هل زار بوطبيلة شارعكم🥁
زائد: مسمار جحا، حيلة تتوارثها الأجيال.





هل زار بوطبيلة شارعكم
يتّخذ استقبالنا لشهر رمضان المبارك شكلًا منظّمًا، فالطقس الديني لرمضان في مختلف مناطق السعودية مرتبط بالثقافة الاجتماعية لكل منطقة.
ومن المُلاحَظ تلك الفروقات بين رمضان في الماضي ونظيره في الحاضر. كان هذا الشهر في الماضي أكثر هدوءًا وروحانية، والعادات والتقاليد أكثر ترسّخًا، وكانت الأنشطة الاجتماعية محصورة في الزيارات ومشاركة موائد الإفطار. أما رمضان اليوم فهو أكثر حيوية وتجدّدًا، ويُظهِر التنوع الثقافي والاجتماعي، لا سيما أن مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت في تبادل التجارب والثقافات.
مما لا شك فيه أن دول الخليج تتميّز بثقافة فريدة تحتفي بهذا الشهر، على غرار باقي الدول الإسلامية، وقد أفرد لها الكاتب محمد رجب السامرائي بحثًا في كتابه «رمضان والعيد، عادات وثقافات»، عرض فيه مظاهر استقبال المسلمين في هذه المنطقة لغرة رمضان وعيد الفطر وما يقومون به من عادات متوارثة في الأطعمة والأغاني والفعاليات الشعبية، وينتهي بأن أغلب دول المنطقة تشترك في هذه الثقافة مع استثناءات بسيطة، ومنها المنطقة الشرقية حيث كبرت وأقيم.
مدينة تتزيّن بالمصابيح
في احتفاء موسمي يعكس أجواء البهجة ويبثّ الشعور بالطمأنينة في لياليه، يعلّق أهالي المنطقة الشرقية الفوانيس والزينة المضيئة على هيئة هلال أو نجمة على شرفات المنازل ونوافذها ومداخلها، لتشكّل لوحات فنية يوثق بها أصحابها ذكرياتهم الخاصة في هذا الشهر. كما تُزيَّن بها الشوارع والساحات. وتشهد هذه العادة في كل عام تطورًا وابتكارًا.
الطريق إلى الجامع
قيام ليالي رمضان جماعةً من أكثر ما يميّز أجواءها الإيمانية. في طريقي إلى الجامع لأداء صلاة التراويح وصلاة التهجّد مع أمي، كنتُ أشعر بأني أتخفّف من تعب اليوم ومشقّة الصيام. نلتقي أثناء سيرنا بالجارات الخارجات من منازلهن، المتّجهات إلى جامع الحيّ، فنتبادل التحايا والأحاديث ونرافقهن في مسافة الطريق.
رمضان في ذاكرة القارئ
في شهر رمضان تتضاعف جهودنا في تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، اعتبارًا بمعانيه وأمره ونهيه، وختمه لأكثر من مرة. وإلى جانب قراءة القرآن الكريم، لا يتردّد القارئ في القراءة والاطّلاع في الكتب، خاصة تلك التي تنسجم مع روحانية الشهر الفضيل.
أجد في ليالي رمضان الطويلة فرصة للقراءة بعد منتصف الليل، حين أفرغ من كل الأعمال، أو أعود من زياراتي للمعارف والأصدقاء. يحلّ الهدوء في المنزل بعد أن يتوجّه كل فرد إلى غرفته ليحظى بساعتين من النوم والراحة قبل موعد السحور. لكنّها فرصتي لأحظى برفقة مؤنسة من نوعٍ آخر. ساعة برفقة كتاب.
كان لدى والدي كتابان يعيد قراءة صفحات منهما، إضافة إلى ختمَةِ القرآن في كل رمضان يعود علينا، وهما: «رياض الصالحين» من جمع وترتيب وتبويب الإمام يحيى بن شرف الدمشقي، وهو من أعظم الكتب لتربية المسلم عقائديًّا وإيمانيًّا وأخلاقيًّا. وكتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» للقاضي عياض بن موسى، وهو من أحسن الكتب في السيرة النبوية الشريفة. قرأتُ قبل سنوات هذين الكتابين اتّباعًا لنهج والدي، ولِما لمستُ من أثرهما عليه، وهذا ما جعل عنوانهما مرتبطًا بذكرى الشهر الفضيل.
ترتبط كذلك رواية «ليلة النار» المهيبة والآسرة لإيريك إيمانويل شميت بفترة مميزة، برمضان الذي جاء متزامنًا مع فترة الحجر المنزلي خلال جائحة كورونا في 2020. شاركنا إيريك مغامرته التأمليّة الروحيّة في قلب الصحراء الجزائرية، التي دلّته على عيوبه وزعزعت قناعاته، وعلمته ما لا يُنسى، وكتب عن حادثة ضياعه التي قادته إلى الرشد والصواب، وعن ليلة النار، ليلة القبس الإلهي والانقلاب الوجودي الذي نقله من الشك والحيرة إلى اليقين والإيمان.
أذكر أني كنتُ مستمتعة أثناء القراءة بتخيّل الصحراء كما هي موصوفة: بسمائها ونجومها ورمالها ومداها المفتوح، لأدرك بعد ذلك أنها ليست مجرد رحلة في الصحراء، بل رحلة في عوالم الذات البشرية حيث يشتعل الصراع بين المادية والروحانية، وتُثار التساؤلات.
وما زلت أتذكر اقتباسًا من الرواية آنسني أيام الحجر الصحي قال فيه شميت: «أنا مصمّم على النضال المستمر، في رأيي يكمن النصر في الصراع، وليس فيما ينتج عنه، ودون أن أفقد هدفي، أفقد التوهّم بالانتصار.»
نقصة للجيران
واحدة من أجمل العادات في رمضان، التي توثق العلاقات بين الجيران وتعزز قيم الكرم والعطاء، عادة «النقصة». والنقصة هي مقاسمة الشخص ما يملكه مع من يحب هديةً له. ترسل ربّة الأسرة جزءًا من أصناف الفطور التي أعدّتها إلى الجيران قبل أذان المغرب، غالبًا ما يحملها الأطفال إليهم، وكثيرًا ما يأبى المستقبل أن يعيد الأطباق فارغة، فيملؤها بنقصة من سُفرته، لتبدأ عملية تبادل أصناف الفطور بين الجيران. وبذلك تضمّ السفرة أطعمة متنوعة من نقصة الجارات.
ومن الجدير بالذكر أن المنطقة الشرقية تشتهر بأكلات شعبية رمضانية مميزة، من أبرزها: الهريس واللقيمات والعصيدة والجريش والثريد والبلاليط والمفلّق والصالونة والخبز الأحمر «الحساوي»، وغيرها.
الغبقة الرمضانيّة
الغبقة تعني الغبوق، وفي اللغة العربية: هو ما يُشرب بالعشيّ. انتقل هذا الموروث الشعبي الاجتماعي من الكويت والبحرين إلى المنطقة الشرقية. تحمل ذاكرتي مشاهد لموائد بسيطة تُقام بعد صلاة التراويح في البيوت، للأهل والأقارب والجيران، الذين يجتمعون للتهنئة بمناسبة حلول الشهر الفضيل. تتضمّن الغبقة أنواعًا متعددة من المأكولات المحليّة والحلويات الشعبية. كانت أمي تعدّ القهوة والشاي والعصائر، وتقدم اللقيمات والسمبوسة والمعجنات والهريس، إضافة إلى الحلويات كالمهلّبية وحلوى الجيلي والكريم كراميل.
ثم حدثت تطوّرات في طبيعة الغبقة وتفاصيلها، فتحوّلت -مثل كل العادات الاجتماعية التي تتأثر بالزمن الذي تعاصره- من تقليد بسيط غير مكلف، إلى تقليد متجدّد يتطلّب استعدادات مكلفة. بِتُّ أرى البيوت تقيم الولائم الكبيرة في الغبقات، بما فيها من تكلّف في زينة البيت، وأطقم السفرة بالثيم الرمضاني، والأطباق المتنوعة، وتقديمات العطور والبخور وغيرها. كما ترتدي النساء الأزياء التقليدية التي تضفي طابعًا اجتماعيًّا مبهجًا للمناسبة، وتُزيَّن الحجرات بالفوانيس والمهفّات والصناديق القديمة ومنتجات الخوص الشعبية.
ثم صارت الوزارات والهيئات الحكومية ومؤسسات وشركات القطاع الخاص تقيم الغبقات للقياديين والعاملين فيها، في الفنادق وقاعات الاحتفالات الكبيرة.
أهزوجة منتصف الشهر
«قرقيعان.. قرقيعان، بيت قصيّر ورميضان
عطونا الله يعطيكم، بيت مكة يوديكم».
يجوب الأطفال الشوارع في العديد من أحياء المنطقة الشرقية -خاصة الأحياء الشعبية في الأحساء والقطيف- في ليلة الخامس عشر من رمضان باللباس الشعبي، الأولاد بالثوب والصدريّة الشعبية، والبنات بالدرّاعات والبخنق الملونة والمطرزة مع الترتر. يردّدون هذه الأهزوجة أمام البيوت، حيث يطرقون الأبواب -ويُقال أن تسمية القرقيعان مأخوذة من (قرع الباب)- حاملين في أيديهم أكياسًا قماشية لتعبئتها بخليط من الحلويات والمكسرات، وأحيانًا الألعاب والأموال النقدية.
يصاحبهم «بوطبيلة» الرجل الذي يقرع بالطبل مشجعًا الأطفال ومناديًا الأهالي من أجل الخروج وتقاسم الحلوى والمكسرات مع الأطفال. هذه المناسبة الأصيلة عند سكّان الساحل الشرقي تعزّز الترابط بين الأسرة وأبناء الحيّ الواحد، وتغذي قيم الكرم والمشاركة والامتنان.
ظلّ القرقيعان يزداد حيوية ورسوخًا في الذاكرة الجمعيّة، وحدثت لهذه العادة نقلة تمثّل انعكاسًا للغة العصر، فصار البعض يحضر الفرق الشعبية المكلفة ماديًّا لإقامة العروض في أفنية المنازل، والبعض يقيم احتفال القرقيعان في الفنادق. أصبح الكرنفال التقليدي يتجاوز عتبات البيوت ليصبح جزءًا من الفضاء العام في المطاعم والمقاهي والأسواق.
فعاليات ومهرجانات
تتزيّن الليالي الرمضانية في المنطقة الشرقية بالأمسيات والمجالس الثقافية التي يدور فيها الحديث حول مواضيع دينية واجتماعية وتاريخية، وكذلك المهرجانات التراثية التي تعرض الحرف اليدوية والأزياء التقليدية، والمأكولات المحليّة، والموسيقا والرقصات الشعبية.
بهجة الأسواق
لا تزال الأسواق الشعبية في المنطقة الشرقية مثل: سوق شارع الحُب في الدمام، وسوق شارع السويكت في الخبر، وسوق القيصرية في الأحساء، نابضة بالحياة خاصة في موسم رمضان، ومحتفظة بمكانتها على الرغم من انتشار المجمعات التجارية الحديثة.
يحتفظ شارع الحُب في الدمام في ذاكرتي بمرحلة الطفولة. تكمن جاذبيته في بساطته وشعبية أجوائه. يجمع الصاغة في متاجر الذهب التي تنتشر في أزقته وأركانه، بالإضافة إلى محلات الأقمشة والملابس والحُلي والمحامص والأواني المنزلية، والأكشاك التي تبيع المأكولات السريعة.
وتبسط النساء في الممرّات ببضاعتهن من الأقمشة والحناء والبراقع وأدوات الزينة. كانت أمي تتنقّل من واحدة إلى الأخرى، تعاين البضاعة وتتبادل معهن الحديث، ثم تملأ الأكياس بما تحتاجه ويروق لها منها، وكنت أساعدها في حملها وأتجول معها، مستمتعة بمنظر الفرش الملونة المبسوطة والفوانيس وعقود المصابيح المعلقة في كل مكان، وأراقب الناس الذين يتوافدون من مختلف الأجناس والأعمار والطبقات الاجتماعية المتفاوتة، فيتحول السوق من بعد صلاة التراويح إلى خلية متحركة. وتبلغ ذروة النشاط التجاري في العشر الأخيرة من رمضان، حين تتوفر مستلزمات العيد وينتعش سوق الخياطين.
ختامًا، من المُلاحَظ أننا نجحنا في الحفاظ على عراقة العادات والتقاليد الرمضانية من جانب، وفرضت الحياة العصرية مستجدّاتها على جانبٍ آخر. وهنا أريد أن أشير إلى أن لائحة المتغيّرات التي طرأت عليها، من تغيّر لمكانة بعضها وتحوّلها من ضرورة إلى مجرّد رمز، والتكلّف في بعضها الآخر والمبالغة في الاهتمام به، كلها تنبعث من مصدر واحد وهو مكانة الشهر الفضيل والرغبة في التعبير عن الفرحة بحلوله وتمييزه عن غيره.
فاصل ⏸️

رحلة ممتعة مع الفكر والأدب 📚☕️
مبادرة الشريك الأدبي تجمع القرّاء مع الأدباء والمفكرين، في جلسات حوارية، وورش ولقاءات مع كتّاب بارزين في تجربة غنية بالتفاعل والتفكير النقدي.
انضم لمجتمع الأدب، واكتشف الفعاليات القريبة منك عبر منصة جسر الثقافة.

احذروا البطنة، فإن أكثر العلل إنما تتولد من فضول الطعام
تعود المقولة للشيخ الرئيس الطبيب ابن سينا، وتُعد المقولة حكمة بليغة لتجنّب الأفعال غير المحمودة، التي تجر على الإنسان أضرارًا تصيب بدنه وعقله. والبطنة تعني الامتلاء الشديد من الطعام، وكثرة الأكل تؤدي للتخمة والشره، والمعروف أن المعدة بيت الداء والدواء، فمن كثر أكله قلّت صحته، والعلاقة بين كثرة الأكل وانعدام الحكمة والذكاء علاقة قوية.
التخمة يتبعها كثرة النوم والكسل وفساد القلب، وبما أننا نحتفي هذه الأيام بشهر رمضان المبارك الذي تكثر فيه الخيرات والبركات وتتجمّل موائده بأشهى الأطباق وأصناف الطعام، فهي فرصة ندعو فيها القارئ العزيز لتجنب ما يفيض عن حاجته من الطعام، فهو شهر عبادة وفرصة للتزوّد بالمعرفة والحركة والعمل والقراءة. ذُكر عن لقمان الحكيم قوله: «إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.»
ولعلّ الاقتداء بخير البشر الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أسلم طريق لبلوغ الاعتدال: «مَا مَلأ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، حَسْبُ الادَمِيِّ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ غَلَبَتِ الْآدَمِيَّ نَفْسُهُ، فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ».
فكفانا الله شر الإفراط في طعام لا نحتاج منه إلا ثلثه.


جحا ترك مسماره🔩
منذ طفولتي، اعتدت أن أصغي إلى حديث جدتي وأمي، فحديثهما لا يخلو من طرفة ومن حكايات وخرافات ما زالت تعيش معي إلى اليوم. ولكن أشد ما كان يثير اهتمامي استخدامهما للأمثال الشعبية، لأني ظننت لسنوات طويلة أنها تشير إلى أشخاص أعرفهم؛ أقارب أو جيران.
من هذه الأمثال، عبارة ترددها أمي كلما رأت أحدًا يتعمد ترك شيء خلفه ذريعةً للعودة: «خَلَّى مُورَاه مسمار جحا». كنت أتساءل من جحا هذا الذي تُكثر أمي من ذكره؟ ولمَ ترك مسمارًا دون غيره من الأدوات؟ ظللت أُلحُّ عليها بأسئلتي. لكن إجاباتها كانت مبهمة. وبقي السؤال معلقًّا.
بعد التحاقي بالابتدائية، كنت أحب أن أتطفّل على مكتبة أبي العامرة بكتب التاريخ والجغرافيا. هناك، اكتشفت كتاب «جحا العربي» للدكتور محمد رجب النجار، الصادر عن سلسلة عالم المعرفة. ربطت الاسم مباشرة بقصة المسمار وظننت أن جحا لا يترك المسامير فقط، بل كتبًا أيضًا، تخيلت لوهلة أن جحا قد يكون هو نفسه الرجل الذي حكت عنه إحدى صديقات جدتي الإسبانيات، ذاك الشيخ الذي يلبس الأحمر ويترك هدايا للأطفال مع مقدم الشتاء. تصفّحت الكتاب وعجزت عن فهم ما فيه، ربت أبي على رأسي وقال: «سينتظركِ الكتاب حتى تتعلمي القراءة.» وأعاد جحا إلى الرف.
مؤخّرًا، عدت إلى صناديق مكتبة أبي الراحل، أجردها وأنظف الكتب، وعثرت مجدّدًا على كتاب «جحا العربي». هذه المرّة، شرعت في قراءته ولم أعده إلى الصندوق إلا وقد أنهيته. لوهلة، خُيِّل إليَّ أن جحا تعمّد الظهور في فوضى الكتب التي كان أبي يحرص على تغليفها بورق مقوى بنّي اللون، فأعجز عادة على التعرف على الكتب إلا بعد فتحها، إلا أن هذا الكتاب بالذات كان عاريًا مثل مسمار صدئ على جدار متصدع.
بالتأكيد لم أكن بحاجة إلى التعرف على جحا، فقد صادفت نوادره وحكاياته منذ مدة، خاصة حكاية مسماره، الذي تركه في دارٍ باعها ليتعلّل به ويعود إليها مرارًا، حتى اضطر المالك الجديد إلى مغادرتها تاركًا إياها بما حوته من متاع ومسامير لجحا المتطفل. ومذ فهمت القصة أصبح صوت أمي وهي تردّد المثل بمثابة تحذير، حتى أني طورت عادة غريبة، فقد صرت أمتنع عن ترك أي شيء خلفي، خشية أن أتحول إلى جحا آخر، فلا أترك ورائي آثارًا يُفهم منها أني أرغب في العودة.
هذه الحكاية ليست سوى مثال على عالمٍ أوسع حلّله باحثون كثر مثل الدكتور عبدالحميد يونس، الذي كشف -بالرغم من تضارب الروايات حول وجود جحا وأصله- عن قدرة هذه الشخصية على تجسيد المزاج العربي المتعدد الثقافات، مشكِّلةً ملامحَ فريدة تجمع بين السخرية والحكمة.
استشهد النجار في كتابه «جحا العربي» بعبدالحميد يونس، ويوضح الاثنان كيف تحول جحا إلى رمزٍ فنيٍّ واجتماعيٍّ، بل يرون فيه جذور فن الكاريكاتور الحديث، الذي يعتمد على المفارقة والمبالغة لتكثيف المواقف وتصويرها. فالشعوب -وفق تحليلهما- وجدت في هذه الشخصية متنفّسًا للتعبير عن همومها، حيث تحولت المآسي إلى مسرحيات هزليّة تخفّف وطأة الحياة. وهذا ما أكده العقّاد في كتابه «جحا الضاحك المضحك» قائلًا: «قيل الفرق بين الجليل الرهيب والمضحك المغرب قيد شعرة أو لمحة عين.» مشيرًا إلى أن الفكاهة قد تكون الوسيلة الألطف والأقصر من أجل إيصال الحقائق المُرَّة دون إثارة سخط المجتمع.
اللافت في دراسة يونس والنجار هو عدهما «جحا» قناعًا اجتماعيًّا يتوارى خلفه الإنسان، تمامًا كما توارى هو نفسه خلف ستار الحمق والجنون ليمارس دهاءه في التحايل على التكليف الاجتماعي. وهكذا نسجت المجتمعات حياةً كاملةً لهذه الشخصية، جاعلةً إياه مرآة تعكس تفاصيل الحياة اليومية بكل تناقضاتها؛ فجحا هو الأب والجار والتاجر، بل هو كل الوجوه التي نلتقيها في الشارع.
إنه الصوت الذي يحوّل الغضب إلى ضحكة، والعنف إلى نادرة، ليصير أداة لترميز الرسائل دون مواجهة مباشرة، تمامًا كما تفعل أمي. يقول أوسكار وايلد: «إذا أردت قول الحقيقة للناس، فأضحكهم، وإلا سيطيحون بك.»
تَمثَّل بجحا المتعلم وغير المتعلم. في الحواضر والبوادي، ولم تقف الجغرافيا حاجزًا أمامه، فحيثما حلّ العرب، حلّ معهم جحا بأسماء جديدة: في صقليّة صار «جيوفة»، وفي مالطا «جوجن»، وعند الأتراك تحول إلى «نصر الدين خوجة»، وفي إيران إلى «الملا نصر الدين». هكذا تحولت نوادره إلى لغة عالمية، تختزل تناقض المجتمعات وتسقط همومها السياسية والاجتماعية في قالب هزلي.
بغض النظر عن الاسم والمكان، يظل مسمار جحا في داره القديمة رمزًا خالدًا في الذاكرة الجمعية، يعود ليطرق بابي بين الحين والآخر مستحضرًا طفولتي بين نساء حوَّلن نوادره إلى أمثال تتردد في المناسبات، وكأنهن وجدن في سخريته لغة سرِّيّة للتعبير عن أفكارهن.

احزر الكتاب من غلافه


أصحاب الواحدة اليتيمات والمشهورات والمنسيات من الشعر العربي

تأليف: محمد مظلوم / الناشر: منشورات الجمل / عدد الصفحات: 232
يتناول مظلوم موضوعًا فريدًا في الشعر، حيث يبحث في مفهوم القصيدة الواحدة التي يشتهر بها شاعر وتكون جواز سفره نحو الخلود.
الكتاب يجمع بين المتعة الشعرية والبحث الأكاديمي، حيث يحلّل عدة قصائد لشعراء اختُزلوا في قصيدة يتيمة ومنسية. كما يناقش مفهوم القصيدة الواحدة في سياق النقد العربي، ويرى أن هذا المفهوم ملتبس، حيث لا يعقل أن ينشد شاعر قصيدة عظيمة بمعزل عن تجربة شعرية أوسع. لذا، فهو يرجّح أن يكون لهؤلاء تجربة في نظم الشعر لم تصلنا أو نُسبت لغيرهم.
ولعلّنا نتداول هذه القصائد دون تذكر أصحابها، مما يشير أن سياقها بما يحمله من قصة وأحداث قد يكون هو السبب في شهرتها، مثل قصيدة سحيم الرياحي التي يقول في مطلعها:
أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
أو قصيدة المنخل اليشكري التي أنشد فيها البيت الشهير:
وأحبها وتحبني
وتحب ناقتها بعيري
ينتقي الكاتب نماذج شعرية هزّت وجدان المتذوّق العربي عبر العصور، من الجاهلية إلى العصر الحديث، محلّلاً سِيرَ أصحابها، ومبرزًا سبيلَ تلك القصائد إلى الفرادة.
سيرة ابن عربي

تأليف: سيرة ابن عربي/ ترجمة: الدكتور أحمد الصادقي / الناشر: المدار الإسلامي/ عدد الصفحات: 445
من أدق السير وأمتعها التي تناولت سيرة محيي الدين بن عربي وفكره، لكاتبته الفرنسية كلود عداس. تنتمي الكاتبة لأسرة شغوفة بالشيخ الأكبر وعارفة به، وقد اختارته موضوعًا لمناقشة أطروحتها لنيل الدكتوراه. تقدم عداس سيرة تجمع بين التخصص العلمي واللغة الأدبية الأنيقة، وسيقف قارئ العمل على مجهودها في البحث والتنقيب الذي يستحق الثناء والتقدير، حيث استطاعت بقراءتها المنصفة للتاريخ وقدرتها على نقد المصادر، وجزالة سردها العقلاني، وتواضع العالم العارف، أن تصل للقارئ المتخصص وغير المتخصص.
ركزت عداس على سيرة ابن عربي الإنسانية، مقتفية أثر كتاباته، ومعظم المصادر من كتب التاريخ والطبقات، بالإضافة إلى كتب الباحثين في فكر ابن عربي لتبني من خلالها الخلفية الاجتماعية والسياسية لهذه السيرة الذاتية. وفي تتبّعها لترحاله ومقامه، تقدم الكاتبة قراءة للأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية لفترة من أكثر الفترات اضطرابًا في التاريخ الإسلامي، سواء في المغرب أم المشرق.
موت صغير

تأليف: محمد حسن علوان / الناشر: الساقي / عدد الصفحات: 591
رواية موت صغير للكاتب السعودي محمد حسن علوان، الحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية سنة 2017، تتناول أدبيًّا ما تناولته كلود عداس أكاديميًّا، حيث يسرد علوان حياة المتصوف الشهير محيي الدين بن عربي، معيدًا تشكيل سيرته بدمج وقائع تاريخية موثقة وإضافات متخيلة.
على غرار عداس، يلاحق علوان سيرة ابن عربي بين الأندلس، حيث نتعرف على طفولته وتأثير بيئته وعلاقته مع والده وأحلامه وصراعاته الدنيوية والروحانية، ثم رحلته الطويلة من الأندلس غربًا إلى أذربيجان شرقًا، مرورًا بالمغرب ومصر والحجاز والشام وتركيا، حيث التقى بمشايخ الصوفية والعلماء والفقهاء لينتهي به المقام في دمشق، إلى وفاته أو موته الصغير.
اللافت أن علوان صمّم حبكة مدهشة بين مسارين: سيرة ابن عربي المروية على لسانه بضمير المتكلم، ومسار مخطوطه الذي سافر كصاحبه بعد موته عبر الأمكنة والأزمنة، ليصل في الزمن المعاصر إلى يدي باحثة فرنسية، في إشارة واضحة لكلود عداس وتأثّر علوان بكتابها.
ويظل للقارئ الاختيار بين السيرة الأكاديمية والسيرة المتخيلة.


سواء كنت صديقًا للكتب أو كنت ممن لا يشتريها إلا من معارض الكتاب، هذه النشرة ستجدد شغفك بالقراءة وترافقك في رحلتها. تصلك كلّ أربعاء بمراجعات كتب، توصيات، اقتباسات... إلخ.