات منها، عن تحديد إن كانت هذه الموسيقا تنبئ بخير أو شر، وهذا جزء من قوتها. يتطلّب هذا النوع من التلحين دقة شديدة في الانتقال بين الأوزان الموسيقية، يتناغم فيها الرتم الموسيقي ويتفاعل مع الحدث والصورة؛ فالغرض ليس أن تُسمع الموسيقا وحسب، بل أن تُحَس دون تشتيتك عن الصورة.
اختيار المُلحّن
اختيار بونق جون-هو للموسيقار جونق جاي إيل كان مدروسًا؛ ففي فِلم يُبنى على الإيحاء، والطبقات الخفيّة، والانتقالات السلسة من الكوميديا إلى التوتر، كان لا بد من ملحّن يُتقن التعامل مع هذا التداخل دون أن يختل الإيقاع. وجونق جاي إيل درس الموسيقا الكلاسيكية، واشتغل في مجالات متنوعة مثل الجاز والموسيقا التجريبية.
وأول تعاون له مع بونق كان في فِلم «Okja»، الصادر عام 2017، وهناك أثبت أنه لا يكتب النوتة الموسيقية إلا حين تكون ضرورية، ولا يستخدم الآلات الموسيقية لتُجمّل المشهد، بل لتخلخل توازنه.
في «Parasite»، تعامل جونق مع الموسيقا بوصفها كائنًا حيًّا، له إيقاع وتنفّس خاص، يتدخل فقط حين تخرج الشخصية عن توازنها، أو تدخل بيئة جديدة. يعرف جونق متى يُمسك بالوتر، ومتى يترك مساحةً للصمت، كأنه يرى في الصمت صوتًا آخر.
علاقة القصة بالموسيقا
تدور قصة «Parasite» عن عائلتين من طبقتين اجتماعيتين مختلفتين، يجمع بينهما بيت واحد. وتتصاعد التوترات كلما تقاطعت مصالحهما. ولا يشرح الفِلم هذا الصراع مباشرةً، بل يترك التوتر يتراكم بهدوء، وهو ما تعكسه موسيقاه. اختار جونق جاي إيل كتابة مقطوعاته بأسلوبٍ قريب من «الموسيقا الكلاسيكية المعاصرة»، معتمدًا على البيانو والتشيلو والكمان، لكنها لا تُعزف بلحنٍ رومانسي، بل بطريقة توحي بأن هناك شيئًا مقلقًا يختبئ خلف الصورة.
ماتحمله كل مقطوعة
رغم أن الفِلم لا يُكثِر من استخدام الموسيقا، أتت المقطوعات المُستخدَمة في لحظات مهمة تُساهم في بناء شخصياته وعالمه:
مقطوعة «The Belt of Faith»: تُفتتح هذه المقطوعة بنغمة متكررة تشبه التراتيل الكنسية ذات الإيقاع البطيء والثقيل الذي يحمل طابعًا طقسيًّا. ثم تتصاعد النغمة تدريجيًّا لتخلق شعورًا بالرهبة والحتمية. وقد ظهرت في لحظات الكشف عن خطة «عائلة كيم» لتتسلّل إلى حياة «عائلة بارك». وتوحي المقطوعة أيضًا بأن «عائلة كيم» الفقيرة محاصرة في نظام قدري صارم، كما لو كانوا أتباع طائفة تؤدي طقوسًا لا مفر منها، حيث يفتقرون إلى السيطرة على مصائرهم، ويُساقون نحو نهاية لا يمكنهم تجنبها.
مقطوعة «Zappaguri»: وتعني «مزيج المعكرونة الفاخرة والرخيصة». تأتي هذه المقطوعة بنغمة متقلّبة، تشبه هرولة غير منتظمة، مع استخدام أصوات مفاجئة وغريبة، تضفي طابعًا ساخرًا وفوضويًّا. وتُجسد هذه المقطوعة التحول السريع من العبث إلى الرعب، حيث تكشف «Zappaguri» عن التناقضات الاجتماعية والفوضى الكامنة تحت سطح الحياة المنظمة ظاهريًّا.
مقطوعة «Soju One Glass»: تأتي المقطوعة مودّعة، بلا بكاء ولا مواساة، بل مُسلِّمة بالحقيقة. والعنوان نفسه «Soju One Glass»، يشير إلى المشروب الكحولي الكوري الشعبي «السوجو»، رمز الطبقة العاملة. والكأس الواحد قد يشير إلى الاكتفاء بالقليل، أو الشعور بالنقصان، وهو ما يتماشى مع حالة «كي-وو» الذي يحلم بما لا يستطيع تحقيقه. وفي سياق الفِلم، يمكن تفسير المقطوعة على أنها رمزٌ للحظة وداع أو استراحة وسط المأساة، كما لو كانت الشخصيات ترفع كأسًا أخيرًا قبل انتهاء رحلتها.


اليوم نقول أكشن في هذا المشهد من فِلم «Memories of Murder»، الصادر عام 2003، المستندة قصته على أول قضية حقيقية لقاتل متسلسل في تاريخ كوريا الجنوبية، الواقعة بين عامي 1986 و1991.
تدور أحداث الفِلم في قرية كورية صغيرة تشهد حقولها سلسلة جرائم قتل مروّعة تستهدف النساء. يقود التحقيق محققان بشخصيتين متناقضتين: الأول محقق محلي يُدعى «بارك دو مان»، يعتمد على الغريزة والعنف أحيانًا، والثاني قادم من سيول يُدعى «سو تاي يون»، ويؤمن بالتحقيقات العلمية والمنطقية. ومع كل جريمة جديدة يتآكل أملهما في الوصول إلى القاتل، وتغرق القرية –ومعها جهاز الشرطة– في فوضى عارمة وشعورٍ عميق بالعجز.
في هذا المشهد، وبعد سنوات من توقف الجرائم دون التوصّل إلى الجاني، يعود «بارك» إلى موقع الجريمة الأولى، بعد أن ترك العمل مع الشرطة وصار يعيش حياة عادية.
يقف وسط الحقل، يحدّق في المكان كما لو كان يبحث عن شيء فاته، شيء لا يستطيع نسيانه. تمرّ فتاة صغيرة وتخبره أنها رأت رجلًا جاء إلى المكان قبله، ونظر إلى النقطة ذاتها التي ينظر إليها الآن. فيسألها «بارك»، بارتباك واضح، عن شكل الرجل، ثم يركّز نظره إلى الأرض، وكأنها تحمل له الجواب... ثم يرفع عينيه وينظر مباشرة إلى الكاميرا، كاسرًا الجدار الرابع بنظرة طويلة وصامتة، مشحونة بثلاثة مشاعر تتصارع داخله: شعور الحيرة من عدم التعرف على القاتل، وغضب مكبوت من هذا القاتل الذي أفلت من العدالة، وخذلان مرير من الشرطة التي أخفقت في إيقافه.
أصبح هذا المشهد الأيقوني من أكثر النهايات شهرة في تاريخ السينما الكورية؛ لأنه يفتح بابًا على فراغ نفسي وأخلاقي، ويضع المشاهدين وجهًا لوجه أمام سؤال موجع: ماذا يعني أن تفشل؟ أن تطارد شبحًا لسنوات دون أن تمسك به؟ هي لحظة مواجهة مع الذات ومع القاتل ومع النظام، ومع مجتمعٍ سمح لهذه الجرائم أن تبقى بلا حل لزمن طويل. في تلك النظرة الثابتة، اختصر بونق جون-هو كل الإحباط الذي شعرت به كوريا حينها، وتركنا أمام نهاية مفتوحة مقلقة، وصادقة بقدر ما هي قاسية.
برع بونق جون-هو في خلق جوٍّ خانق في المشهد، بالرغم من اتساع طبيعة المكان؛ فاستخدامه للقطاتٍ طويلة، وألوان باهتة، وإضاءة طبيعية، وأصوات محيطية، ساهم في بناء عالم مكتوم. أما اللقطة الأخيرة الثابتة -حيث يكسر «بارك» الجدار الرابع- فكانت قرارًا عبقريًّا، يجعل المشاهد شريكًا في الجريمة... أو ربما في الفشل.
اعتقد بونق جون-هو أن القاتل الحقيقي، الذي لم يُقبض عليه وقتها، قد يشاهد فِلم «Memories of Murder»، وصمّم نهاية يُجري فيها المحقق اتصالًا بصريًّا مباشرًا مع القاتل.
نال الفِلم عدّة جوائز في مهرجانات عالمية مثل «سان سيباستيان» و«طوكيو»، ويُعدّ هذا العمل الانطلاقة الحقيقية للسينما الكورية إلى العالمية. وهو الذي أخذ بيد بونق جون-هو نحو ذروة المجد، ليفوز لاحقًا بأوسكار مع «Parasite».
المفارقة المؤلمة أن القاتل الحقيقي كُشف بعد خمسة عشر عامًا من عرض الفِلم، ليصبح «Memories of Murder» أكثر من مجرد دراما بوليسية، بل وثيقة فنية وإنسانية، ترصد ألم أمة كاملة لم تجد الجواب إلا بعد فوات الأوان.

فقرة حصريّة
اشترك الآن


في صيف عام 2000، هزّت فضيحة بيئية كوريا الجنوبية؛ إذ أصدرت القوات العسكرية الأمريكية اعتذارًا عن إلقاء كمياتٍ من مادة الفورمالدهيد السامة في نهر هان، الذي تحوّل من مصدر حياةٍ للسكان إلى مصدر قلقٍ وغضب. ورغم تأكيد القوات الأمريكية بأن المادة خُفّفت في نظام الصرف الصحي، ولم تُسبب ضررًا كبيرًا، تركت الحادثة أثرًا عميقًا في نفوس الكوريين. هذا الحدث المثير للجدل أشعل خيال بونق جون-هو، ليصنع فِلم «The Host»، الذي حوّل فكرة التلوّث إلى كابوسٍ مرعب، حيث يظهر وحشٌ مخيف من أعماق النهر.
وبهذه المعلومة نستهلّ فقرة «دريت ولّا ما دريت» عن فِلم «The Host» الصادر عام 2006:
في ديسمبر 2003، بدأ تصميم المخلوق الغامض للفِلم، وقد استُلهم تصميمه من سمكة عُثر عليها في نهر هان تعاني تشوّهًا خَلْقيًّا في عمودها الفقري، الذي كان على شكل حرف «S». وبعد أكثر من 2,000 نموذج، استقروا على تصميم وحش يشبه السمكة المشوّهة، بالإضافة إلى مزيج من المخلوقات البحرية والزواحف. فكرة التصميم، حسب تصريح بونق جون-هو، أن يكون للمخلوق مَظهرٌ غير مألوف وواقعي في الوقت نفسه.
في أثناء تطوير التصميم، أطلق فريق الإنتاج اسم «ستيف بوشيمي» على الوحش، نوعًا من الدعابة بسبب مظهره.
انطلق تصوير الفِلم في صيف عام 2005 على ضفاف نهر هان في سيول، وصُوّرت نحو 80% من لقطات الفِلم في مواقع حقيقية؛ مثل حديقة يوئيدو وجسور سيوقانق وجونجاك. ولم يقتصر الأمر على الأماكن المفتوحة، بل امتد إلى التصوير داخل مجاري النهر الحقيقية.
أراد بونق في الفِلم الابتعاد عن أفلام الوحوش التقليدية، فركّز أكثر على عنصر العائلة التي تُطارَد من الحكومة والوحش معًا. ويعد بونق الفِلم نوعًا من أفلام الاختطاف، لتركيزه على فقدان العائلة لابنتهم المختطفة.
لم يحقّق بونق جون-هو رغبته في التعاون مع استوديوهات أمريكية كبرى لإنتاج المؤثرات البصرية لـ«The Host»، بسبب تكاليفها الباهظة التي تجاوزت ميزانيته، فاستعان باستديوهات من اليابان. ونتيجةً لقيود الميزانية، قُلّصت لقطات الوحش من 180 لقطة إلى 120 لقطة.
صرّح بونق جون-هو أن فكرة صنع فِلم «وحوش» جعلت أصدقاءه ينظرون إليه كمجنون، محذرين إياه من «إضاعة موهبته». دفعته تلك التعليقات، التي وصفها بـ«جروح صغيرة في القلب»، لكتابة السيناريو في الخفاء.
منح بونق جون-هو الممثلين حرية الأداء وردود الفعل المرتجلة في عدة مشاهد، من أبرزها مشهد العزاء الجماعي.
في عام 2009، صُنّف الفِلم بأنه الأعلى ربحًا في تاريخ كوريا الجنوبية، وظهرت إحصائية تقول أن أكثر من 20% من سكان كوريا الجنوبية قد شاهدوا الفِلم. هذا النجاح الهائل جعله ظاهرة ثقافية، وشُيِّد تمثال للوحش على ضفة نهر هان، تكريمًا لهذا العمل الاستثنائي.


مقالات ومراجعات سينمائية أبسط من فلسفة النقّاد وأعمق من سوالف اليوتيوبرز. وتوصيات موزونة لا تخضع لتحيّز الخوارزميات، مع جديد المنصات والسينما، وأخبار الصناعة محلّيًا وعالميًا.. في نشرة تبدأ بها عطلتك كل خميس.