في رثاء لينش 😞

زائد: الفلم الذي حصل على خمسين جائزة.

المخرج ديفد لينش / تصميم: أحمد عيد
المخرج ديفد لينش / تصميم: أحمد عيد

يذكر لينش أنه كان في أحد أيام طفولته المبكرة يلعب مع أصدقائه في حيّهم الهادئ في ولاية أيداهو الأمريكية، وإذا بامرأة عارية تمامًا تظهر فجأة، يكسوها الاضطراب، وتركض في الحي وهي تطلق صرخات غريبة. يقول لينش إنها كانت تبكي، وتبدو وكأنها تعاني ألمًا نفسيًّا و جسديًّا عميقًا.

لم يكن الأطفال، ومنهم لينش، يفهمون الموقف الذي أمامهم. ويُقال إن ذلك المشهد كان أحد البذور التي أسّست لتكوين أسلوب ديفيد لينش الغريب؛ وكأننا نرى أفلامه بنظرة ذلك الطفل الذي شهد أمرًا غريبًا لا يفهمه.

سواءً أحببت أعماله أم لم تحبها، لا تستطيع أن تنكر الحالة الفريدة التي كان يبدعها ديفيد لينش في عالم السينما.

نايف العصيمي


فلم «Wild At Heart»
فلم «Wild At Heart»

فِلم «Mulholland Drive»
فِلم «Mulholland Drive»

اليوم نقول أكشن في هذا المشهد الأيقوني من فِلم «Mulholland Drive» الصادر عام 2001.

يحكي الفِلم قصة «ريتا»، وهي امرأة تفقد ذاكرتها بعد حادث غامض في لوس أنجلوس. تلتقي «ريتا» بـ«بيتي»، الشابة القادمة إلى هوليوود لتحقيق حلمها في التمثيل، وتتعاون كِلا الفتاتين لكشف لغز هوية «ريتا» وما حدث لها، فتجدان نفسيهما في مواجهة أحداث غامضة، وشخصيات غريبة تكشف الجانب المظلم لصناعة السينما.

يَظهر هذا المشهد بعد حوالي اثنتي عشرة دقيقة من بداية الفِلم، ويبدو من الوهلة الأولى أنه بلا علاقة بما سبق؛ فالشخصيات جديدة وغير مألوفة، ولا نعرف سبب وجودهم هنا أو وجود المشهد ذاته في الفِلم. لكن هذه العشوائية الظاهرة تخفي قصدًا عميقًا، إذ يشكّل المشهد عنصرًا محوريًّا يدعم السياق العام للفِلم ويضيف إلى طبقاته.

يبدأ المشهد داخل مطعم، حيث يروي رجلٌ حلمًا لرجل آخر يبدو متردّدًا في الاستماع. يصف الأول حلمه الغريب، الذي كان يتكرر عليه، إذ كان يرى في حلمه أن كلاهما يجلسان في المطعم نفسه، ويشعران بالخوف بسبب شخص مرعب خلف المطعم.

بعدها، يدفعان ثمن الطعام، ويذهبان ناحية الجزء الخلفي من المطعم، حيث يبدأ الحلم بالتجسّد، فتتطابق تفاصيل المكان خلف المطعم مع وصف الحلم، وتتحوّل الأجواء من مشمسة وآمنة، إلى غامضة ومتوترة.

عندها يظهر ذلك الشخص المرعب، أو المرأة المرعبة (تؤدي دورها بوني آرونز، المعروفة بدورها في «The Nun»). تلتقط الكاميرا هذه اللحظة من زاوية تجعلها تملأ الشاشة بالكامل، مما يجبرك على التحديق فيها. لكن ظهورها سريع لدرجة أنك لا تستطيع استيعاب ملامحها، لأن الرعب الحقيقي لا يكمن في شكلها، بل في تأكيد وجودها، وتحوّل الحلم إلى واقع.

ينتهي المشهد بسقوط الرجل الأول من الخوف، ولا نعرف إن كان قد أُغشي عليه أو مات. فيظل التوتّر قائمًا، لأن المشهد لا ينتهي بالشعور بالراحة أو الخلاص.

تُعد الأحلام ثيمة رئيسة في الفِلم، إذ يعتمد السرد على التداخل بين الواقع والخيال بسلاسة تجعل المشاهد يتساءل عن حقيقة ما يراه، مما يخلق عالمًا غامضًا ومتشابكًا يصعب الفصل فيه. وتظهر الأحلام أيضًا انعكاسًا لرغبات وطموحات الشخصيات ومخاوفها.

استخدام «القفزة المفاجئة» (Jumpscare) في هذا المشهد لم يكن لأجل إرعاب الجمهور وحسب، بل كان أداةً تهدف إلى إيصال الفكرة العامة من الفِلم، وتربط هذا الحدث بتفاصيله الأخرى، وتترك شعورًا بالارتباك يمتد طوال الفِلم.

استخدم لينش في المشهد عدة عناصر لتعزيز الشعور بعدم الارتياح؛ فالشخصيات مجهولة، ولا تربطنا بها أي علاقة، والنهار المشمس يتناقض مع التوتر، والأصوات المحيطة في المشهد كلها منخفضة أو شبه مكتومة -باستثناء صوت المحادثة بين الرجلين- فكأن الأصوات تنبعث من حلم. وحتى حركة الكاميرا الانسيابية، أعطت انطباعًا بأنها تراقب الشخصيات بصمت.

ورغم أن ديفد لينش لم يشتهر بأفلام الرعب، فإنه يُعدّ من أفضل المبدعين في تقديم لحظات مخيفة حقيقية، حيث رفع من «القفزة المفاجئة» إلى مستوى آخر.

يُعدّ فِلم «Mulholland Drive» أحد أعظم أعمال الألفية، وتلقى إشادة واسعة بسبب سرده المبتكر واختلافه، حيث تلقى واحدًا وستين ترشيحًا، وحصل على خمسين جائزة، من أبرزها ترشح ديفد لينش لجائزة الأوسكار عن أفضل مخرج، والفوز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان كان السينمائي لعام 2001.


فقرة حصريّة

آسفين على المقاطعة، هذه الفقرة خصصناها للمشتركين. لتقرأها وتستفيد بوصول
لا محدود للمحتوى، اشترك في ثمانية أو سجل دخولك لو كنت مشتركًا.

اشترك الآن

فِلم «The Elephant Man» الصادر عام 1980 / Getty Images
فِلم «The Elephant Man» الصادر عام 1980 / Getty Images

في أواخر السبعينيات، لم يكن اسم ديفيد لينش معروفًا في عالم الإخراج، حيث كان يعمل في تركيب الأسقف، ولم يملك في رصيده سوى تجربة إخراجية واحدة لفِلم طويل وبعض الأفلام القصيرة التجريبية. حينها، تلقّى عرضًا من المنتج ميل بروكس لإخراج فِلم «The Elephant Man». جاء اختيار بروكس بعد إعجابه بفِلم لينش الأول «Eraserhead»، الصادر عام 1977، الذي يحمل سمات سريالية مشابهة لفِلم «The Elephant Man» في طريقة استعراضه للرمزيات. كما أُعجب بروكس باستخدام الأبيض والأسود في تصوير «Eraserhead»، وهو ما أراد تطبيقه أيضًا في هذا الفِلم.

وافق لينش على العرض، ليصبح «The Elephant Man» أول فِلم من إنتاج استوديو، وأول فِلم تجاري يتولى إخراجه، إلى جانب مشاركته في الكتابة والإشراف على الموسيقا وتصميم الصوت.

وبهذه المقدمة، نستهلّ «فقرة دريت ولّا ما دريت» عن الفِلم الدرامي «The Elephant Man»، الصادر عام 1980:

  • حاول مسؤولو استوديو «Paramount Pictures» حذف المشاهد السريالية الافتتاحية والختامية، ووفقًا للمنتج ستيوارت كورنفيلد، كان رد المنتج التنفيذي ميل بروكس عليهم: «نحن مشاركون في مشروع تجاري. لقد عرضنا الفِلم عليكم لإطلاعكم على حالة هذا المشروع، فلا تفسروا عرضنا على أننا نطلب رأيًا من جهلة غاضبين.»

  • استغرق إعداد مكياج «الرجل الفيل» من سبع إلى ثماني ساعات كل يوم، وساعتين لإزالته. وكان جون هارت -«الرجل الفيل» في الفِلم- يصل إلى موقع التصوير في الساعة الخامسة صباحًا، ويبدأ التصوير من الظهر حتى الساعة العاشرة مساءً. ما اضطره للعمل في أيام متفرقة لتجنب الإرهاق.

  • لم تُشخّص حالة جوزيف ميريك -«الرجل الفيل» الحقيقي- أبدًا. ولكن أدّت بعض الدراسات التي أُجريت على هيكله العظمي بعد وفاته، إلى اعتقاد الباحثين أنه عانى الورم العصبي الليفي من النوع الأول، وهي حالة وراثية يعانيها واحد من كل أربعة آلاف شخص. كما أدّت فحوصات أخرى لاحقة، بما في ذلك فحوصات التصوير المقطعي للهيكل العظمي، إلى اعتقاد الباحثين أنه عانى متلازمة بروتيوس، وهي حالة نادرة جدًّا مقارنة بالورم العصبي الليفي. ومع ذلك، لا تزال الحالة الطبية لجوزيف «جون» ميريك غير مؤكدة.

  • عندما خلد «ميريك» إلى النوم في المشهد الأخير، قرّر أن يستلقي بدلًا من النوم جالسًا كما اعتاد. وهذه النهاية تحمل مأساوية دقيقة، إذ يُعتقد أن سبب وفاته يعود إلى محاولته النوم كأي شخص عادي. فعندما استلقى، كان رأسه أثقل مما يحتمل جسده، مما أدى إلى اختناقه وانكسار عنقه أثناء محاولته النهوض.

  • تسبب الإعلان عن مرشحي جوائز الأوسكار لعام 1981 بصدمة لكثير من أهل الصناعة، إذ لم يُرشّح الفِلم لجائزة أوسكار ترتبط بتأثيرات المكياج. ولشعورهم بأن فنيّي المكياج يستحقون التكريم عن هذا الفِلم، أُرسِلت رسالة احتجاج إلى مجلس حكاّم الأكاديمية لطلب تغيير رأيهم، وأن يُمنح الفِلم جائزة خاصة. رفضت الأكاديمية ذلك، لكن ردًّا على الضجة، قرروا بعدها بعام مكافأة فنيي المكياج بفئة سنوية خاصة بهم. وهكذا، وُلدت جائزة أفضل مكياج.

  • كثير من الأحداث التي ظهرت في الفِلم لم تحدث أبدًا. فلم يُعامل جوزيف «جون» ميريك بطريقة سيئة من مديريه، ولم يُختطف من المستشفى، كما صُوّر في الفِلم. بل كانت حياة ميريك في المستشفى عادية وغير مثيرة عمومًا، وإن كانت قصيرة.

  • ألهم أداء أنثوني هوبكنز، في دور «الدكتور تريفز»، المخرج جوناثان ديم لاختياره ليؤدي دور الدكتور «هانيبال ليكتور» في فِلم «The Silence of the Lambs»، الصادر عام 1991.

  • فِلم «The Elephant Man» هو الفِلم الوحيد لديفيد لينش الذي لا يضم أي ممثلين من مسلسل «Twin Peaks».


لطالما أجاب لينش عن الأسئلة، التي تستفهم عن معاني أفلامه، بأنه يقع في حب فكرة مشهد أو شخصية، ثم تبدأ هذه الفكرة في النمو والتوسع حتى تتحوّل إلى مشروع كامل. لكنه لم يكشف أبدًا عن مصدر الإلهام الذي جعله يأتي بأحد أكثر أعماله شهرةً، الذي بنى له قاعدة جماهيرية تحولت إلى ما يشبه الطائفة المهووسة بكل تفاصيل العمل، وهو مسلسل «Twin Peaks».

تدور أحداث المسلسل في بلدة «توين بيكس» الصغيرة، حيث يعرف الجميع بعضهم بعضًا. وتبدأ القصة عندما يُعثر على جثة فتاة شابة تدعى «لورا بالمر» على شاطئ البلدة. وبسبب قلة الأدلة وتحفّظ سكّان بلدة «توين بيكس» عن الموضوع، يُستدعى العميل الخاص «ديل كوبر» -الذي يؤدي دوره كايل ماكلاكلن- من مكتب التحقيقات الفيدرالي للتحقيق في ملابسات الجريمة.

يقود هذا التحقيقُ «كوبر» إلى سلسلة من الألغاز التي تأخذه إلى أعماق البلدة وأعماق نفسه. فبينما تكون قضية مقتل «لورا بالمر» هي المحور الأساسي الذي يحفّز تحرّك أحداث المسلسل، تنتقل الحبكة بين قصص فرعية تكشف خبايا مجتمع البلدة وتعقيداته. كل هذا المزيج يجعل من الصعب تصنيف «Twin Peaks» تحت نوع محدد، ما يجعله عملًا لن يتكرر.

عندما عُرضت الحلقة الأولى عام 1990، لم يكن هناك أي عمل شبيه بـ«Twin Peaks» على التلفزيون. حتى مع ظهور مسلسلات لاحقة أصبحت محل مقارنة مع هذا العمل، مثل «Lost» و«Atlanta» و«The Kingdom»، ظل «Twin Peaks» متفرّدًا بأسلوبه ورؤيته.

تركز الحبكة الرئيسة على لغز «من قتل لورا بالمر؟» لكنها لا تقتصر عليه فقط؛ فهناك جرعة من الكوميديا والدراما والشخصيات المعقّدة بأسلوب أقرب إلى مسلسلات السوب أوبرا (Soap Opera)، التي تركز على العلاقات العاطفية، وتتميّز بحبكتها المتشابكة، وأحداثها المستمرة. لكن ميل العمل إلى الغرابة والأمور غير القابلة للتفسير، جعلته أكثر جاذبية.

تجربة مشاهدة مسلسل «Twin Peaks» تحتاج عقلية متابعة مختلفة، إذ تأتي الكثير من متعة المشاهدة من ترك المجال للمشاهد لحلّ الألغاز بنفسه، وإنشاء تفسيره الخاص للغموض الماثل أمامه. ولعلّ بدايات ديفيد لينش الفنية مع الرسم، حيث كان رسّامًا تجريديًّا، انعكست على المسلسل، ما يعني أن كل ما يحدث على الشاشة قد لا يكون تأويلًا مباشرًا لما يحدث في السرد، بل قد يكون تجريدًا يشبه الحلم، يجسّد شعور الشخصيات أو حدسهم أو آمالهم أو مخاوفهم أو رغباتهم، لأنك تشعر أن العمل على مستوى عاطفي عالٍ.

يمكنني تصوّر مسلسل «Twin Peaks» بأنه امتداد للأفكار التي طُرحت في فِلم «Blue Velvet»، مع إضافة شخصيات مشبوهة بالجملة، وعناصر سريالية وخارقة للطبيعة أكثر. يتشابه العملان في مناطق عدة؛ حيث تجد كايل ماكلاكلن في فِلم «Blue Velvet» بدور شاب فضولي، ينجرف في لغز مظلم بسبب تدخّله في تحقيق جريمة غريبة، وتجده في مسلسل «Twin Peaks» في دور عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي «ديل كوبر»، الذي يحقق في جريمة مقتل «لورا بالمر». كذلك، تتشارك الأعمال في ثيمة البلدة الصغيرة التي تخفي أسرارًا مظلمة، ومجتمعات سرية.

تعرّض ديفيد لينش لضغوطات عديدة أثناء إنتاجه المسلسل، من أبرزها ضغوطات من شبكة «ABC»، التي خفّضت ميزانية الإنتاج وطلبت من لينش تغيير النص والكشف عن بعض تفاصيل أحداث المسلسل في توقيت أبكر في تسلسل الأحداث، وهو ما كان لينش يفضّل تأجيله للحفاظ على الغموض والتشويق في القصة.

بسبب هذه الخلافات، انسحب لينش من المسلسل قبل إكمال الموسم الثاني، ما تسبّب في انخفاض نسبة المشاهدة. عاد لينش لاحقًا لإخراج الحلقة الأخيرة، التي أصبحت من الحلقات الكلاسيكية في تاريخ التلفزيون.

النشرة السينمائية
النشرة السينمائية
أسبوعية، الخميس منثمانيةثمانية

مقالات ومراجعات سينمائية أبسط من فلسفة النقّاد وأعمق من سوالف اليوتيوبرز. وتوصيات موزونة لا تخضع لتحيّز الخوارزميات، مع جديد المنصات والسينما، وأخبار الصناعة محلّيًا وعالميًا.. في نشرة تبدأ بها عطلتك كل خميس.

+60 متابع في آخر 7 أيام