مثاني كفوفي
الحناء بين الفن والأنوثة والهوية الشرقية


كطقسٍ تطهّري، تظهر بقعة حمراء أشبه بالدم في راحة يد النساء، وأتساءل: هل وُلدت هذه العلامة تعبيرًا عن الزينة، أم كانت طقسًا قديمًا للتطهّر بالدم؟
تختلف معايير الجمال من مجتمع إلى آخر، متأثرة بالعوامل التاريخية والثقافية. لطالما كانت الزينة وسيلةً لتجسيد تلك المعايير، حيث تُستخدم لتعزيز الصفات التي تُعد محبّبة في سياقٍ معين، لإبراز الأنوثة أو الجاذبية أو حتى الحشمة في بعض الثقافات.
ومع الحداثة، لم تعد هذه المعايير محلية بحتة، بل باتت خاضعة لمبضع الجراح وصيحات الموضة العالمية، حتى أصبحت شبه متطابقة في كثير من المجتمعات!
لكن في السعودية، الحناء تلوّن الذاكرة قبل الأيادي. يعرف السعوديون جيدًا المقطع الشهير «ما حلا الحنا والثوب الجديد» من أغنية طلال مداح، التي طالما رافقت ليالي العيد. بالنسبة للنساء، لم يكن اللون الأحمر المرسوم على الأيدي مجرد زينة، بل امتدادًا لذاكرة الجدّات، حين كانت الحناء أسلوب حياة قبل أن تتبدل الأدوات والألوان.
نوّاف الحربي


مثاني كفوفي
تنساب معرفة المرأة الجمالية بهدوء، عابرة الحدود والخصوصيات والثقافات، لتملأ مساحات نسائية مغلقة يشعر تجاهها الرجال بغموضٍ يقترب من التقديس، حيث ترسم حواجبي امرأة أوكرانية، وتقص شعري امرأة روسية، وتدلكني امرأة تايلندية، وتُنعّم قدميّ امرأة فلبينية، وأشتري مستحضراتي من امرأة أمريكية، وأتعلم كيف أستخدمها من امرأة كويتية.
لكن الحناء، لا غيرها، كانت البطل الأول للاختراق الثقافي الجمالي إلى عمق حياتنا.
أذكر جيدًا أول امرأة أجنبية دخلت بيتنا في مهمة جمالية. كانت «سعادة» الهندية، التي جاءت تنقش أيدينا بالحناء بمناسبة زفاف أختي الكبرى، في سنوات الطفرة الأولى.
قبل دخول سعادة بيتنا، كانت الحناء لطخة في باطن الكف، تُزَم اليد بعدها في «غدفة» بالية، فتصير الطفلة أشبه بالملاكم المتأهب لاستقبال ليلة طويلة؛ لا ذهاب فيها إلى الحمام، نوم ساكن بانتظار الصباح، حيث تُكرم البنت أو تُهان، بحناء أحمر ناقع أو برتقالي ذابل، حسب حظها، وجلدها، ومهارة مُربية الحناء، وهي في حالتي جدتي، التي ماتت ولم أرَ يدها خالية من الحناء قط. فالحناء ديانة وعقيدة.
جدتي النجدية، التي لم تكن تقرأ ولا تكتب، كانت متمسكة بروايات معينة للأحاديث النبوية تتعلق بإدارة عالمها الجمالي؛ فقُلَامات الأظافر ونسيل الشعر تُدفن تحت التراب، واليد لا تخلو من الحناء، لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما مدت امرأة يدها إليه بيضاء من غير سوء أمرها بالخضاب ليُعرف أنها امرأة.
ولمّا وسّعتُ البحث في هواجس النساء عمّا يجوز ولا يجوز في الحناء قبل خمسين عامًا، وجدتهن يسألن مفتي السعودية عن جواز الحناء ليلة الإثنين، أو في شهر صفر، وعن صحة أن المرأة إذا تحنّت أربعين ليلة، هل تدخل الجنة؟ يضرب النجديون المثل بالحناء الذي كاد أن يرتقي مرتبة الشرط الشرعيّ، في أعين نسائهم، فيقولون: «يجوز العيد بلا حناء».
كنا نتحنى لكل عيد لكن عندما دخلت حفيدة السلاطين المغول -سعادة- بيتنا جاءت بفتحٍ جديد وهو النقش. فإذا كانت لطخة الحناء النجدية تشبه بيت الطين النجدي: متقشّفة ووظيفية، فقد وقفت أمامها نقوش سعادة شامخة مثل تاج محل، بكل بهاء الزخرف وتعقيدات المعاني وتفرّد التعبير. تلك المرأة الهندية مثّلت الارتقاء بالحناء إلى مرتبة الفنّ.
يُسمي السودانيون المرأة التي تنقش الحناء بـ«الحنّانة»، وهي تسمية طالما حيرتني حتى انتبهت إلى جناسها شبه التامّ مع كلمة «فنّانة». الحناء لا تنفكّ عن ثلاثة أشياء: الأنوثة والفن والشرق.
فمن حيث أنها زينة، فالزينة في القاموس الأنثروبولوجي ليست إلا فنًّا بصريًّا للجسد والملامح، وأسلوبًا لإظهار الفرق بين الطبيعة والثقافة. من بوابة الثقافة ترتبط الحناء بالزينة، والزينة بالفن، والفن بالفرح. فتنادي الشاعرة عشيرها، خلف الفغم، في ضحى العيد:
لا يا خلف يالفغم... وين أنت عنّا؟
ليتك ضحى العيد عندي تشوفي
حطيت لك بأطراف الأصابع حنّا
وخضبت لك حتى مثاني كفوفي
هذه امرأة صريحة تستعمل دلالة الحناء المعروفة بلا التباس، كفّها المُحنّى يسأل: «وين أنت عنّا؟» قِبالتها تقف امرأة أخرى، أحسبها من أكثر النساء تهتكًا وتلاعبًا بواحدٍ من أكثر الرجال الذين دلههم الحُبّ، وأعني رواية قيس بن الملوّح لقاءه بليلى العامرية وكفيها الأحمرين بعد البين:
ولما تلاقينا على سَفحِ رامةٍ
وجدتُ بنانَ العامريةِ أحمرا
فقلتُ: خضبتِ الكفَّ بعدَ فراقِنا؟
فقالت: معاذ اللهِ ذلك ما جرى
ولكنني لما رأيتُك راحلًا
بكيتُ دمًا حتى بللتُ بهِ الثرى
مسحتُ بأطرافِ البنان مدامعي
فصار خضابًا بالأكفِّ كما ترى
أما من حيث ارتباط الحناء بالأنوثة، فالحناء تصطفّ إلى جانب الكحل والديرم والمشاط والرشوش، قائدةً لكتيبة الزينة التقليدية. كما ترتبط بالأنوثة اقتصاديًّا، فكانت السلعة الأولى في سوق الحريم، تُباع «خضراء في السوق، حمراء في يد أمك»، ثم تطورت علاقتها باقتصاديات الأنوثة عندما دخلت سعادة وأضرابها من الفنانات الأجيرات بيوتنا.
والرجل لا يتحنّى إلا لطارئ: طمس الشيب، أو لأسباب علاجية صرفة، وهنا تعيد الحناء تموضعها في عالم الطب، نفحة مباركة تعالج الصداع وقروح الجلد وألم المفاصل.
أما عن شرقية الحناء، فالغرب والحناء لا يلتقيان، إلا على سبيل عبث المرأة البيضاء ورغبتها المؤقتة في تجربة أدوار جديدة. في ساحة جامع الفنا في مرّاكش، تكثر ناقشات الحناء بين رواة القصص وعازفي القناوة وحواة الأفاعي. تجلس أمام إحداهنّ امرأة بيضاء مقرفصة تلبس فستانًا هيبيًّا وتطمح لاستكمال الـ«لوك» بذراعٍ منقوشة.
بعد جولتي في الساحة، صادفتُ مالك الرياض-السكن- التي أسكن فيها، وهو رجل فرنسي، فحذّرني بموعظة مطوّلة من الاقتراب من حنّايات الساحة، فخلطة الحناء رديئة وتنتهي بحروق في الجلد. فلم أعرف كيف أشرح له أنني مضاوي، حفيدة موضي العبدالكريم، التي لم يخلُ كفها من الحناء في حياتها، لا أحتاج إلى رجل فرنسي يُثقفني عن الحناء.


الطرس والرسالة والورق والكتاب والخطّ، كلها كانت في السابق تعابير عن الرسائل المُرسَلة إلى المغتربين عن أوطانهم وأهاليهم. في هذا التسجيل من تسجيلات الدكتور سعد الصويّان مع أم شيحان، تروي قصيدة ومناسبتها، حيث إنّ شيحان أرسل المراسيل من الديار البعيدة، يوم أن وصل لها طالبًا الرزق. يقول في الخطّ: «قولوا لأمي تسامحن»، فكانت هذه مناسبة القصيدة. ثمّ يسأل شيحان بعد فترة: «هو أمي جاه خطي؟» (هل جاء لأمي خطّي؟) لتردّ أم شيحان: «خطّك وصل يا نور عيني فهمناه... قرطاس، والقرطاس ما به رغابة.»

يقولون رمضان يجمعنا؟ وش لون رمضان اللي عايش لحاله في الربع الخالي؟ لا ونيس ولا أنيس ولا أحد يرد الصوت.

يشدّني موضوع الرزق والتسخير والتسهيل لبعض الشخصيات اللي نصورهم، وفي الغالب أخرج بنتيجة: إن أقل المكاسب هو خروج الفِلم للنور، لكن هناك خبايا خلف الكواليس، لو تأملتها، لوجدت فيها الرحمة والخير. على سبيل المثال: صاحبنا فضل أبو الثقيل، وحيد في الربع الخالي، يصوم ويعيّد لحاله، ووظيفته مسؤول عن بئر الشلفا، يشغّلها ويطفيها للمارّة، ويحافظ على سلامتها! يوم قال الله قوله، قطعنا له المسافات -150 كيلو متر تقريبًا- ولا ندري عنه، لأن وقتها كنّا نصوّر فِلم قريان الهاجري، وقلنا: نبي نستحم بعد يومين في الصحراء، وقابلنا فضل ضمن الرحلة.
فتح لنا الباب، ولزّم على الشاهي، ومن أول لقاء عقدنا العزم إننا نجيه ونصوم معه أول أيام رمضان. عنده من الحكمة والأمانة والتوكل، الشيء اللي كنا محتاجين إننا نسمعه ونسمّعه أكثر من حاجته لنا. يبقى السؤال، ليه فضل من بد السعودية، الله سخرنا له، نوثقه وننقل صوته؟



جازان | قرية الشامية.
.png)
إذا كنت في جازان، مرّ على الفلاح محمد بن كلفوت. عنده البُر والذرة والبُن الخولاني، والأهم من ذلك، العِلم الغانم.
اقلط عنده الفجر، وبتلقى القهوة اللي تقنّد الراس أو الحليب الطازج. وسولف معه عن أشجار البُن اللي ورثها، وعن الفلاحة في الجبل.




الذاكرة السعودية بالنص والصوت والصورة، في نشرة بريدية نصف شهرية، تعيد اكتشاف الثقافة المحلية وارتباطها بالعالم.