لم نشيطن القوانين الوضعية؟
القانون وعاءٌ ووسيلة، هو بهذا المعنى لا يقابل الشريعة، وليس قسيماً لها؛ فالشريعة ليست وعاء بل أحكام يمكن قولبتها في القانون.
أحمد العطاس
أسلّط الضوء في هذه المقالة على تساؤلات تخطر في أفئدة كثير من غير المتخصصين في القانون، ودائمًا ما تتجسد في عبارات بنحو: كيف تدرسون القانون والقضاء لدينا شرعي؟ ما فائدة دراستكم للقوانين ونحن نحتكم إلى الشرع؟ وغيرها من الأسئلة.
ومرتكز هذه التساؤلات هو خطأ التصور لمفهوم القانون، وكما قيل «الحُكم على الشيء فرعٌ من تصوره». ولذا، إذا ذهبنا لنحرّر معنى مصطلح القانون في هذا السياق، فسنجد أن القانون بالاستقراء الجزئي يأتي بإزاء معنيين:
المعنى الأول هو المستندات أو الوثائق التي تصدر بطرق معيّنة من الدولة، وتسمى نظامًا أو قانونًا أو لائحة، وتحتوي على مواد قانونية، وكل مادة قانونية تتضمن أحكامًا معيّنة.
وهي بهذا المعنى عبارة عن وعاء ووسيلة. فالقانون هو النظام الذي يحتوي على مواد، وهو بهذا المعنى لا يقابل الشريعة، وليس قسيمًا لها، فلا تصح القسمة الثنائية هنا بأن نقول شريعة أو قانون، لأن القانون بهذا المعنى هو مجرد وعاء، والشريعة ليست وعاءً، بل هي في مضمونها أحكام.
وأما المعنى الثاني، وهو ما يُطلق عليه غالبًا القانون الوضعي، ويُقصد به ما وضعه الناس من قواعد وجعلوها قانونًا يتحاكمون إليه. ويأتي بمعنى «المضمون»، فما يدخل في هذه الأنظمة، ويمثل مضمون موادها القانونية، هو ما يُسمى بالقانون الوضعي، والقانون الوضعي هنا تختلجه ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون موافقًا للشريعة. كأن يضع الناس قانونًا بأن القمار حرام، والشريعة تقول بحرمة القمار أيضًا، ونكون هنا بصدد توافق بين القانون الوضعي من الناس وبين الشريعة.
الحالة الثانية: أن يكون مخالفًا للشريعة، فيضع الناس قانونًا بأن القمار مسموح، والشريعة تقول بخلاف ذلك؛ فيقع التعارض والخلاف بين القانون الوضعي وبين الشريعة.
الحالة الثالثة: أن يكون في أمر سكتت عنه الشريعة، وهذا باب عريض ليس هنا محله، ولكن يحدث فيه الاجتهاد، وله طرق معالجة أخرى.
فنجد هنا بعد تصور هذه المعاني، أن المفهوم المنتشر عند الناس عن القانون مفهوم ضيقٌ ومختزل؛ فالناس تعتقد أن القانون عبارة عن مضمون، وهذا المضمون هو القانون الوضعي المخالف للشرع.
ولكن بعد النظر فيما ذكرنا سنجد أن معنى القانون أوسع. فحين نأخذ القانون بالمعنى الأول، وهو الوسيلة، فلا تعارض بينه وبين الشريعة إذ تمثل الشريعة هنا المضمون، والقانون يمثل الوسيلة، والوسيلة القانونية اليوم –نظام يحتوي على مواد– مثلها مثل كتب الفقه.
فكتب الفقه كتبٌ تحتوي على أحكام شرعية، مطروحة بطريقة وأسلوب معينين، والأنظمة التي تراها اليوم، إما أنها تحتوي على أحكام شرعية، أو أحكام لا تخالف الشرع. بل إنّ جعل النظام وعاءً يعدُّ من أفضل الطرق لمعالجة شؤون التقاضي بين الناس وحفظ حقوقهم.
خذ مثلًا نظام الأحوال الشخصية الذي ينظم مسائل الأسرة. فهو بهذه الوسيلة –نظام ومواد قانونية– أيسر للناس في أن يعودوا إليه من العودة للكتب الفقهية والنصوص الشرعية مباشرةً، ليس لأن النص القانوني في ذاته أو في صياغته أفضل من النص الشرعي –حاشا لله– ولكنها أيسر للفهم.
فالنظام لغته واضحة محددة مفهومة لأهل الزمان، بينما كثير من كتب الفقه، وأعني هنا الكتب المبتدئة، فضلًا عن المتقدمة، لا يَفهم مضمونها كثير من فئات المجتمع. ورغم أن النص القانوني أيضًا ليس مرتعًا يسير الفهم لغير المتخصص، ولكن نستطيع القول أنه أقرب للفهم وأكثر وضوحاً لأهل هذا الزمان من الكتب الفقهية.
وذلك يعود أيضًا للفرق بين الطريقتين في العرض. فطريقة الكتابة القانونية في الأنظمة والقوانين واضحة مباشرة لا تثير التساؤلات والخلافات. بينما الكتب الفقهية قد تتضمن الخلافات المذهبية، وسرد الأمثلة والأدلة، والرد عليها، وهذا مما لا يحتاجه الناس في شؤون تقاضيهم.
ذلك لأنّ طريقة ذكر الخلافات والتوسع جاءت متناسبة مع تحصيل العلم والبحث، بل إن كتب الفقه تتعرض لمسائل ليست موجودة في يومنا هذا. فكل ذلك يجعلنا نعيد ما ذكرناه، من سهولة القانون من حيث هو «وسيلة»، مقارنة بباقي الوسائل الأخرى.
بالإضافة إلى أن وجود القانون يساهم ويعزّز الاقتصاد من حيث أنه وسيلة تستخدمها كل دول العالم، ومن خلاله تستطيع أن تبني بينك وبين العالم جسورًا من التعاون والتحالفات، ويعدُّ وسيلة جذب للمستثمر الأجنبي، لأنه سيمكّنه من التعامل مع القوانين، وسيمكّن شركات المحاماة الأجنبية من فعل ذلك.
وذلك على عكس الكتب الفقهية، التي سيُحتاج معها إلى جهد أكبر، مع عدم احتواء تلك الكتب على تفاصيل كثيرة عملية، وذكرها لأمور كثيرة لا تقع في الواقع العملي، الذي بدوره سيجعل من البلد بيئة غير جاذبة.
فنجد أن الوسيلة بما هي نظام يحتوي على مواد، أنها أفضل للناس من العودة لكتب الفقه، لأن كتب الفقه ليس غرضها القضاء فقط، بل غرضها التعليم، وتقوية الملكة الفقهية، وإدراج الخلافات، وما إلى ذلك من الفوائد البحثية والمنهجية، التي لا يحتاجها الناس في القضاء.
أما بالنسبة لمسألة القانون بوصفه قانونًا وضعيًّا، فيحتمل ثلاثة تقاطعات مع الشريعة، كالموافقة والمخالفة وحيز المسكوت عنه، فإن دولتنا عالجت المسألة على النحو التالي:
ذكرت في النظام الأساسي للحكم –الذي يعدّ بمثابة دستور نظامي للدولة– في المادة السابعة:
يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله. وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة.
والمادة الثامنة والأربعون:
تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإسلامية، وفقا لما دل عليه الكتاب والسنة، وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة.
فنجد هنا أن الدولة تحكم في قضائها بالنصوص الشرعية والنصوص النظامية الصادرة من ولي الأمر. فالقاضي ينظر القضية، ويستند في حكمه على النص الشرعي: القرآن والسنة النبوية، بالإضافة إلى النصوص النظامية، كنظام العمل والمرافعات وغيرها من الأنظمة الصادرة من الدولة. ونوّهتْ على أنه في حال حصول تعارضٍ؛ يُقدّم النص الشرعي على النص القانوني.
ومن هنا، فإن سبب دراسة القانون، ووجود القانون لدينا، هو أنه وسيلة لا تخالف الشريعة، وليس قسيمًا أو معارضًا لها. وأما بالنسبة لكونه وضعي، فالدولة تشترط عدم صدور نظام يخالف الشريعة، وإن حصل؛ فتقدم الشريعة.
وحتى يكون النص مخالفًا للشريعة، فيُشترط أن يخالف مسألة قطعية مجمع عليها. أما إن كانت من مسائل الاجتهاد، وانتقل من قول لقول آخر؛ فلا يُعدّ مخالفة للنص الشرعي، فحكم الحاكم يرفع الخلاف.
وختامًا، فما شهدته الدولة في الفترة الأخيرة، من النقلة النوعية في التقاضي، من حيث السعي في سنّ كل المسائل في قالب ووعاء القانون، وصدور عدة أنظمة محورية، بمباركة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان –حفظه الله– لم تغير من مركزية وتجذّر تمسكنا بالشريعة، التي هي أساس هويتنا وثقافتنا. وليست القوانين والأنظمة معارضةً لها، فهي لا تتعدى أن تكون إما وسيلة تُنفث فيها أحكامها وإما مضمون لا يخالفها.
يرى نائب وزير الخارجية النرويجي، أندرياس كراڤيك، في مقالته «يجب أن نتجنّب ازدواجية المعايير في السياسة الخارجية»، أن الموقف الغربي من الحرب الروسية الأوكرانية ليس متسقًا مع موقفه من الحرب الإسرائيلية القائمة. وأن مثل هذه الازدواجية في المعايير لن تمكّن من نفاذ القانون الدولي؛ ليحافظ على الاستقرار والسلم العالمي.
في حلقة «الدولة والحرية وكيف تفكك المجتمع» من بودكاست فنجان، يرى ضيفها، الدكتور وائل حلّاق، أن فهمنا المعاصر للتاريخ الإسلامي مشوّه؛ بسبب تأثير العدسات الغربية الاستشراقية عليه. وينقد كذلك الحداثة، والدولة الحديثة، بوصفها مشروعًا مدمرًا، وأن الإنسان ضمنها مهان.
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.
نشرة أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات تحليلية لكتّاب بمجالات عدّة. يمنحونك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.