في مديح غرفتك الفوضوية 🛋️

زائد: ماذا تفعل إذا حرمتك الحياة من خط يدك؟ 🥊

غرفتك الفوضوية / Imran Creative
غرفتك الفوضوية / Imran Creative

في مديح غرفتك الفوضوية🛋️

شهد راشد

في أي لحظة يدخل فيها أحد غرفتي، أجد نفسي أبرر الفوضى العارمة التي تسيطر على المكان. فمكتبي الذي أمارس فيه فنوني لا يمكن رؤية سطحه، حتى أني وضعت مكتبًا آخر للعمل. وأرفف الكتب أملؤها بعبثية ما بين أدوات هواياتي، وعلب المكملات والأدوية، وآلة خياطة، وصندوق شاي منوّع، وعلبة سُكر، وما خفي أعظم.

ينتابني الخجل أحيانًا من فوضاي التي أعجز عن كبحها. فكلما هممت بترتيب جزء منها تعمّ فيه الفوضى مجددًا قبل انتقالي إلى ترتيب الجزء التالي، ولا أعلم السبب. فقد كبرت ووالدتي حريصة كل الحرص على أن أكون امرأة «سنعة»، ومجتمعي يعوّل على الترتيب والاهتمام بالمساحة الشخصية ويعدُّها من أفضل السمات. ولا يتوقف الأمر عند غرفتي، مكتبي في العمل مكانٌ فوضوي أيضًا، وكلما زاد الضغط وتكدست المهام زادت فوضويته، فهذه علاقة طردية حتمية.

صدقًا، لم أعتد الانزعاج من الفوضى، إذ أراها جزءًا من الحياة اليومية، وعنصرًا في إنتاجي وتعزيز قدرتي الإبداعية. فالأوراق والألوان والقصاصات من مواد مختلفة على مكتب غرفتي وأرضيتها تمنح عقلي متسعًا للربط بين الأشياء، وتفتح نافذة استخدام خامة أو تجربة تقنية لم أكن سأفكر فيها لو أنني أعيد كل شيء إلى مكانه فورًا. أما فوضوية مكتبي فتشهد على استغراقي في العمل وعلى محاولاتي وجهدي.

فمن أين إذن جاء إحساسي بالخجل؟

بدأت أشعر بالخجل من فوضاي الجنونية عندما بدأت تظهر لي مئات المقاطع والمنشورات لمنازل بيضاء ناصعة بلا شائبة، وغرف وسيارات منظمة بدقة وحرص عسكري، وكأنها مساحة عرض وليست مكانًا يُعاش فيه. وبدأ مع تصاعد الترويج لمفهوم «المينماليست» حيث صار الترتيب الهَوَسي مرادفًا للجمال والحس الذوقي الراقي، فتلاحقني منشورات نصائح السيدة ماري كوندو في كل تطبيق وتحثّني على التخلص من كل شيء إلا ما يجلب لي المتعة فقط، والالتزام بالترتيب المستمر كنمط حياة. 

لكن هل الفوضى بالسوء الذي يتفق عليه غالبية الناس؟ وهل نستحق نحن الفوضويون هذه الشيطنة الرهيبة؟ 

يتطرق كتاب «فوضى عارمة: المزايا الخفية لعدم الترتيب» (A Perfect Mess: The Hidden Benefits of Disorder) لهذا الموضوع. ويحاول الإجابة عن أسئلة عدة حول وصمة الفوضوية التي نَصِم بها كل من تبدو على مساحاته أمارات الفوضى.

يقترح الكتاب أن الفوضى المُختارَة (أي الفوضى التي نصنعها بأيدينا) تعزز المرونة والتأقلم عندما يحدث شيء خارج إرادتنا سواء في بيئتنا القريبة أو العالم الأبعد. فاعتيادك على مستوى من عدم النظام يعزز كفاءتك في التعامل مع فوضى الأحداث غير المتوقعة. بينما يمكن لاعتيادك النظام الثابت والجامد أن يقيد قدرتك على التكيُّف.

ولكن النقطة التي لفتت انتباهي في الكتاب هي مناقشة مؤلفيه فكرة ارتباط الفوضى بالارتجال. فبيئة العمل العشوائية، أو جدول المهام المتداخل، أو حتى منزل يحوّله الأطفال إلى ساحة صراع يومية، كلها تُبقي الذهن حادًا وسريعًا في إيجاد الحلول الإبداعية واللحظيّة التي تتعامل مع كل مشكلة تطرأ في وقتها. لا يعني هذا أن النظام والوضوح يمنعان الارتجال، بل على العكس. 

لهذا لا بد من إيجاد توازن بين النظام الصارم والفوضى المفرطة. فوجود بعض القيود العامة والأساسية والتزامنا بها تمنح الذهن مسارًا يُسهّل علينا الارتجال بدل محاولتنا خلق نظام أولًا ثم ارتجال حلوله. ويمكنك ملاحظة ذلك في نفسك وفوضاك، فهي ليست عشوائية تمامًا، بل عشوائية لمن لا يفهمها. 

هذا ما كانت تتبنّاه الموسيقا الكلاسيكية الباروكية في القرن الثامن عشر. فمع تعقيد هذا النوع ودقته وجد الارتجال متسعًا كبيرًا للازدهار. وقد عُرِف الموسيقار العبقري باخ بالارتجال على آلة الأرغن مباشرة أثناء العزف أمام الناس ودون تجارب مسبقة، في تناغمٍ مثالي بين النظام الكلاسيكي والفوضى الفردية. 

بعد مسيرة كوندو المهنية الناجحة، التي تخللتها كتب وبرامج شهيرة تتغنّى بتمسّكها الشديد بالنظام وتدعونا إلى اتباع نصائحها كإرشادات حياتية ضرورية، صرّحت أنها تخلت عن كثير من مبادئها عندما أنجبت ثلاثة أطفال، لأنها أدركت أن الاستمتاع بوقتها معهم أثمن من إهداره في ملاحقة كل ما يبعثر نظام المنزل.

صحيح أني لم أنجب أي طفل، ولكني سأتعلم من تجربة كوندو ولن أتمسّك برغبتي بخوض التجارب بنفسي أولًا لكي أصل إلى استنتاجاتي وقناعاتي الخاصة. وقررت ألا أدع القليل من الفوضى، ولا حتى الفوضى العارمة، أن تسلبني متعة الاسترخاء على أريكتي، وتأجيل حمل كوب القهوة الفارغ عن طاولة مكتبي إلى وقت لاحق.


خيمة السكينة🏕️

إذا حرمتك الحياة من خط يدك، ارتدِ القفاز ولاكِم!

في مقالٍ شخصيّ بديع، تكتب الشاعرة وأستاذة الحضارة الإغريقية والكاتبة آن كارسون عن فقدها خط يدها نتيجة إصابتها بمرض باركنسون، وتقول:

«حين شُخّصتُ بمرض باركنسون، أكثر عَرَضٍ أشعرني بالخزي هو تفسُّخ خط يدي. فقد اعتدتُ الاستمتاع بالكتابة على دفاتري على مر الأعوام، كل يوم. والآن أرى خطي يتكسّر، ينزاح في كل الاتجاهات، الأحرف تنكمش إلى دوائر صغيرة، الزوايا تفقد حدتها، كل هذه التفسّخات تُشعرني بالخجل من نفسي. كيف لي أن أصف لك الخزي من الخط السيئ؟ فالخط السيئ قبيحٌ وغبي.»

من منطلق هذا الإحساس، تكتب آن كارسون مقالها «احذر الرجل الذي يتأرجح خطّه مثل قصبٍ في عصوف الريح» (Beware the man whose handwriting sways like a reed in the wind)، تكتبه بما يزيد على أربعة آلاف كلمة، بأسلوبها التدويني الذي امتازت به، في جمعها بين الشخصي والشعر والتاريخ والعلوم. 

في بحثها عن المرض، تكتشف كارسون أنَّ الدماغ قابلٌ لإعادة «وصل الأسلاك». كل ما عليك فعله محاولة توليد مسارات عصبية جديدة، وتنشيط الخلايا التي عاشت عشرات السنين في حال من الخمود لكي تأخذ الآن محل الخلايا المريضة. وفي سبيل تحقيق ذلك، يوصيها أطباؤها بممارسة الملاكمة، لأنَّ ممارستها يتطلب مزيجًا من التركيز القوي والتنسيق بين حركات الذراعين، وهذا المزيج ثبت أنه يخفف سرعة التفسُّخ ويبطئ أعراض التدهور.

تمارس آن كارسون الملاكمة ثلاث مرات في الأسبوع، وكل من معها في الجلسة مصابون أيضًا بالباركنسون. التمرين الأساسي عبارة عن ست حركات، كل حركة مقترنة برقم، ويصيح المدرب بالأرقام عشوائيًّا، وعلى المتدرب توجيه اللكمات إلى كيس الملاكمة المعلق أمامه بسرعة وفق تنسيق الأرقام التي يسمعها. 

ما إن يكتمل عدد المتدربين، يصيح فيهم المدرب «ارتدوا قفازاتكم»، والجميع يبدأ ارتداء القفازات، وكلٌّ عليه أن يركّز في فعل الارتداء لكي لا تهتز يده ويوقعه. فهذا شيءٌ آخر تعلمته كارسون من إصابتها بباركنسون؛ أنَّ كثيرًا من الأعمال التي نؤديها بسلاسة، مثل تفريش أسناننا، تجذرت في اللاوعي إلى حدٍّ لا نفكر بها ونحن نؤديها:

«لكن الآن، حين ننتشل كل عادةٍ من اللاوعي إلى الوعي، ونُجبَر على التركيز فيه بكامل انتباهنا، يتشكَّل لدينا مفهومٌ آخر مختلف تمامًا عن الزمن. باركنسون يذكّرك دومًا أنَّ الحياة هي هذه اللحظة التي تعيشها.»

تعرف آن كارسون أنَّ كل جهودها في التركيز على كل فعلٍ تمارسه، ومواظبتها على حضور تمارين الملاكمة، إصرارها على هذا السعي الحثيث، لن يغيّر مصيرها المحتوم. لن يحقق لها الانتصار على المرض ويحميها من فقدان قدراتها الذهنية والمعرفية. 

لكن، كما تقول آن كارسون، كلنا نعيش حياتنا في سعيٍ حثيث، ولا أحد منا سينتصر على الموت. كل ما بيدنا فعله التركيز على ما نريد فعله اللحظة، ومنح كامل اهتمامنا وانتباهنا إلى كل خطوة نأخذها. 

هكذا، بمواصلة السعي، تمكنت آن كارسون من كتابة هذا المقال. وبالسعي ستتمكن أنت أيضًا من فعل ما تريد. 🥊

إعداد🧶

إيمان أسعد


اقتباس اليوم 💬

«لن تجد الصداقة بين طرفين لا يحترمان الحدود بينهما.» سيمون فيه


قفزة إلى ماضي نشرة أها! 🚀

  • كيف يمكن لضوضاء المقاهي أن تكون محفزًا للإبداع وزيادة الإنتاجية بدلاً من أن تكون مصدرًا للتشتت؟

  • متى كانت آخر مرة وجدت نفسك مستلقيًا على أريكة دون أي ملهيات من حولك؟

نشرة بريديةرسائلإشعارات
نشرة أها!
نشرة أها!
يومية، من الأحد إلى الخميس منثمانيةثمانية

نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.

+120 متابع في آخر 7 أيام