زرت الأماكن في روايات هاروكي موراكامي 🗼
زائد: هل للحقيقة وجه واحد؟
زرت الأماكن في روايات هاروكي موراكامي
علي الصباح
في كل مرة أقرأ فيها رواية لهاروكي موراكامي، أجدني منغمسًا في عالمها مع شخصياتها، وحواراتهم، والأماكن التي يترددون إليها، والطعام الذي يتناولونه، والموسيقا التي يفضلونها. في الحقيقة، أحد الطقوس التي أبدأ فيها قراءة أي رواية له هو كتابة اسمها في اليوتيوب، مع إضافة كلمة «Playlist»؛ لأجد قائمة بالموسيقا المذكورة داخل الرواية. ومع تشغيلها، يتلاشى العالم الخارجي تدريجيًّا، وأعيش داخل الرواية حتى أنتهي من قراءتها.
إلى جانب الانغماس في هذه العوالم الخيالية الساحرة، أحب كذلك السفر. وفي محاولة للاقتراب إلى تلك العوالم التي عشت بداخلها، أحرص قبل كل زيارة إلى اليابان على تدوين قائمة بأماكن مرتبطة بحياة المؤلف أو وردت في رواياته.
في 2015، زرت مقهى «البعد السادس» القريب من محطة المترو في حي أوجيكوبو بطوكيو. كان في السابق حانة جاز، خلال الفترة نفسها التي كان فيها موراكامي يدير حانة جاز أيضًا بمكان غير بعيد. تحولت الحانة لاحقًا إلى مقهى يلتقي فيه قراء موراكامي لمناقشة كتبه، ويجتمعون فيه كل عام، ليلة الإعلان عن جائزة نوبل للآداب. ما زال المقهى يحتفظ بديكوره الخشبي العتيق. استقبلني صاحب المقهى بشرائح موز مجفّفة، وأعدّ لي قهوة سوداء، ثم جلسنا نتحدث عن روايات موراكامي. لكني علمت مؤخرًا أنه صار يفتح أبوابه فقط لبعض المناسبات الفنية.
في 2019، أخذت معي رواية «1Q84» إلى اليابان. كنت قد بدأت قراءة الجزء الثالث قُبيل سفري. وأثناء زيارتي لأحد المقاهي في حي سنداقايا، حيث كان موراكامي يعيش منذ نهاية السبعينيات، أخبرني النادل أنه من عشاق موراكامي، وأنه قرأ «1Q84» خمس مرات. ومنذ بداية حديثي معه، أدركت أنني في حضرة شخص يفوقني هوسًا بهذا الكاتب.
أخبرني النادل أن ملعب البيسبول في ذلك الحي هو المكان الذي خَطَرت فيه لموراكامي فكرة كتابة رواية لأول مرة. كما ذكر أن أحداث رواية «Hard-Boiled Wonderland and the End of the World» وقعت في أرجاء هذا الحي، وذكر مطعمًا اسمه أوكي سوشي، وقال إن كاتبنا المفضل كان يتردد إليه.
بالقرب مني كان هناك زوجان يابانيان يحتسيان شرابًا كحوليًّا ممزوجًا بالشاي الأخضر. الزوجة لها ملامح كورية، وكانت تخرج بين الحين والآخر لتدخن.
التفت إليّ الزوج وسألني: «ما الذي يعجبك في روايات موراكامي؟»
أجبته: «شخصيات رواياته عندما يتحاورون، أجدهم يشبهوني كثيرًا.»
قال: «لكنهم شخصيات يابانية جدًّا.»
قلت: «لكنهم منغمسون في الموسيقا والأدب الغربي.»
هزّ رأسه متفكرًا. لم أخبره عن السبب الآخر، وهو أن أسلوب كتابته وما تحتويه رواياته من أحداث غريبة، تجعل قراءتها تبدو بمثابة العيش في حلم.
في 2024، زرت مدينة كوبي، مسقط رأس موراكامي. ترعرع في هذه المدينة وعاش فيها حتى أنهى دراسته الثانوية، ثم خرج منها ولم يعد إلا نادرًا. في 1995، ضرب المدينة زلزالٌ مدمر، وبعدها بسنتين قرّر موراكامي زيارتها والسير في الأماكن التي نشأ فيها. كتب مقالة عن زيارته، وانطباعه عن التغييرات التي أحدثها الزلزال - بعض تفاصيل المقالة كان فيها شبه مع بطل رواية «تسوكورو تزاكي وسنوات حجه» التي كانت برفقتي في تلك الرحلة. ذكر أنها مدينة هادئة جدًّا، وأحبّ أثناء عيشه فيها التردد على الحفلات الغنائية، وشراء الكتب الرخيصة، وقضاء الوقت في مقاهي الجاز، والاستمتاع بمشاهدة أفلام الموجة الجديدة في سينما «Art Theater Guild». وأشار في مقالته إلى وجود نوعين من البشر: أولئك الذين يشعرون بانجذاب دائم إلى مسقط رأسهم، وأولئك الذين لا يستطيعون العودة إليه أبدًا. موراكامي ينتمي إلى النوع الثاني.
شجعتني المقالة على زيارة المدينة والتجول فيها والمرور على الأماكن المذكورة. عندما وصلت إليها بالقطار من أوساكا، كانت الشمس قد غابت، والسماء بدأت تمطر. فتحت مظلتي واتبعت خرائط قوقل. بعد الابتعاد عن محطة القطار، خيّم الهدوء على أرجائها. صادفت امرأة تحمل أكياسًا وتسير إلى منزلها، وطفلة تتجول على دراجتها، والمطر يهطل.
وصلت إلى الثانوية التي درس فيها موراكامي، تأملتها في الظلام لبعض الوقت، والتقطتُ لها صورة. بعدها، توجهت إلى مطعم «Pinocchio»، الذي كان موراكامي يتردّد إليه مع صديقته، حيث كانا يتناولان البيتزا ويتحدثان عن مستقبلهما… ذلك النوع من الأحاديث المستقبلية التي لا تتحقق.
المطعم صغير، يسع ثلاث طاولات فقط، وديكور خشبي بسيط. كان هناك أربعة أشخاص في الداخل، تفصلني عنهم طاولة خالية. طلبت بيتزا بالمأكولات البحرية. لدى المطعم عادة طباعة رقم متسلسل لكلّ بيتزا يطهوها منذ تأسيسه في الستينيات. البيتزا التي طلبتها كان رقمها 1,448,210. بعدما انتهيت، اشتد المطر أكثر. أخذت سيارة أوبر ورجعت إلى أوساكا.
إذا كنت من عشاق هاروكي موراكامي وتخطط للسفر إلى اليابان، أنصحك بتسجيل بعض الأماكن المرتبطة بروايتك المفضلة. يمكنك أن تجد الكثير من هذه المعلومات ببحث سريع على الإنترنت. شعور رائع أن تعيش في تلك الأماكن مرتين. وأفضل مدينة تبدأ بها سياحتك «الموراكاميّة» هي طوكيو. ثم يمكنك أن تتنقل إلى مدن أخرى حتى تصل إلى جزيرة هوكايدو في الشمال، حيث يمكنك أن تنزل في فندق الدولفين وتطارد خروفًا بريًّا. تخيّل!
فاصل ⏸️
رحلة ممتعة مع الفكر والأدب 📚☕️
مبادرة الشريك الأدبي تجمع القرّاء مع الأدباء والمفكرين، في جلسات حوارية، وورش ولقاءات مع كتّاب بارزين في تجربة غنية بالتفاعل والتفكير النقدي.
انضم لمجتمع الأدب، واكتشف الفعاليات القريبة منك عبر منصة جسر الثقافة.
شاهدت مؤخرًا مسلسل «Disclaimer» من بطولة كيت بلانشيت وكيفن كلين وإخراج ألفونسو كوارون. أُعجبت بالمسلسل أيّما إعجاب، لأني شاهدته كما لو كنت أقرأ رواية. لم يكن الأمر مُستغربًا، نظرًا لأن المخرج استلهم فكرته من روايةٍ تحمل العنوان نفسه للكاتبة البريطانية ريني نايت.
تدور القصة حول كاثرين، التي تخرج أفلامًا وثائقية هدفها الرئيس تمكين الناس من الحقائق. تتعرض كاثرين لمحاولة تشويه سمعتها عندما يحيي أستاذٌ هرمٌ قصة قديمة تتهمها باستغلال ابنه والامتناع عن إنقاذه من الغرق.
أحببت في العمل كثرة الأصوات، خاصة مع استخدام المخرج تقنية «Voice Off»، وهو صوت السارد الذي يتنقل بين ضمير الغائب ويعود مع نهاية العمل إلى ضمير المتكلم. وقد وافقت الأصوات الحكاية المعروضة.
يقول المخرج أنه استوحى فكرة الصوت السارد من الفِلم الفرنسي «الرجل النائم»، المُقتبَس من رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب جورج بيريك. كان تعدُّد الأصوات ملائمًا تمامًا للحبكة التي تسرد للمتلقي أوجهً عدة للحقيقة. ينتهي المسلسل بـ «تويست» يهدم كل ما بنيناه من حقائق طوال المسلسل، لكننا مع ذلك نظلّ حيارى في تصديق النهاية، ونشعر بحلقة مفقودة لم نستطع بلوغها. وهكذا، بقيت الحقيقة في قاع البئر -كما وصفها الكاتب البرازيلي خورخي أمادو في روايته الرائعة «عودة البحار»- التي تناولت بدورها معضلة الحقيقة وتعدّد رواتها.
استوحى الكتّاب والمخرجون فكرة تعدّد الحقائق من فِلم «راشمون» للمخرج الياباني أكيرا كوروساو عام 1950. استند أكيرا في فِلمه إلى قصة الكاتب الياباني ريونوسوكي أكوتاقاو بعنوان «في غابة أو في علم الغيب». وأكوتاقو هو الكاتب الذي وصفه هاروكي موراكامي بالعبقرية الأسلوبية والتصوير الفريد لعلم النفس.
يحكي الفِلم وقائع محاكمة يغيب فيها المتهم، حيث يقف القاضي حائرًا أمام أربع شهادات متناقضة لجريمة واحدة، وينتهي الفِلم نهايةً مفتوحة على الحقيقة الغائبة.
استلهم علماء النفس والاجتماع والإدارة من الفِلم مفهوم «تأثير راشمون»؛ ويُقصد به وصف الحدث نفسه بطرقٍ مختلفة ومتناقضة بحيث يستحيل معها الوقوف على حقيقته. تعيد ذاكرتنا الانتقائية تشكيل الوقائع لكي تناسب أهواءنا. المقلق في «تأثير راشمون» أننا فعلًا نصدق ما نقول، وهذا ما أكّده أبطال مسلسل «Disclaimer» وفِلم «راشمون».
مثل حجرٍ فوسفوري يرسل إشعاعًا حين يكون في الظلام، ويفقد كل سحره حين يُعرض في وضح النهار، فإنَّ الجمال يتلاشى عندما نلغي تَأثيرات الظل.
يدافع الكاتب الياباني جونيشيرو تانيزاكي في كتابه «مديح الظل» عن أصالة اليابان في وجه حداثة الغرب. يوجّه تانيزاكي انتباه القرّاء إلى أبرز معالم الثقافة اليابانية، مشجعًا إيّاهم على تأملها وفهم وجهة نظر الياباني حول الذوق والجمال. يميل الياباني إلى الإعجاب بالأشياء القديمة، تلك التي تحرس الظلال أسرارها، بينما يلهث الغربي المولع بالتقدم السريع إلى كشف ذلك الشيء، وجعله يلمع، أو رميه واستبداله بالجديد.
في هذا الاقتباس تتجلى فكرة تانيزاكي المثالية حول الجمال، التي تتعارض ومختلف الأفكار التي ترى الجمال مشعًّا ومشرقًا ولا يمكن تخيله في العتمة. كثيرًا ما يلجأ المرء إلى استخدام استعارات مرتبطة بالظل لإثبات السوء والشر، ولكن إذا تأملنا تقنية التلاعب بالضوء والعتمة في مختلف الفنون -بدءًا من مسرح «النو» الياباني، ووصولاً إلى الرسم والتصوير الفوتوقرافي- نكتشف حكمة تانيزاكي في تعظيمه للظل، الذي يجعل منه اقتراحًا مثاليًّا لتحفيز ملكة التخيل وإثارة الفضول لاكتشاف المخفي الذي يحمل إمكانيات متعددة.
ربما تكمن الحقيقة الكاملة للحياة في العتمة، وفي كثافة الصمت. وقد يكون من الضروري على المرء الاعتناء بظله لكي يواصل المضيّ قدمًا.
لعلّ تانيزاكي لم يصادف يومًا التعبير العربي الذي يربط بين الموت وغياب الظلّ، ولكنه بطريقة ما استشعره؛ يُقال: «ضَحَى ظِلُّ فُلان» بمعنى فارق الحياة، وهذا ما يحدث غالبًا متى تعرضنا للضوء، متجاهلين أن الحكمة تقتضي الإبقاء على بعض الأمور متوارية خلف ظلالِها.
فاصل ⏸️
فقرة حصريّة
اشترك الآن
سواء كنت صديقًا للكتب أو كنت ممن لا يشتريها إلا من معارض الكتاب، هذه النشرة ستجدد شغفك بالقراءة وترافقك في رحلتها. تصلك كلّ أربعاء بمراجعات كتب، توصيات، اقتباسات... إلخ.