عدد خاص: هل يضر السعوديون السياحة في السعودية بكرمهم؟
تحزّ في نفوسنا أي دعوة لترك الكرم ونسيانه، مهما كان رأي الاعتبارات الدنيوية، فكيف عندما يكون في صفّها داعمًا لمصالحها؟



عدد خاص: هل يضر السعوديون السياحة في السعودية بكرمهم؟
عمر العمران
قبل أقل من ست سنين، وفي ربع 2019 الأخير، أطلقت السعودية أوّل تأشيرة سياحية في تاريخها.
قبل هذا التاريخ، كانت السعودية إحدى أصعب الدول في قوائم الرحّالة الذين يقصدون زيارة كل الدول، مشتركةً في ذلك مع الدول منعدمة الأمان، أو الدول القصيّة النائية، أو الدول منعدمة البنى التحتية، وذلك رغم تصدّرها مؤشرات الأمان، وموقعها القريب نسبيًّا من معظم الشعوب، ونوعيّة بناها التحتية وجودتها، من مطارات وطرق وخدمات بلدية وغيرها.
وبعد ذاك التاريخ، ولأول مرة، جرّبنا -أفرادًا وشركاتٍ وحكومةً- استقبال السيّاح الوافدين من شتى الأرض. وحينها، وبتلقائية غير مصطنعة، وافينا الآخر بأخلاقنا العربية النبيلة، وفي جوهرة تاجها: الكرم.

حينها، شاع امتعاضٌ يرى أن هذا السلوك لا يُردّ لنا عندما نزور دولهم، وأن إكرام الضيف في ثقافتنا لا يعني إكرام السائح؛ لأن الدول لا تستقبله إلا لأجل إنفاقه وإثراء اقتصادها، فكيف إذا صار عبئًا يَدفع عنه من كان يرجو نفعه؟
أتفهّم منطلقات هذا الامتعاض، ولكني في هذه المقالة سأبيّن وجهة نظري في أن مصالحنا الاقتصادية والسياسية والثقافية، تكون بقبول وتعزيز هذا السلوك، وليس بنبذه.
في الاقتصاد
وهنا الحجة الأبرز: نستفيد من السائح إذا أنفق، فما الفائدة إذا دفعنا عنه؟
ابتداءً، «البنود الكبرى» في إنفاقات أي سائح بأي دولة تدور بين: الطيران والسكن واستئجار السيارة والفعاليات النوعية. ومن شبه المعدوم أن يدفع أحدهم عن السائح في أحد هذه البنود.
إذن كل الحديث أصلًا يدور حول نسبة محدودة من مشتريات السائح. وحتى هذه النسبة المحدودة، سيدفع معظمها السائح، مهما شاع «سلوك الكرم»؛ إذ إنه، وفي أعلى الاحتمالات، سيصادف السائح ذاك السلوك في مشتريات معدودة أثناء رحلته القائمة لأيام. لذا، كم ستكون فعلًا نسبة ما دفعناه عنه؟وليس بالطبع مفاد ذلك أن متجرًا سعوديًّا معظم زوّاره من السيّاح الأجانب عليه أن يكرمهم ولا يقبل أموالهم، فذلك يخالف غرض وجوده وعمله، إنما المقصود هو الأشكال العفوية والعشوائية من الإكرام.
الفقرتان السابقتان تريد -ببساطة- التساؤل: هل المبالغ التي نناقشها -أصلًا- معتبرة ومتناسبة مع حجم الأثر الذي نتخيّله عنها؟
ثم لنحلّل أثر هذه المبالغ المحدودة، هل فعلًا تذهب سدًى دون مردود اقتصادي على السياحة؟
سمعة المقاصد السياحية من أهم أصولها، ومن أهم عوامل بقائها ورواجها. ومهما اختلفنا في صحة هذا السلوك أو خطئه بالمجمل، لا يختلف عاقل على الأثر الإيجابي لهذا «الكرم» على تجربة السياحة بالسعودية وسمعتها.
فتلك المبالغ المحدودة المدفوعة عن السيّاح سيقابلها تحسّن في سمعة السياحة السعودية، التي تعني وفود سيّاح أكثر، وتزايد احتمال عودة السيّاح السابقين.
في السياسة
في سياق السعودية، فمن أهم مكاسب فتح الدولة أمام السياحة تحسين انطباع الآخرين حولها وحول شعبها.
ومهما بلغت روعة واقعك وثقافتك، فإنك عندما تغلق الباب على نفسك أمام كل تأشيرات السياحة -وهو الحال لعقود قبل 2019- تكون قد عزّزت فرص خلق الآخرين صورًا نمطية سلبية عنك. لا لشرّ وعداءٍ فيهم بالضرورة، بل لأنك ببساطة لا تسمح لهم بأن يستكشفوك ويجرّبوا شكل معيشتك، فتكون جعلت من نفسك صندوقًا أسود تدور حوله الأساطير.
ومن أمثلة ذلك تصوّر العالم انعدام الأمن في السعودية، لربطهم إياها بالشرق الأوسط ومشاكله، بينما هي من آمن دول العالم، بل وفي الغالب آمن بعدّة مرات من دولة صاحب ذاك التصوّر. ولكن من يلومه؟
والأمر ذاته ينطبق على كوريا الشمالية؛ بتحمّلها قدر من مسؤولية تكوّن صور نمطية سلبية عنها، وكثير منها يعوزها الصدق والدقة، ولكن العالم يصدقها، لأنهم ببساطة، لا يُسمح لهم بالتحقّق منها.

عودة إلى سياقنا، تلك الأخلاق النبيلة المتجذّرة في ثقافتنا ليست إلا أفضل ما نقدّمه -عفويًّا ودون أن نتكلف- للآخر عنّا.
نحن مدركون عِظم ثقافتنا ونبلها، لذا يبدو لنا أننا لا نحتاج إلى إثبات شيء لأحد، ولكن الواقع يقول إن عموم تصوّر الآخر عنك مغلوط وزائف، فِلمَ لا تقدّم نفسك للآخر كما هو أنت ببساطة؟
ولا يخفى على أحد ضرر التنميط السلبي على مختلف الأمور المؤثرة فينا، سياسةً واقتصادًا وتقنيةً ورياضةً، وغيرها.
في الثقافة
بجانب الحجج الاقتصادية، تُستخدم المبرّرات الثقافية لاستنكار «إكرام السائح»، مثل أننا لا نلقى الإكرام ذاته عندما نكون نحن السياح، وأن الغربي والشرقي سيعد ذلك استغفالًا لنا، وقد يتطوّر ليراه استحقاقًا في المستقبل.
أما عن الأولى، فالكرم خصلةٌ عربية خالصة، من المعروف قديمًا وحاضرًا أوليّة العرب بها على غيرهم من الثقافات. ولذا، لا يمكن أن يكون تمثّل الآخر بها شرطًا لتمثّلنا نحن. بل نتعلّق بها أكثر كلما اختصصنا بها أكثر.
وحتى بين أفراد العرب وبعضهم، لم يشترط الكريم يومًا أن يكون ضيفه كريمًا حتى يؤدي واجبه نحوه.
ومثل ذلك عن الحجة الثانية؛ فالكريم كريمٌ لنظرته هو للكرم، وليس لظن ضيفه واعتباراته لفعله. وهذا إن سلّمنا المقدمة التي تفترض أن ضيفًا -مهما كانت ثقافته- سيرى في إكرامه استغلالًا لمضيفه، بل إن الكرم نُبلٌ آسر، يُخجل متلقيه ولا يبطره، وردود أفعال السيّاح المُكرَمين -باختلاف خلفياتهم- أوضح دليل على ذلك.
ثم إن العرب، وإن اختصوا بالكرم، فإنهم لا يختصون بالكرامة. وشاهد ذلك أن محاولات السيّاح المُكرَمين برفض إكرامهم لا تختلف كثيرًا عن محاولاتنا.
وليس في أيٍّ مما قلت تبريرٌ لإكرام أعراقٍ وألوانٍ دون أخرى، بل في ذلك دناءة أحقر من ترك الكرم كلّه. وليس أيضًا مفاد ما قلت إن إكرام السائح في كل مشترياته ومدفوعاته واجبٌ مرجو، إنما مفاده الرد على من انتقد إكرام السائح بالكلية، وعلى من امتعض ممن أكرم السائح مرةً وباختياره. ونقيس على قصر إكرام الضيف في موروثنا على ثلاثة أيام، بأن إكرام السائح في العموم محدود.
الكرم أسمى ما وهبنا الله من الأخلاق، وقد توارثناه قرنًا بعد قرن، متمثلين به في الشدة قبل الرخاء. ولذا تحزّ في نفوسنا أي دعوة لتركه ونسيانه، مهما كان رأي الاعتبارات الدنيوية، فكيف عندما يكون في صفّها داعمًا لمصالحها؟
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.


مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.