فلم «The Brutalist»: فن العمارة الوحشية
زائد: التهديد في «No Country For Old Men» بلا صوت.

كنت أناقش أحد الأصدقاء، وقال لي: أعتقد أن روبرت دي نيرو ممثل غير جيد بما فيه الكفاية! ودخلت معه بجدال طويل.
خلاصة وجهة نظري:أن عظمة دينيرو تكمن في قدرته على التمثيل ببراعة في المَشاهد التي يفتقد فيها الممثل لأي عوامل تساعده على التمثيل.
دينيرو بملامح وجهه يستطيع أن يوصل للمشاهد المعنى، بينما كثير من الممثلين يحتاجون إلى الصراخ وتحطيم ما حولهم في مشهد صاخب، كي يلفت نظرك أنه يجيد التمثيل.
التمثيل الصعب يتقنه دينيرو، لذلك هو ممثل عظيم.
نايف العصيمي

فلم «The Brutalist»: فن العمارة الوحشية
في عام 2002 صدر فِلم «The Pianist» للمخرج رومان بولانسكي، وبطولة أدريان برودي، مجسّدًا قصة عازف البيانو اليهودي فلاديسلاف شبيلمان، الذي فرّ من بولندا هربًا من الاضطهاد العرقي، ليجد نفسه مختبئًا وسط حطام عمارة كادت أن تودي بحياته. لكن هذه المرة، يعود برودي إلى الشاشة بفِلم «The Brutalist»، وبشخصية «لازلو توث»، المصمم المعماري والفنان الذي يحمل ملامح معاناة شبيلمان، إلا أن قصته تنبع من خيال الكاتبين برادي كوربيت ومونا فاستفولد. ويطرح فرضية نجاة «شبيلمان» ولجوئه إلى أمريكا، أرض الأحلام.
الاستهلال: تمثال الحرية مقلوب!
يبدأ الفِلم بلقطات سريعة تختصر مأساة الهولوكوست، مصحوبة بتعليق صوتي من «إيرزسبيت توث»، زوجة «لازلو»، وهي تروي معاناتهما. وسرعان ما نرى «لازلو» يخرج من قبوٍ مظلم، متطلّعًا إلى أفق أمريكا، أرض الحرية والازدهار. لكن المفاجأة تأتي في اللقطة الأولى، حيث تتكشف الصورة الحقيقية الأخرى لتمثال الحرية، التي تتناقض مع منظره المهيب كما بدا لـ«لازلو» والمهاجرين معه، بل كان في حقيقته مقلوبًا رأسًا على عقب، لندرك مبكرًا أن الفِلم يدور حول نجاة أخرى في ظروف مختلفة.
في المشاهد الأولى، لا يدخر المخرج برادي كوربيت جهدًا في وضعنا داخل السياق الزمني والمكاني للفِلم. نرى إعلانًا مشرقًا يروّج لولاية بنسلفانيا، وسرعان ما يُقارن بمشهد مظلم يصور طابورًا من المحتاجين أمام كنيسة يطلبون الطعام. في الوقت ذاته، تبدو المتاجر العائلية زاهية ومريحة، ولكنها متناقضة مع الأسر المفكّكة ومع المشردين في الشوارع. وهنا نجد «لازلو» في حالة تيه؛ فقد نجا من أهوال أوربا، لكنه الآن يواجه صعوبات من نوع آخر، أقل فتكًا لكنها أكثر تعقيدًا، فهو يفشل في إيجاد مأوى أو وظيفة، لكنه يجد المخدرات متاحة بسهولة، كما يختلس ساعات النوم في قاعات السينما الإباحية الرخيصة، ليجد نفسه مسجونًا في دائرة مفرغة من الإحباط والضياع. وبينما يلاحق حلمه المعماري، يلتقي مجددًا برجل الأعمال «هاريسون لي فان بورين»، الذي يحمل اسمًا يوحي بأصول أوربية، ويُجسد ما تقدمه أمريكا للمهاجرين.
ففي لقائهما الأول، بدا «بورين» متحفّظًا تجاه «لازلو»، لكن بعد أن رأى إحدى تصاميمه الناجحة، تتغير نظرته، ويعرض عليه منزلًا وفرصة عمل، وكأن الحلم الأمريكي بدأ يتحقق أخيرًا. لكن كما أن العمارات الضخمة تحمل في جدرانها ندوب الزمن، كذلك يحمل «لازلو» آثار ماضيه التي لا يمكن محوها، ليظل في صراع دائم بين رغبة البقاء وسط هذا العالم الجديد، وإحساسه بالغربة حتى وهو يقترب من النجاح.
كان مخرج الفِلم واعيًا جيدًا بكثرة الأحداث والقصص التي تدور حول بطلها، فنسج مشاهد طويلة ومريحة وغنية بصريًّا، تجعلك قادرًا على وضع عينيك تجاه أية زاوية من أي مشهد، وتلمس فيها جمالًا يضفي مساحة للتأمل وأخذ الأنفاس. يمكّننا هذا الإحساس من أخذ استراحة لدقيقة ضمن مدة الفِلم التي تبلغ ثلاث ساعات ونصف تقريبًا.
الفصل الثاني: جوهر المعمار الوحشي
في عالم تُشكّل فيه الحروب والهزائم ملامح الأفراد كما تُشكّل المدن، يبرز المعمار الوحشي «Brutalist Architecture»، ليس بصفته تيّارًا فنيًّا فقط، بل حالة وجودية تعكس صراع الإنسان مع واقعه. وُلد هذا النمط في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما أصبحت الخرسانة المكشوفة والجدران الضخمة رمزًا للصمود في وجه الدمار. هذه المباني، بقسوتها الظاهرة، تُعلن أنها نجت من الكارثة، لكنها تحتفظ في شقوقها بآثار الماضي. وكما أن الناجين من الحروب يحملون ندوبهم إلى الأبد، فإن العمارة الوحشية تُجسد ذلك التناقض، بين الصلابة الخارجية والهشاشة الداخلية.
ارتباط شخصية «لازلو توث» بهذا النمط المعماري ليس مجرد اختيار جمالي، بل انعكاس لمعاناته الشخصية. مثلما بُنيت العمارات الوحشية لتقف شاهدًا على قدرة الإنسان على إعادة البناء رغم الفقد، كذلك يحاول «لازلو» تحويل آلامه إلى فنٍّ معماري يُخلّد اسمه. العمارة، كالفن السابع -السينما- تحتاج إلى وقت طويل وجهود جماعية، مما يجعل مبدعها يعيش حالة مستمرة من التوتر بين الإيمان برؤيته والشك في جدواها، ليصبح المبدع في مرحلة الإنتاج شخصًا غير قابل للتعايش على الإطلاق.
ويتزامن بدء عمل «لازلو» في مشروعه المعماري الأكبر مع وصول زوجته إلى أمريكا، التي حتى هذه اللحظة، لم تصلنا معاناتها إلا عبر صوتها فقط. كان مشهد اللقاء بينهما شاعريًّا وحساسًا للغاية، ليختصر بحِرَفية عالية رحلتها الشاقة. هذه اللحظة المؤثرة تُبرز براعة السيناريو، الذي يتجنب الإطالة بمهارة رغم كثافة الأحداث.
وكثيرة هي المشاهد كتلك داخل الفِلم، مثل مشهد توقف مشروع «لازلو» فجأةً، إذ تخلّت الكاميرا فيه عن ثباتها واهتزت بعنف، وكأنها تعكس اهتزاز إيمان «لازلو» بحلمه الأمريكي، الذي ظل متمسكًا به رغم كل المعاناة، ومحاولات التغاضي عن خيبات الأمل المتكررة، متأملًا أن يرى مشروعه النور، الذي وضع فيه جميع ما كان يؤمن به، ليتركه مغادرًا نيويورك، ويَبرز أكثر خيار الهجرة إلى إسرائيل، بعد أن كان مجرد كلامٍ يُردّد في المذياع.
الخاتمة: خطاب معرض العمارة يفسد كل شيء
تنقّل بطل الفِلم بين مواقع متعدّدة وأزمنة متفرقة، حتى وصل إلى عام 1980. وهنا تأتي اللحظة الحاسمة: يُقام معرض كبير يحتفل باكتمال مشروع «لازلو» الذي طالما حلم به، لكن المفارقة أنه اكتمل في غيابه. يظهر «لازلو» في المشهد جالسًا على كرسي متحرك، ليشرح فلسفة تصميمه، مُسقطًا عليها رحلته الشخصية، لكن رغم كلماته التي تستجدي مشاعر الجمهور، أجد نفسي غير قادر على التعاطف مع قضية «لازلو» المرتبطة بواقع سياسي واجتماعي أكثر تعقيدًا وبشاعة من أن يُلمّع بمشهد ينتصر فيه الفِلم لتاريخ مشوّه قدّمه ليلمّع صورة إسرائيل، وليجعل من الصعب فصل الفرد عن سياقه التاريخي.
ولكن يظل «The Brutalist» فِلمًا مصنوعًا بعناية تعكس فهمًا عميقا للسينما بوصفها فنًّا بصريًّا قادرًا على نقل المشاعر والمعاني. تتناغم كل العناصر فيه، لتخلق شعورًا واضحًا بأن كل تفصيلة داخل الفِلم جاءت لتمنحه طابعًا خاصًّا يميزه. بالاضافة الى أدريان برودي، الذي قدم أداءً عميقًا ومؤثرًا، حيث كانت نظراته وحدها تجسّد كل ما مر به «لازلو توث» من إحباط وأمل واغتراب. فأداء من هذا المستوى يستحق عليه الفوز بالأوسكار، وأظنه الأقرب لها.



يُقام حفل توزيع جوائز الأوسكار في تاريخ 2 مارس المقبل. وسيُفتتح الحفل بأداء موسيقي بعنوان «WICKED» من أريانا قراندي وسينثيا إيريفو.
تتنافس كل من «Netflix» و«Apple» و«Amazon» و«Warner Brothers» على فِلم الجريمة الجديد للمخرج مارتن سكورسيزي. الفِلم من بطولة دوين جونسون وليوناردو دي كابريو وإميلي بلانت.
ينطلق الموسم الثاني من مسلسل «DAREDEVIL: BORN AGAIN» في العام المقبل.
يعود مسلسل «YOU» بموسمه الخامس والأخير في 24 أبريل على «Netflix».
يصدر الموسم الثاني من مسلسل «ANDOR» بثلاث حلقات أسبوعيًّا، بدءًا من تاريخ 22 أبريل المُقبل.
يجري العمل حاليًّا على مسلسلي الرسوم المتحركة «STARFIRE» و«GREEN LANTERN»، من إنتاج استديوهات «DC».
صرّح مارلون وايانز أنه يخطّط لصنع جزء ثانٍ من فِلم «WHITE CHICKS».
حقّق فِلم «The Monkey» للمخرج أوسقود بيركنز إيرادات بلغت 14.2 مليون دولار في الولايات المتحدة، ليصبح ثاني أكبر افتتاح لفِلم من إنتاج «NEON»، بعد فِلم «LONGLEGS».

الموسيقا قادرة على بعث الحياة في الصورة السينمائية، فكيف إذا كان الفِلم يروي قصة أحد رموزها؟ في فِلم «Amadeus» الصادر عام 1984، لا تأتي الموسيقا عنصرًا مكمّلًا وحسب، بل يصبح صانعها، وولفقانق أماديوس موزارت، محور القصة بأكملها.
يروي الفِلم حياة هذا العبقري الموسيقي، مستعرضًا موهبته الفذّة وصراعاته الداخلية، وعلاقته المضطربة مع معاصريه، وخاصة «أنطونيو سالييري». ويخلق هذا التركيز للفِلم طابعًا خاصًا، إذ تتحول الموسيقا إلى صوت داخلي يكشف عبقرية «موزارت» وهشاشته في آنٍ واحد. وعبر «سالييري»، نشهد كيف تصبح الموهبة نعمة ونقمة، وكيف يمكن للحسد أن يكون قوة مدمرة بقدر ما هو دافع للإعجاب.
من أحيا هذه الموسيقا:
تكمن أهمية هذا النهج في أن الموسيقا لم تعد مجرد أداة تعزيز للمشاهد، بل أصبحت جوهر الحكاية. عندما قاد المايسترو البريطاني نيفيل مارينر أوركسترا أكاديمية «Saint Martin-in-the-Fields» لإعادة إحياء أعمال موزارت في الفِلم، كان هدفه إبراز الروابط العميقة بين حياة موزارت وإبداعاته.
اختار مارينر مقطوعات من تراث موزارت الخالد، من سيمفونياته وأوبراته، وسجّلها لتتناغم مع مشاهد الفِلم، حيث جعل الموسيقا تعكس شخصية موزارت، بعبقريته وطفوليته، وأحيانًا جنونه.
موسيقا تجاوزت حدود زمانها:
لم يكن اختيار مارينر لمقطوعات موزارت عشوائيًّا، بل جاء ليجعل الموسيقا امتدادًا للدراما، وتنبض بشخصيات الفِلم وتُعبّر عنها. برزت الموسيقا بكونها عنصرًا حيويًّا يعمّق تجربة المشاهدة، حيث نَقَلَت الوتريّات -كالكمان والتشيلو- الحزن في تأملات ساليري بأنغام رقيقة، بينما أضافت النفخيّات -كالبوق والأوبوا- طابعًا مهيبًا للمشاهد الملحمية. هذا الاختيار المدروس جعل الألحان تتجاوز حدود زمانها، لتضيف بُعدًا إنسانيًّا يُبرز تعقيد الشخصيات في الفِلم.
المقطوعات التي حرّكت الفِلم:
تعتمد الموسيقا في فِلم «Amadeus» على أعمال موزارت الخالدة، ولكن برزت بعض المقطوعات أكثر من غيرها، لشهرتها ولدورها المحوري في تعزيز الأحداث والأجواء الدرامية. منها:
مقطوعة «Symphony No. 25 in G Minor, K. 183»
تُعد هذه المقطوعة أكثر الأعمال شهرة في الموسيقا التصويرية للفِلم، حيث تفتتح القصة بنغماتها القوية والمضطربة، عاكسةً الفوضى النفسية لـ«ساليري» وهو يروي قصته. الحركة الأولى، بإيقاعها السريع وجوّها الدرامي، جعلتها رمزًا للصراع الذي يعيشه، وهي واحدة من أوائل أعمال موزارت التي تُظهر نضجًا عاطفيًّا. واستخدامها في المشهد الافتتاحي يحدد نغمة الفِلم بأكمله.
تُسمع هذه المقطوعة في اللحظات التأملية في الفِلم، خاصة عندما يبرز الجانب الإنساني والحساس في شخصية «موزارت». وبمزيجها بين الحزن والقوة، تضيف أبعادًا للعلاقة المعقدة بين «موزارت» و«ساليري»، وتكشف عن هشاشة العبقري.
مقطوعة «Requiem in D Minor, K. 626»
عندما يقترب الفِلم من نهايته، تحتل هذه المقطوعة المشهد الأخير، مرافقة لحظات «موزارت» الأخيرة. في هذا المشهد، يتجلى التداخل المؤلم بين عبقرية «موزارت» وانهيار «ساليري»، الذي منح الموسيقا حضورًا طاغيًا جعلها من أكثر لحظات الفِلم تأثيرًا. يُذكر أن موزارت لم ينهِ هذه المقطوعة، بل أكملها تلميذه فرانز زافر زوسماير، بعد رحيل موزارت.


اليوم نقول أكشن في هذا المشهد المضطرب من فِلم «No Country for Old Men» الصادر عام 2007.
تدور أحداث الفِلم في الثمانينيات على الحدود بين تكساس والمكسيك، وتبدأ قصته عندما يعثر الصيّاد «لويلين موس» على حقيبة مليئة بالمال في موقع صفقة مخدرات فاشلة، ويجد نفسه مطاردًا من قِبل «أنتون شيقور»، وهو قاتل مأجور يستخدم أساليب غريبة لتنفيذ مهماته. وفي الوقت نفسه، يحاول مأمور المقاطعة المسن تتبع الأحداث، وفهم هذا العنف المتصاعد من حوله. ينسج الفِلم، بأسلوبه المتقشف، تأملات عميقة حول القدر والعنف والتغيير من خلال شخصياته المتضادة.
في هذا المشهد يتوقف «أنتون شيقور» (خافيير بارديم)، القاتل المتجرد من العواطف، عند محطة وقود نائية، ويدخل البقالة. خلف الطاولة، يقف البائع الذي ينتظر أي حدث يكسر رتابة يومه. فيحاول البائع فتح حديث بسيط مع «شيقور»، مجرد دردشة لتمضية الوقت، لكن سرعان ما يتغيّر الجو، إذ يبدأ «شيقور» في طرح أسئلة غريبة ومريبة وتثير قلق الرجل؛ نبرته ثابتة، لكنها تحمل تهديدًا خفيًّا يحوّل المحادثة إلى مواجهة متوترة.
تنتهي المحادثة بلقطة يرمي فيها «شيقور» كيس فول سوداني فارغ على الطاولة، حيث ينساب الورق ببطء ويحتك بالسطح، مُصدرًا صوتًا حادًّا وسط صمت يضاعف الإحساس بالارتباك.
والمقصد من رمية القرطاس هو استفزاز البائع، فبدلًا من ردٍّ لفظي أو حركة مباشرة، يميل «شيقور» إلى القيام بأفعال بسيطة ظاهريًّا، لكنها تحمل تهديدًا ضمنيًّا، لكي يزرع التوتر في من يقابله.
يراقب البائع القرطاس يتمدّد أمامه، متردّدًا في تفسير هذا التصرّف: هل هو تحذير؟ أو تحقير؟ أو استهزاء؟
ثم، دون مقدمات، يُخرج «شيقور» عملة معدنية من جيبه، ويرميها، ويطلب من البائع أن «يختار». البائع، المرتبك والمذعور، لا يدرك تمامًا أن حياته معلقة على خيط رفيع، واختيار «الوجه» أو «الكتابة» سيحدد ما إذا كان سيعيش أو يموت. بتردد، يختار «الوجه»، دون أن يفهم حجم المخاطرة. فيكشف «شيقور» عن العملة، وتصادف أن الحظ كان في صالح البائع. فيتركه «شيقور» ليعيش، قائلًا له ألا يضعها في جيبه، لأنها الآن «عملة محظوظة»، قاصدًا بذلك أنها تذكارًا يشعره بمدى قربه من الموت.
تكمن قوة المشهد في هدوئه المشحون بالتوتّر. ومن العناصر المميزة في الفِلم أنه يكاد يكون خاليًا تمامًا من الموسيقا التصويرية، ويعتمد بالكامل على التصميم الصوتي لتعزيز التوتر والرهبة.
ويكشف المشهد تدريجيًّا عن طباع «شيقور»، فهو ليس فوضويًّا أو عاطفيًّا، بل منهجي في تنفيذ جرائمه. ويضع المشهد أساسًا مهمًّا لفهم «شيقور»، فهو قوة لا يمكن السيطرة عليها أو التفاوض معها، مثل الموت.
فعلى عكس الأشرار التقليديين، لا يقتل «شيقور» بدافع شخصي، بل يتّبع منطقًا غامضًا يجعله أكثر رعبًا وإرباكًا. وإلقاء «شيقور» للعملة ليس عشوائيًّا، بل هي طريقته الملتوية لتفويض القرار للقدر. فهو يرى نفسه أداةً للمصير وليس متخذًا للقرار. وعندما يجبر البائع على الاختيار، فهو يدفعه لمواجهة «عبثية الحياة»، وهو موضوع متكرّر في قصة وأحداث الفِلم.
يدور الفِلم بأكمله حول فكرة أن الحياة لا تخضع لقوانين عادلة أو مفهومة، وهذا المشهد هو البوابة لهذا الموضوع، حيث يظهر كيف يمكن للحظة صغيرة أن تغير كل شيء. ويستخدم الأخوان كوين -في اقتباسهم لرواية كورماك مكارثي- هذه اللحظة لإظهار كيف يمكن لحياة شخص أن تتغير بناءً على شيء تافه مثل إلقاء عملة، مما يجرّدنا من أي وهم بالسيطرة.
تُعد شخصية «أنتون شيقور» نموذجًا مدروسًا بعناية، ما جعلها واحدة من أكثر الشخصيات السايكوباثية واقعية في تاريخ السينما. ففي دراسة أجرتها مجلة «Forensic Science International» قيّمت فيها الشخصيات السايكوباثية في الأفلام بناءً على معايير علم النفس الجنائي، تصدّرت شخصية «أنتون شيقور» القائمة، بأنها الشخصية الأدق تجسيدًا لهذه السمات. وأشار الباحثون إلى أن سلوكه المنظّم، وانعدام التعاطف لديه، واعتماده على منطق غامض بدلًا من الدوافع الشخصية، يعكس بدقة الصفات المميزة للشخصية السايكوباثية.
أضافت هيئة «أنتون شيقور» بعدًا آخر للشخصية، فشعره لا يتناسب مع ملامحه، وملابسه لا تتوافق مع مظهره أيضًا. وغالبًا ما ترتسم على وجهه نظرة باردة فارغة، ونادرًا ما يظهر أي تعبيرات فرح، إلا عند حديثه عن مواضيع قاتمة. وصوته منخفض وهادئ وأجش، ولا يرفعه أبدًا. وتظهر لديه مشاعر متناقضة في آنٍ واحد، فهي متصلبة ومتحركة وغريبة. وحتى حركاته، ففي هذا المشهد وأثناء تناوله الفول السوداني، هناك شيء غير مريح في الطريقة التي يضع بها كل قطعة ببطء في فمه، وكأنها حركة مدروسة.
بالإضافة إلى عدم توضيح أي خلفية عن شخصيته، حتى مؤلف الرواية كورماك مكارثي صرّح بأنه اختار اسم الشخصية لأنه أحب وقعه فقط. أما كيانه كان بالكامل قائمًا على الغموض والإبهام والغرابة.
كان أداء خافيير بارديم في هذا الدور استثنائيًّا، ويجعلك تعود لمشاهدة «No Country for Old Men» لتتأمل تجسيده لـ«شيقور». عند اختيار الممثلين لهذا الفِلم، حاول الأخوين كوين العثور على شخص بهيئة وخلفية تشابه شخصية «شيقور» نفسها في وسط شخصيات الفِلم. واختيار خافيير جاء بناءً على كونه من جنسية أجنبية، وذو خلفية ثقافية مختلفة عن طاقم التمثيل، بحيث تكون لكنته الإنقليزية مختلفة عن باقي الممثلين، وتعزز من انفصال الشخصية عن محيطها.
ونتيجةً لتجسيده المذهل لهذه الشخصية، نال خافيير جائزة الأوسكار عن أفضل ممثل في دور مساعد في عام 2008.

فقرة حصريّة
اشترك الآن


في 24 مارس 1975، أُقيم نزال ملاكمة بين تشاك ويبنر ومحمد علي كلاي. لم يكن يُنظر إلى ويبنر حينها إلا بكونه ملاكمًا متوسط الموهبة، ولم يتوقع أحد أن يصمد لأكثر من ثلاث جولات أمام محمد علي. لكن مع استمرار النزال، ازداد ذهول الجميع، بل وتمكّن ويبنر من إسقاط محمد علي في الجولة التاسعة!
غير أن علي ردّ بسحق ويبنر بلا رحمة طوال الجولات الست التالية، فكسر أنفه، وتسبّب له بجروح عميقة فوق عينيه. ورغم الضربات القاسية، واصل ويبنر القتال حتى النهاية. وقبل تسع عشرة ثانية فقط من الجولة الخامسة عشرة والأخيرة، حسم محمد علي المواجهة بالضربة الفنية القاضية (TKO).
استلهم سيلفستر ستالون من تفاصيل هذا النزال، ومن معاناته الشخصية، فكرة فِلم عن ملاكم مغمور من الطبقة العاملة، يعاني ضيق الحال، وقلة الثقة بالنفس، وأسماه «روكي».
كان هذا الفِلم هو الانطلاقة الحقيقية لنجومية سيلفستر ستالون٫ وواحدًا من أبرز الأفلام الرياضية في تاريخ السينما، بل أول فِلم رياضي يحصل على جائزة الأوسكار.
وبهذه القصة، نستهلّ فقرة «دريت ولّا ما دريت»، عن فِلم «Rocky» الصادر عام 1976.
وفقًا لستالون، كان «الحظ الجيد» سببًا في صناعة الفِلم. فقد التقى المنتجين لتجربة أداء فِلم آخر، لكنه رُفض للدور. وأثناء حديثه معهم، ذكر أنه ليس ممثلًا فحسب، بل كاتب أيضًا. وقبل مغادرته، سأله المنتجون عمّا إذا كان يعمل على أية نصوص، فقدم لهم قصة «Rocky»، وطلبوا منه قراءتها.
أبدى المنتجون اهتمامهم بالنص، وعرضوا على ستالون 350 ألف دولار مقابل حقوقه، لكنه رفض البيع ما لم يُسمح له ببطولة الفِلم. وافق المنتجون بشرط أن يستمر في العمل كاتبًا دون أجر. وعند عرض المشروع على شركة الإنتاج، خُصصت ميزانية قدرها مليوني دولار إذا تولّى دور البطولة نجم معروف. لكن أصرّ ستالون على أداء الدور بنفسه، فخفّضت الشركة الميزانية إلى مليون دولار فقط، وألزمت المنتجين بتغطية أي تجاوزات. انتهى الفِلم بميزانية 1.1 مليون دولار، واضطر المنتجون لرهن منازلهم لتأمين الفرق.
كتب ستالون المسودة الأولى للنص في ثلاثة أيام فقط، ومر النص بعدة مراجعات قبل بيعه. في نسخته الأصلية، كان «ميكي» مدرب «روكي» شخصية عنصرية، وكان الفِلم ينتهي بتعمّد «روكي» خسارة النزال، بعدما يدرك أنه لا يريد أن يكون جزءًا من عالم الملاكمة المحترفة.
صُوِّرت معظم مشاهد «روكي» وهو يركض في شوارع فيلادلفيا دون تصاريح أو معدات أو ممثلين إضافيين. في المشهد الشهير الذي يركض فيه عبر سوق الطعام، بدت دهشة الناس على الأرصفة، وكأنهم يراقبون الملاكم الشهير «روكي»، لكن في الواقع، لم يكن لديهم أي فكرة عن سبب جري هذا الرجل ذهابًا وإيابًا أمام الكاميرا.
في اللقطة التي يحتفل فيها «روكي» فوق درج متحف الفنون في فيلادلفيا، كان من المفترض أن تبتعد الكاميرا عنه في أثناء رقصه. لكن بعد مشاهدة المشهد مع الموسيقا، قرّر المخرج قلب اللقطة، ليبدو أن الكاميرا تقترب منه، من أجل التوافق بنحو أفضل مع لحن الموسيقيا، ولإضفاء تأثير درامي.
وفقًا للممثل بيرت يونق «بولي»، أنه في أثناء تصوير المشهد الذي يسير فيه «بولي» إلى المنزل وهو مخمور، اقترب سكّير حقيقي من الموقع، وأخبر يونق أنه لا يبدو مخمورًا بما فيه الكفاية، فطلب يونق من الرجل أن يظهر له كيف يفعل ذلك. ثم قلّد يونق حركات الرجل في المشهد.
رفض المخرج جون جي أفيلدسن المشروع في البداية؛ لأنه لم يكن مهتمًا بالملاكمة. لكنه اقتنع عندما وصل في النص إلى مشهد روكي وهو يتحدث إلى سلحفتيه، إذ رأى فيه لمسة إنسانية جعلته يغيّر رأيه، عادًّا الفِلم دراسة شخصية رائعة، تتخللها قصة حب جميلة.
كان أداء تاليا شاير «أدريان» خجولًا ومتحفّظًا ليس بسبب النص، بل لأنها كانت تعاني الإنفلونزا في أثناء التصوير.


مقالات ومراجعات سينمائية أبسط من فلسفة النقّاد وأعمق من سوالف اليوتيوبرز. وتوصيات موزونة لا تخضع لتحيّز الخوارزميات، مع جديد المنصات والسينما، وأخبار الصناعة محلّيًا وعالميًا.. في نشرة تبدأ بها عطلتك كل خميس.