ماذا لو اختفى الموت؟ 🤐
ماذا لو أنّ هذا الموت قد انقطع واختفى؟ هل سينتهي الخوف منه؟
ماذا لو اختفى الموت؟
سفيان البرَّاق
يتعلم الإنسان من المِحن، ويستفيد من النوائب العصيبة، وبذلك يمتلكُ مناعةً صلبة يتصدّى بها للخيبة والانكسارات، بيدَ أنّ عدوًّا واحدًا ما انفكّ يهزم الإنسان الذي يجد نفسه أمامه في كلّ مرة غير قادر على مقاومته، ليستسلم مأسورًا لجبروته؛ ونعني هنا: الموت.
كان الموت -ولا يزال- تجربةً في غاية الالتباس؛ فشل الإنسان في إيجاد حلٍّ لها، وبقيَ منذ القِدم إمّا متوجّسًا وجزعًا منه، أو مستهينًا بهذا اللغز الوجودي المحيّر، ومكبًّا على الحياة وملذاتها، خاصةً حينما اكتشف أن الموت قد يكون خلاصًا من الألم الذي يرافق رحلتنا في هذه الحياة.
ومن هنا بدأ الفلاسفة -كأبيقور- ينظرون إلى الموت نظرةً محمودة، إذ يخلّصهم من جميع المشاعر السلبية المتمخضة من الدنيا. لكن، ماذا لو أن هذا الموت قد انقطع واختفى؟ هل سينتهي الخوف منه؟ هل سيصير الإنسان أكثر إقبالًا على الحياة من ذي قبل؟
نشر الروائي البرتغالي جوزيه سراماقو روايته «انقطاعات الموت» سنة 2005، وبناها على فكرة مبتكرة مفادها أن الموت سيتوقف في أحد البلدان لما ينيف عن نصف السنة. أخذ سراماقو يصف على لسان السارد التحولات الجمّة التي عاشها هذا البلد، والمشاعر المتقلبة التي شعر بها الناس. ورصد، بنباهة فائقة، التأثير السلبي الذي لحق انقطاع الموت، مثل تلك الأرملة التي خطف الموت زوجها قبل انقطاعه، وبمجرد ما اكتشفت أنها ستحظى بالخلود، داهمتها غبطةٌ عارمة، ولكن الحزن تسرّب إلى قلبها لأنها لن تحظى بلقاء زوجها مجدَّدًا.
تُبين الرواية التحول الذي طرأ على مفهوم الموت؛ حيث أضحى نعمةً في نظر من بقوا على قيد الحياة، ونقمة عند الذين فقدوا أحباء يتوقون للقائهم. وأضحى كارثة في نظر من يعملون في مهنٍ تحفلُ بالموت وتكرم الموتى، مثل حفّارو القبور. تتطور أحداث الرواية فتجعل السارد يصدم القارئ بأن أهالي ذلك البلد سئموا غياب الموت، وتاقوا إلى عودته. فبالرغم من جودة الحياة والاغتباط بغياب الموت لمدة زمنية معينة، فقد داهمهم شوق إلى الأيام الحزينة. ثم ما يلبث أن يعود الموت إلى حياتهم ويخطف -في ظرف وجيز- زهاء سبعين ألف شخص دفعة واحدة، وكأن موتهم كان مؤجلًا أو معلقًا لفترة من الزمن. وهذا ما دفع سراماقو إلى القول على لسان سارده: «الموت هو من يقود الرقصة، خالدون لوقت قصير، محكومون بالموت من جديد».
عدالة الموت في الرواية
تتمثل غرابة هذا النص الروائي في غياب الموت -الذي هو عادة روتينية للطبيعة- عن البلد الذي يعيش فيه السارد. وكأن الموت عقد مع ذلك البلد هدنة استثنائية لما يربو عن السبعة أشهر، رغم أنه لم يغب عن البلدان المجاورة.
نقرأ على لسان السارد: «الناس خارج حدودنا يموتون بصورةٍ طبيعية». وكأن سراماقو يعالج عدالة الموت، فإذا كان عادلًا ولا يميز بين غني وفقير، فما معنى أن بلدًا واحدًا من بلدان العالم يعيش حياة هانئة مطمئنة بعدما انتهى منها الموت واختفى، بينما بلدان أخرى ما زالت تتجرع الأسى والحزن، ويكتسحها الفقد بلا مهادنة؟ لماذا استثنى الموت بلدًا واحدًا، لكنه ما زال يغزو بقية البلدان؟ كتب السارد مُبرِزًا التحول الذي وسم مفهوم العدالة وقتذاك: «الوضع الجديد الناشئ هو أن العدالة في البلد الذي بلا موت وجدت نفسها مجرّدة من المرتكزات التي تتيح لها العمل قانونيًّا».
سراماقو في هذا النص -المكتنز بإشارات وإيماءات رمزية تمنح القارئ مساحة واسعة ليقرأه قراءات متعددة ومتباينة، وهذه إحدى رهانات الرواية الحديثة- لمّح إلى أن غياب العدالة لم يكن في استثناء انتفاء الموت في دولة معينة وبقائه في أخرى، بل إن تبدد العدالة يظهر في تفضيل الإنسان عن باقي الكائنات الحية، عن الحيوانات والنباتات. صحيح أنها لا تعرف معنى الموت، ولا تفكر فيه، ولا تتوجس منه، لكنها تنفق وتنتهي. والإنسان، في المقابل، باقٍ ويتجدد، وفي طريقه إلى ضمان الخلود. ولأن الحيوانات لم تسلم من الموت، فقد أدركت الحكومة إمكانية تكليف العاملين في حفر القبور بمهمة دفن الحيوانات، مقابل أن ينالوا أجرًا على ذلك. وهكذا نجحت الحكومة في إيجاد حل مؤقت، يخمد لهيب ثورتهم ومطالبهم.
الفرد ندٌّ للكنيسة
لقد حاول سراماقو في انقطاعات الموت تفخيم فكرة الفردانية، والانتصار إلى الفرد المتمتّع بحريته في التفكير والمبادرة، وتحريره من المشاعر والانفعالات السلبية، وفي مقدمتها الخوف. كما أنه مدح الإنسان في استقلاله وقدرته على التجديد والإبداع، وكرهه الاتباع والاتكال والخوف.
وبهذه المفاهيم أحرج سراماقو مؤسسة الكنيسة -الكاثوليكية تحديدًا- إذ أربك القساوسة الذين نصّبوا أنفسهم مالكين للحقيقة، ولعبوا دور الوساطة بين الرب والفرد، وأوهموه بتخليصه من آثامه عبر صكوك الغفران. فبمَ سينفعون الإنسان يا ترى عند غياب الموت؟ وبأي شيء يقنعونه، وهو ما عاد ينتظر أي عقاب أو حساب بعد أن صار خالدًا في الحياة؟
ويخلص سراماقو إلى أن دأب الإنسان في دنياه هو الملل السريع من الاستكانة لنمط واحدٍ من العيش، والسأم من التقوقع في المحيط، والتأفف من النظر من خلاله إلى الوجوه نفسها، وأن ما يطمع إليه الإنسان هو التجديد والتغيير المتواصل.
فلو أَلِف الإنسان رغد العيش والتنعم بما يبتغيه من مال وجاه، ولو مؤقتًا، سرعان ما ستعاف نفسه ما يتنعم به، لأنه اعتاد المسرة بمختلف أشكالها وأنواعها، وصار في حاجة إلى شعور لم يتعرّف عليه من قبل، فلربما يمنحه نكهةً أخرى لمواصلة المسير في دنيانا. علاوة على أن الإنسان في أصله كائنٌ تجريبيٌّ وفضولي؛ فبما أنه جرب جميع الملذات المبهجة، فسيحتاج إلى اختبار مدى صبره أمام نظيرتها المُفجعة، لأن السعي وراء التجديد هو طموح الإنسان الدائم في درب الحياة.
فاصل ⏸️
أما آن لأوجاعنا القديمة أن تثمر؟
سؤال شعري، يمثل رقة وعمق قصائد الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه. يمكن تمييز أسلوب ريلكه من قراءة الأسطر الأولى لأي قصيدة له. يصور المأساة وكأنها لوحة فنية، ويمنح الحزن قيمة جمالية بديعة يصعب وصفها، وأحيانًا فهمها، مثل صورة الوجع الذي يثمر هنا، أو في صور باقي قصائد ديوان «مراثي دوينو» الغنية بالتشبيهات الملائكية.
حين يسأل ريلكه «تكاد أسئلته أن تكون أسئلة الشعر كله»، كما أكد كاظم جهاد مترجم أعمال ريلكه الشعرية الكاملة. يأخذ ريلكه وقته الكافي في معاينة ما يود التساؤل عنه، ثم يصفه في أبهى صورة من الحساسية التي يندر وجود مثيل لها، وتبدو وكأنها تفرّ منه من كل جانب، وهذا ما يؤكد براعة ريلكه وفرادته.
يصف في هذا الاقتباس الصبر الطويل الذي ننتظر ثماره، والثقة في حدوث ذلك، ويضاهي في وصفه رؤية فيكتور هوقو الذي قال «الألم ثمرة، والله لا يضع ثمارًا على غصنٍ ضعيفٍ لا يقدر على حملها». لطالما شعرنا بأن للوجع نهاية، وللحزن مهابة ترتسم على ملامح أصحابه، وهي مهابة خوض حروب طاحنة نجوا منها.
أعلن المستشار تركي آل الشيخ، رئيس الهيئة العامة للترفيه، نهاية الأسبوع الماضي، عن القائمة الطويلة لجائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيرًا. وهي جائزة تُعنى بالأعمال الروائية القابلة للتحويل لأعمال سينمائية. تضم القائمة ثلاثين رواية عربية، وثماني روايات مترجمة، وعشرة سيناريوهات، وستحصل أربعة أعمال فقط من هذه القائمة على فرصة الانتقال إلى شاشة السينما.
لعل هذه الجائزة، التي يترأس لجنة تحكيمها الدكتور سعد البازعي، تكفل للقارئ العربي فرصة التعرف على عناوين مختلفة عن تلك السائدة في سوق النشر، أو المتداولة بين القراء. ولعلها أيضًا تلفت انتباه القراء إلى ضرورة قراءة النص قبل مشاهدته مرئيًّا، لما يحمله النص دائمًا من أبعاد تمنح القارئ حرية التخيل، على العكس من القيود التي تفرضها الرؤية الذاتية للمخرج.
لطالما كان الأدب مصدر إلهام لا ينضب للعديد من مخرجي السينما والتلفزيون، حيث منحهم الفرصة لتقديم رؤاهم الإبداعية المقتبسة عن الروايات. وقد شهدت سنة 2024 حركة نشطة لهذه الاقتباسات، بما تحمله عادة من تحديات الانتقال بين وسائط التعبير المختلفة، ويستحيل أحيانًا تذليل صعابها لإنجاح الانتقال من المتن المكتوب إلى المتن المرئي. فغالبًا ما تواجه هذه الإنتاجات ردود أفعال متباينة بين الرضى والسخط من طرف جمهور القراء، تبعًا لمدى فهمهم وقربهم من الأعمال الأدبية موضوع الاقتباس.
هكذا شاهدنا هذه السنة اقتباسات مهمة حظيت بنجاحات وتقييمات متفاوتة، مثل مسلسل «Disclaimer» للمخرج ألفونسو كوارون الذي عرضته منصة «Apple Tv»، المقتبس من رواية تحمل العنوان نفسه للكاتبة البريطانية رينيه نايت. وِفلم «بيدرو بارامو» المعروض على منصة نتفلكس، الذي خاض فيه المخرج رودريقو برييتو مغامرة اقتباس رواية خوان رولفو الصعبة والملتبسة، بالإضافة إلى مسلسل الخيال العلمي «معضلة الأجسام الثلاثة» الذي عُرض على منصة نتفلكس أيضًا، المقتبس عن ثلاثية الصيني ليو تسي شين. وأخمّن أن القارئ لرواية ألكسندر دوما «الكونت دي مونت كريستو» قد استمتع وهو يشاهد الإنتاج الفخم لها.
ويترقب القرّاء بشغف وفضول شهر ديسمبر الذي ستعرض فيه نتفلكس مسلسل «مئة عام من العزلة» المقتبس من أشهر رواية للكاتب الكولومبي قابرييل قارسيا ماركيز، وهي الرواية التي رفض ماركيز عرضًا من أنتوني كوين لتحويلها إلى فِلم قائلًا: «لا أريد أن أجد الكولونيل أورليانو يتحول إلى صورة أنتوني كوين على أغلفة الرواية». ولكن يبدو أن ورثته قد اقتنعوا أن والدهم لم يكن ليرفض وجود شعار نتفلكس على الغلاف!
يُذكر أن علاقة ماركيز بالسينما لا تقف عند حدود الاقتباس من أعماله، فقد كتب بنفسه العديد من السيناريوهات، وقدم ورشًا حول كتابة السيناريو، لكنه كان يميّز بين الكتابتين، ويرى أن على الرواية الاحتفاظ بجانبها السحري الغامض، يقول ماركيز: «أنا أكتب والقراء يتخيلون.»
إذن عزيزي القارئ، ما زال لديك بعض الوقت لقراءة «مئة عام من العزلة» قبل عرض المسلسل، وسواءً كنت قارئًا أو مشاهدًا؛ فعليك بورقة وقلم وخطاطة، وإلا ستتوه بين أجيال وشخصيات هذه الملحمة الخالدة.
فقرة حصريّة
اشترك الآن
لغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.