طاش: لم يكن مسلسلًا كوميديًّا فقط
زائد: مشهد غامض يحيّر المشاهدين في «طاش ما طاش»


أوضح تقييم لجودة العمل من عدمها، أن تشاهد فِلمًا أو مسلسلًا لا تهتم لموضوعه كثيرًا، لكنك رغم ذلك تستمرّ في مشاهدته وأنت مستمتع به.
أنا مثلًا لستُ مهتمًّا بكرة القدم الأمريكية، حتى أنني لا أفهم كل قوانينها، لكني عندما شاهدت السلسلة الوثائقية «The Dynasty: New England Patriots»، استمتعت بها كثيرًا، وأثارت فضولي نحو كرة القدم الأمريكية. فقد استطاع صنّاع السلسلة حكاية القصة بطريقة ممتعة؛ تشاهد فيها كل الجوانب الدرامية والإنسانية التي تستطيع فهمها والشعور بها، بعيدًا عن اللعبة وقوانينها الجامدة.
وهنا قوة رواية القصة: كيف تثير اهتمام المستمع على أي حال؟
نايف العصيمي




اليوم نقول أكشن في هذا المشهد من حلقة «الزار»، من الموسم العاشر من «طاش ما طاش». من كتابة عبدالله بن بخيت وإخراج عبدالخالق الغانم.
تدور أحداث الحلقة حول سلسلة من الأحداث الغريبة، تبدأ بتفاجؤ «أبو محمد» (عبدالله السدحان) برؤية صديقه القديم «سعد بن شميس» المتوفى منذ عشرين عامًا، ولم تتغير ملامحه منذ ذلك الحين. يُصاب «أبو محمد» بالدهشة ويخبر صديقه «صالح» (ناصر القصبي) بما شاهده، لكن سرعان ما يختفي «أبو محمد» في ظروف غامضة. يحاول «صالح» البحث عنه وإيجاد تفسير لموضوع صديقهم «سعد بن شميس»، لكن تخبره زوجة «أبو محمد» أن زوجها قد سافر منذ عشرة أيام، ولكن الغريب أن سيارته لا تزال متوقفة أمام المنزل!
يزداد الأمر غرابة عندما يجد السيارة نفسها متوقّفة أمام بيت «سعد بن شميس». وبدافع القلق، يقرّر «صالح» مواصلة البحث، فيتوجه إلى بيت «سعد بن شميس»، حيث يقابله رجل غامض يدعوه إلى الدخول؛ ليجد نفسه وسط أجواء غريبة توحي بأن شيئًا غير طبيعي يحدث.
في هذا المشهد، وبالتحديد في نهاية الحلقة، يدخل «صالح» إحدى الغرف داخل منزل «سعد»، التي تقوده إلى مكان مجهول وغريب: صحراء واسعة. وهناك، تحت ضوء لا يُعرف مصدره، يجتمع أصدقاؤه القدامى، يرقصون ويغنّون بحماس وفرح، ومن ضمنهم «سعد بن شميس» وصاحبه «أبو محمد». ووسط هذا المشهد، تتلبّس «صالح» رعشة خفيفة، ويكشف وجهه الشاحب عن قلقه، وتتحرك عيناه بارتباك، ويرفض عقله تصديق ما يراه.
وبينما يقف «صالح» متصلّبًا، يبدأ بعض الراقصين بالدخول في حالة «استنزال»؛ عيونهم مرفوعة إلى الأعلى، وأجسادهم تتحرك بطريقة غير طبيعية، والجو كله كان مشحونًا بشيء غير مفهوم. تكتمل صدمة «صالح» بأن يرى نفسه أيضًا بينهم، يرقص وكأنه عالق في شيء لا يستطيع الهروب منه.
ينتهي المشهد برؤية «صالح» نفسه ساقطًا مغشيًّا عليه بين الراقصين، ويتضح -مبدئيًّا- أن كل ما جرى من أحداث ليست سوى خيالات شخص دخل في حالة «استنزال» وقت الرقص.
يرمز هذا المشهد إلى انغماس «صالح» الكامل في التجربة، وكأنه يعيش بين عوالم متداخلة بين ذكريات الماضي، وبين الحاضر الذي يحاول «صالح» أن يمسك بتلابيبه دون جدوى.
تمكن الأداء في هذا المشهد من التأثير النفسي في المشاهدين، حيث قدّم ناصر القصبي حالة الذهول من خلال تعابير وجهه المتجمّدة، ونظراته القلقة، وجسّد بدقة حالة الخوف التي تُصلّب الشخص وتمنعه من الحركة. وجسّد المشاركون في الرقص حالة «الاستنزال» بأجسادهم التي تتحرك دون وعي، وعيونهم المحدّقة في الفراغ، وأضافوا على المشهد إحساسًا بالرهبة والغموض.
إلى جانب الأداءات، كان للإضاءة دور مهم أيضًا، حيث بدا الضوء وكأنه ينبعث من لا مكان، وتركيز الإضاءة على مكان الجلسة يعطيك شعورًا بالحصار الذي يعيشه «صالح»، في حين تتصاعد أصوات الدفوف والغناء تدريجيًّا، وكأنها تسحب المشهد إلى ذروته، وهي لحظة رؤية «صالح» نفسه بين الراقصين.
بعد عرض الحلقة، كتب عبدالله بن بخيت مقالة طرح فيها رؤيته حول الحلقة التي كتبها، موضّحًا أن هناك اختلافًا بين رؤيته ورؤية المخرج عبدالخالق الغانم قد أدّى إلى تغيير جوهر القصة. فكان هدفه خلق عدم يقينية عند المشاهد، وتقديم مزيج من القلق والحنين، دون اللجوء إلى عناصر الرعب التقليدية في الحلقة، ولكن المخرج قد حوّلها إلى حلقة رعب.
وأراد عبدالله أيضًا أن يكون الزار انعكاسًا للقلق الإنساني، لكن اختزل المخرج القصة إلى مشكلة عقلية في رؤوس الشخصيات الرئيسة. كما أشار إلى أن المشهد الأول من الحلقة -لحظة التقاء «أبو محمد» بـ«سعد»- قد غيّر مسار القصة، وجعل لقاء الشخصية الرئيسة بزميله القديم يبدو وهميًّا، وأفقد النص معناه.
في النهاية، يعترف عبدالله بن بخيت بأن الجميع لا يزالون في مرحلة التعلّم فيما يتعلق بهذا النوع من الدراما، لكنه يؤكد أن «طاش ما طاش» كان له السبق في عرض أفكار جديدة.
مع ذلك، يمكننا رؤية العناصر التي أراد عبدالله بن بخيت إبرازها في رؤيته الأصلية للحلقة في هذا المشهد؛ فـ«صالح»، الذي بدأ رحلته بحثًا عن صديق من الماضي، انتهى به الأمر ليكون جزءًا من ذلك الماضي عينه (وكأنه شخصٌ من المستقبل يزور ماضيه). وتلك النقلة المفاجئة من بيت «سعد» إلى الصحراء تطمس الحدود بين الواقع والخيال، وبين الوعي واللاوعي، وتخلق حالة من عدم اليقين لدى المشاهد، بحيث لا يكون واضحًا تمامًا إن كان ما يمر به صالح حقيقية أم مجرد خيالات ناتجة عن حالته النفسية.
اسم الحلقة «الزار» يحمل معاني متعددة ترتبط بطبيعة القصة والمغزى من الحلقة. والكلمة نفسها قد تكون مشتقة من الفعل «زار»، أي جاء ثم رحل، وهو ما يتوافق مع الاعتقاد بأن الجن «يزور» جسد الشخص لفترة في أثناء حالة «الاستنزال» ثم يغادر، ليعود الإنسان إلى حالته الطبيعية. ويتماشى هذا التفسير أيضًا مع حالة «صالح» في الحلقة، حيث يزور نفسه في تجربة غامضة تتلاشى لاحقًا.
المعنى الآخر لاسم «الزار» قد يكون مرتبطًا بالآلة الموسيقية «الزير»، حيث تلعب الإيقاعات دورًا أساسيًّا في تحفيز حالة الغياب عن الوعي والانغماس في الرقصات اللاواعية. في هذا السياق، يمكننا أن نعدّ الموسيقا والإيقاعات في المشهد عنصرًا جوهريًّا في بناء الأجواء.
يُعد المشهد بحد ذاته علامةً فارقة في تاريخ المسلسل، إذ حيّر المشاهدين لغرابته، ولا يزال إلى اليوم محلّ نقاش طويل بين المشاهدين.

فقرة حصريّة
اشترك الآن


لم يكن شغف ناصر القصبي وعبدالله السدحان أثناء دراستهم الجامعية في كلية الزراعة بجامعة الملك سعود منصبًّا على الدراسة والتعلّم، بل كان على خشبة المسرح الجامعي، حيث اكتشفا موهبتهما في الكوميديا والتمثيل. ومن هناك، انطلقا إلى الشاشة، وكانت بداية هذه الثنائية مع مسلسل «أيام لا تُنسى»، ومن ثم جاء دور البطولة في «عودة عصويد»، حيث بدأت ملامح الكيمياء بينهما تتشكّل بوضوح، وجذبا الأنظار إليهما بأسلوبهما الساخر والعفوي. لكن المجد الحقيقي لم يكن قد وُلد بعد.
ففي 1993، قررا تقديم شيء مختلف، مشروع يعكس واقع المجتمع السعودي بقالب كوميدي جريء، فجاءت فكرة مسلسل «طاش ما طاش»، ليبدأ واحد من أطول المسلسلات العربية عمرًا، وأكثرها تأثيرًا. وتحت إدارة المخرج عامر الحمود، خرجت المواسم الثلاثة الأولى، قبل أن يتغيّر لاحقًا وتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ المسلسل.
وبهذه القصة، نستهلّ فقرة «دريت ولّا ما دريت» عن المسلسل السعودي التاريخي «طاش ما طاش»:
بعد الموسم الثالث، قرّر المخرج عامر الحمود الانفصال عن العمل، لكن أراد القصبي والسدحان تطوير المسلسل. بعدها انتقل إخراج العمل إلى عبدالخالق الغانم (من 1996 إلى 2010)، الذي أصبح اسمه الأكثر ارتباطًا بالمسلسل، ثم تولّى محمد عايش مهمة الإخراج لموسم 2012، قبل أن يتوقف المسلسل.
لاحقًا، رفع الحمود قضية ضد القصبي والسدحان، مطالبًا بحقوق الاسم. وفي عام 2017 كسب الحكم، ما منع استخدام الاسم لسنوات، قبل أن تتوصّل «MBC» إلى اتفاق يسمح باستخدام العلامة التجارية باسم مختلف، ليعود المسلسل رسميًّا في رمضان 2023 بعد خلافٍ شهير بين النجمين ناصر وعبدالله. أُنتج المسلسل تحت عنوان «طاش العودة»، من إخراج محمد القفّاص.
للمسلسل تاريخ طويل مع التوقفات والحلقات الممنوعة؛ بدءًا من الجزء الخامس، حين أُعلِن عن توقّف إنتاج المسلسل ثلاث مرّات، ومُنِعت أكثر من عشرين حلقة، نظرًا لحساسية مواضيعها، منها ما أُعيد إنتاجه، ومنها من حُذف إلى الأبد.
واجه المسلسل رفضًا في بدايته من بعض الجهات بسبب جرأته في طرح القضايا الاجتماعية. وفي الجزأين الأول والثاني، لم يظهر أي عنصر نسائي (لا أم ولا أخت ولا زوجة)، وكان جميع الممثلين رجالًا.
استلهم عبدالله السدحان شخصية «أبو مساعد» من طفولته، حيث كان يتنكر وقتها في صورة رجل كبير في السن، ويجلس مع كبار السن. أما شخصية «سعيدان»، فجاءت فكرة أسنانه البارزة عندما كان السدحان يراجع طبيب الأسنان، ورأى نموذجًا ثلاثي الأبعاد لأسنان أحد المراجعين، فطلب من الطبيب أن يصمم له نموذجًا مشابهًا ليستخدمه في الدور.
اعتزل الممثل فهد الحيّان، الشهير بشخصية «هزار»، بسبب الإرهاق وضغط العمل، لكنه قرر العودة بعد مكالمة مؤثرة من والدة أحد أصدقائه ناشدته فيها أن يعود إلى التمثيل.
نظرًا لأهمية المسلسل ثقافيًّا، طلبت مكتبة الكونقرس الأمريكية بعض أجزاء «طاش ما طاش» لحفظها في أرشيفها.


مقالات ومراجعات سينمائية أبسط من فلسفة النقّاد وأعمق من سوالف اليوتيوبرز. وتوصيات موزونة لا تخضع لتحيّز الخوارزميات، مع جديد المنصات والسينما، وأخبار الصناعة محلّيًا وعالميًا.. في نشرة تبدأ بها عطلتك كل خميس.