بنت الشداد
نحتاج إلى الكتابة عن سلوم العرب.

لم يكُن تطوّر الأثاث بمعزلٍ عن تطوّر مسكن الإنسان؛ وحتمًا فإنَّ قطع الأثاث في الكهف لن تكون مُشابِهة لقطع الأثاث في الأبراج العالية ذات الواجهات الزجاجية. حيث يخضع تطوّر العمارة والأثاث لعوامل اقتصادية وجغرافية، وأيضًا لتغيّرات اجتماعية.
إلا أنّ قطعة أثاث واحدة ظلّت تنتقل مع العرب في حلهم وارتحالهم، ينسجون حولها القصص وينظمون القصائد، وهذا بالمعنى الحرفي وليس المجازي. و ها هُنا دعوة للتأمل في قطعة الأثاث هذه وأبعادها الثقافية.

.jpg)
بنت الشداد
ثامر السنيدي ونوّاف الحربي
قبل شهر من اليوم كنت في زيارة لأقرباء لنا شمال منطقة حائل في قرية جفيفاء، أبناء فهد المرشد التميمي رحمة الله عليه، وذِكر هذا الطيب باقٍ، والطيبون مثله يذكرونه ويذكرون قصصه. ولأني لم ألتقِه من قبل، فلا حيلة لي إلا إعمال الخيال؛ لا تعرف صوته ولا كيفية جلوسه ولا أسلوب حديثه… لا تملك إلا أن تتخيله.
ومع السوالف والقصص، جال في خاطري: كم وددت لو أني قابلته وجالسته في مجلسه.
لم أكتم هذا «الود»، وبحت به لإبراهيم: «يا إبراهيم ليتني لاحقٍ على أبوك وعرفته». أتذكر ابتسامة لطيفة طُبِعَت على محياه وقال: «قولك هذا يذكرني برفيقي فلان، يقول: يا أبو تركي أنا ما واجهت أبوك إلا مرة وحدة، ووالله إن ذاك المواجه في خاطري ما أنساه، ليه؟ أول ما دخلت في مجلسه ولّا هو مجلس مليان، ورجال مصطكّين. وأبوك ما بعد دخل، رايح يجيب له غرض، ووافقت دخلتي مع دخلته؛ رحّب وحيّا، كأنه يعرفني. ويوم عرف من أنا، صار يمشي بي وهو ماسك يدي، نسلم على الرجال ويعرّف بي، إلى أن جلّسني على مركاه وعمري ذاك اليوم -الله العالم- 13 ولّا 14 سنة، أشوف المركى بالمجالس ولا عمري تِمركيت.»
القصة فيها تركيبة عجيبة، تستطيع تخيّل شكل هذا الطفل وصاحب المجلس ممسكًا بيده ويقدمه للرجال كأنه جاوَز الأربعين سنة! لك أن تتخيل شعوره، هيبة وفرح وارتباك الموقف. كل هذا رائع، لكن ما يستدعي الوقوف هو ثمرة المعروف الراسخة في ذاكرة صديق إبراهيم وهي على «مركاة».
وأظن هذه واحدة من أكثر الأشياء الجميلة وغير المكتوبة، بل تؤخذ بالفهم والمشاهدة، مثلها مثل أغلب سلوم وعادات العرب التي تأتي في مجالسهم. فلم يشعر صديق إبراهيم بأهمية هذا الفعل، «التِمركي»، إلا لأنه وَلْد رِجال تحيّي وترحّب، ويرى من يُصدّر ويُعطَى له المركى.
لكن ما تكون هذه المركى؟
لو تجرَّدت المركى من كل رمزياتها، لن تكون إلا قطعة أثاث. ولكن بالنظر إلى قطع الأثاث على أنها ثقافة مادية تروي حكايات الشعوب، كان المصريون القدماء من ذوي المكانة يضعون أمامهم مساند للأرجل مصنوعة من الخشب، تُنحَت عليها صور الأعداء، في تقليد يرمز إلى أن الملك يطأ أعداءه. أما قطعة الأثاث المعروفة باسم «κλίνη» أو (klinē)، التي تشبه الأريكة، فقد ظهرت في منحوتات الإغريق، وكانت جزءًا أساسيًّا من تقاليد «الندوة» (Symposium).
أما العرب، فقد نقلوا قطعة أثاث من ظهور إبلهم إلى الخيام، ثم إلى البيوت والقصور وحتى الشقق الحديثة!
فابنة من هي هذه المركاة؟ هي بنت الشداد.
الشداد هو جد المراكي: لا نعرف على وجه الدقة متى بدأ استخدام المركى، ولكن يمكننا الافتراض بأنه يمثل التطور الطبيعي للشدَاد. والشدَاد قطعة خشبية تُوضَع على ظهر الراحلة، ويوضع فوقها ما يشبه وسادة لتسهيل عملية الجلوس، مما يتيح للرجل ركوب الإبل والاتكاء عليها بعد تنويخها. وربما استخدم العرب الوسائد للاتكاء قبل اختراع الشدَاد، إلا أن الشدَاد يبدو أقرب في شكله إلى المراكي الحالية من الوسائد التي ورد ذكرها في كتب التاريخ. ومن كرم العرب أن يُسْخي -يجود- الرجل بشداده لضيفه. وإلى اليوم، تشاهد الكثير من المجالس في صدرها شداد وعلى أطرافها مراكي، كأننا نرى عائلة.
إذا أردت دراسة مجتمعاتنا في الخمسين أو المئة سنة، أو أبعد من ذلك، ستلاحظ صور حياتنا في قصائد الشعراء، منها هذه القصيدة للشاعر فهد هجّاج الحربي:
قوموا عن المركى لا صرتوا معازيب
واستقبلوا جميع الطراقي على الباب
ميقافكم واجب ومجلاسكم عيب
ترى المراكي و المنصة للأجناب
والضيف لا منه ما لقى منك ترحيب
يمكن يفور الدم عنده والأعصاب
ويخطي عليك بحضرة الناس ويصيب
في كلمة يفرح بها كل مغتاب
والله ما أدري وش تصير العواقيب
ليا ركب سيارته واللحن طاب
وهاضت هجوسه وارتفع مقدم الجيب
واسند على خويه اللي على الباب
وقام يتخير جزل الأبيات ويجيب
اللي تفوق بسمها عضّة الداب
ولِم كل هذا؟ لأن صاحب المجلس لم يقم عن المركى لضيفه.
قالوا: «ثلاثة لا تراكيهم (لا تشاركهم أثناء الجلوس المركى ذاته): أبوك وضيفك ومن هو أكبر منك.»
ومما يُنقَل عن العرب قديمًا: «إنْ أقبل أمير وإن جلس أسير وإن رحل فهو شاعر.» ويقصدون به الضيف. فبقدومه ينزل منزلة الأمراء، وبجلوسه فهو مثل الأسير، ومنه قولهم: «الضيف بحكم المضيّف»، وإن رحل شاعر؛ فهو إما مادح أو ذام لما رآه. وما خاف فهد بن هجّاج على أحد كما خاف على رجلٍ لا يقوم من مركاه لضيفه، يوم قال: «يتخيّر من جزل الأبيات ويجيب اللي تفوق بسمّها عضة الداب».
يجول في خاطري هذا التأمل والخيال، ولا أعرف صوابه من خطئه، لكن هي مدعاة إلى النظر في قطعة الأثاث هذه: للمركاة، بنت الشداد، التي صارت تحمل الخصوصية نفسها، فما كلٍّ يملك شداد في ما مضى، ولا يستاهل المركى اليوم إلا المقدّر والمحشوم.
فنحنُ نحتاج التأمل والكتابة ولو قليلًا عن هذه السلوم والآداب. الطفل الذي كان واعيًا لأهمية المركى، وهو ابن ثلاثة عشر عامًا، اختبر شيئًا من احترام القواعد ومبادئها. يُكْبِرها، ويكبر وهو يذكرها بعد عشرين عامًا.

.jpg)
الكذوب ما يساق له الفنجال | وحدة الذاكرة من مركز الملك فيصل
لمن يساق الفنجال؟ من أكثر الأسئلة شيوعًا، ومنه سؤال لمن يصب أول فنجال؟ للشجاع؟ للكريم؟ للشيخ؟ وكلٍ يجاوب ويعلل جوابه.
لكن، في هالتسجيل صنف من الناس ما يساق له الفنجال، هو اللي يقال عنه: معقَّب الفنجال.
سجل الدكتور سعد العبدالله الصويان هذا الشريط عام 1403 هـ (1983) مع الشاعر والراوية خفيق ابن عبدالله بن بدهان من الرمال من شمّر في حي النسيم في مدينة الرياض.

مزهّب الطراقي | كأنه اسم سينمائي؟
في آخر أفلام فلان، زرتُ عائلة مزهّب الطراقي «عثمان المفيد التميمي، توفي تقريبًا سنة 1343 هـ (1925)».
كلمة مزهّب مأخوذة من «الزهاب»، أي الزاد والعتاد، أما «الطراقي» فهو جمع طرقي، ويعني المسافر.
كان عثمان يضيّف المسافرين ويزوّدهم بحاجاتهم من التمر والماء أيام شدة الجوع والفقر، فاشتهر بـ«مزهّب الطراقي»، وتوارثت عائلته هذا الذكر وهذه الصفة.
بدأ تصوير هذا الفِلم مطلع عام 2022، وانتهى مع بداية عام 2025. ويتبنى الفِلم الفكرة القائلة إن الأطباع والسجايا كالكرم، وما يحمله الإنسان من أفكار ومعتقدات، هي أسلوب حياة يتنقل عبر الأجيال، ويتمظهر في العادات والتقاليد.



سوق الأندلس | سيد بن إبراهيم | سوداني من مدينة القويز
.jpg)
حمَّاص قهوة سعودية، في سوق الأندلس، بدأ في هذه المهنة قبل أكثر من 30 سنة.
سولف معه عن حي الملز، ذكريات الستّين، سوق الأندلس وأيامه الأولى وعمارته.





الذاكرة السعودية بالنص والصوت والصورة، في نشرة بريدية نصف شهرية، تعيد اكتشاف الثقافة المحلية وارتباطها بالعالم.