التحكم بارتفاع الإيجارات سيضر المستأجر قبل التاجر
لا زال العالم يصر على سياسات التحكّم بأسعار الإيجارات رغم اتفاق المختصين القاطع على فشلها.
دعوة للمساعدة 👋
إذا كنت سعودي، في أواخر العشرينات وما فوق، فهذا الاستبيان القصير موجّه لك. ستساعدنا إجابتك عليه بدقّة في كتابة مقالة قادمة في نشرة الصفحة الأخيرة.
يحتاج الاستبيان أقل من 30 ثانية من وقتك.
محمد سعد آل جابر
ترتفع الأسعار بمرور الوقت بشكل طبيعي، إذ يزيد التضخّم من التكاليف على كامل السوق بمختلف قطاعاته. وبينما تتراوح معدلات التضخم المقبولة لدى أغلب الدول بين 1% إلى 3%، فإنه غالبًا ما يكون الارتفاع في قطاع العقارات -تحديدًا- أبطأ وأقل من هذه النسب، ولا يتعدى هذا الارتفاع نسبًا محدودة تحصل كل عدّة سنوات، وهذا ما يُشعر أغلب الناس أن الإيجار ثابت لا يتغيّر.
إلا أن المدن الرئيسة، سيّما في أوقات النمو السريع والمفرط، ترتفع فيها الإيجارات بشكل عالٍ وسريعٍ مفاجئ، مدفوعةً بتنامي الطلب على الوحدات السكنية، بوتيرة أعلى من قدرة السوق على توفير معروضٍ يوافيها. وحالة الرياض المعاصرة مثالٌ على ذلك، إضافةً إلى أمثلة عديدة من الماضي. مثل حالتيّ النمو الاقتصادي الاستثنائي في طوكيو خلال السبعينيات، وسيئول خلال الثمانينيات.
أو قد تخلّف الأزمات والكوارث الطبيعية هذه الارتفاعات؛ لقضائها على جزءٍ معتبر من المعروض، مثلما حصل بسان فرانسيسكو في 1908، بفعل زلزالٍ كبير قد ضربها حينها، أو بمدن أوربية عدّة، بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة لآثارها.
في كلتا الحالتين، قد يرتفع الطلب العقاري خلال أشهر للضعف، بينما يحتاج بناء مشروعٍ جديد لزيادة المعروض من سنتين إلى ثلاث سنوات على الأقل. وريثما يكتمل المشروع، يزداد الطلب أكثر، فتتعاظم الفجوة بين العرض والطلب أكثر؛ مما يقود للارتفاعات المطردة والمتسارعة لأسعار الوحدات السكنية.
جزء من انزعاج الناس من ارتفاع الإيجارات يعود ببديهيّة لزيادة مصاريفهم وتضييق حالتهم المادية، إلا أنه كذلك -في جوهره- انزعاج من المجهول والمفاجأة، وعدم القدرة على التكيّف، خاصةً في السلع والخدمات الأساسية التي تحتاج لوقت ممتد للاستقرار.
ولذلك تلحق أي موجة من ارتفاع أسعار الإيجارات موجات من المطالب الشعبية بالتدخّل الحكومي في السوق لتقنين الأسعار وضبط وتيرة ارتفاعه. قد تكون تلك المطالب مؤقتة بحال كان سبب الارتفاع الأزمات والكوارث الطبيعية، بينما تطول بحالة النمو الاقتصادي السريع.
غالبًا ما تسمح هذه السياسات بأي سعرٍ للسنة الأولى، ولكنها تمنع المؤجّر عند التجديد من رفع الإيجار أكثر من نسبة معيّنة، وتمنع المؤجر من طلب إخلاء الوحدة ما دام المستأجر مستعدًا لدفع الإيجار بعد ارتفاعه ضمن النطاق القانوني؛ لإغلاق ثغرة طلبه إخلاء الوحدة حتّى يأجرها على مستأجر جديد بالسعر الذي يريد، لكونه حرًّا في أسعار العقود الجديدة. وقد تصل هذه السياسات لتحديد «أسعارٍ عادلة» للإيجارات، عوضًا عن الاقتصار على تقييد الارتفاعات وحسب.
مع تنامي هذه المطالبات محليًّا -وبالذات في الرياض- سأقيّم وأحلل في هذه المقالة الحجج الداعمة لسياسات التحكّم بأسعار الإيجارات، وأستعرض التجارب العالمية المختلفة لها، بالإضافة لعدّة أبحاث درست هذه السياسات وآثارها الاقتصادية بعد عقودٍ من تطبيقها؛ لإثبات حقيقة بسيطة: تضرّ سياسات التحكم بأسعار الإيجارات المستأجرين قبل التجّار وملّاك العقارات.
آثار سياسات التحكّم بأسعار الإيجار
في 1946، نشر الاقتصادي ميلتون فريدمان بالتعاون مع الاقتصادي جورج ستيقلر -الحائزيْن على جائزة نوبل في الاقتصاد لاحقًا- ورقةً بحثية تدرس أزمة السكن المتعاظمة حينها في مدنٍ أمريكية عدّة، وأثر سياسات التحكّم بأسعار الإيجارات فيها، مثل حالتي السياسات التي اتبعتها كل من سان فرانسيسكو بعد الزلزال الذي ضربها مطلع القرن العشرين، ونيويورك خلال عقد الأربعينيات المتزامن مع الحرب العالمية الثانية حينها.
خلصت الورقة إلى حقيقة بسيطة: المستهلك النهائي هو من يدفع الضريبة النهائية لسياسات التحكم بالإيجار. وصلت إلى هذه النتيجة بعد تحليلٍ جذري لعواقب التحكّم بالإيجار، وأوردتها في ثلاثة عواقب، سأفرد لكلٍّ منها فقرة، أشرح فيها الأثر، وأبيّن وقوعه في تجارب جديدة حول العالم حصلت حديثًا بعد نشر الورقة بعقود.
انخفاض العرض
يخلّ التحكم في أسعار الإيجار بالتوازن بين العرض والطلب؛ إذ تقلّ رغبة المستثمرين في بناء عقارات جديدة، سواءً لأن العائد لم يعد مجديًا مقابل الاستثمار، أو لأنه مجدٍ اليوم ولكنه لن يكون كذلك بالمستقبل مع تنامي التضخّم دون تنامي إيرادات الإيجارات بذات الوتيرة.
من الأمثلة العالمية على ذلك ما عاشته عاصمة ولاية مينيسوتا الأمريكية. فبسبب أزمة غلاء السكن في المدينة، روّج ناشطوها أن تقييد رفع الإيجارات السنوي بـ3% وأقل سيكبح التضخّم ويحل الأزمة. وبالفعل، وافقت المدينة في 2021 على النظام، وبدأت بتطبيقه.
في العام التالي، انخفض مباشرةً عدد رخص البناء الجديدة بـ48% عن السنة السابقة لها، رغم ارتفاعه في الولايات المتحدة ككل ووصوله لرقم تاريخي في السنة نفسها. وهذا الانخفاض بدأ حتى قبل تطبيق القانون، إذ توقّع المطوّرون العقاريون نجاح هذا التصويت، ودفعهم ذلك لتقليل استثماراتهم في القطاع.
بعدها بأشهر، حاول مجلس المدينة الاستدراك بعدد من الاستثناءات التي قد تعالج مشكلة انخفاض رخص البناء. كان أحدها إعفاء المباني الجديدة لـ20 سنة من هذه القيود، ورفع نسبة الزيادة السنوية المسموحة من 3% إلى 8% بحال أثبت صاحب العقار ارتفاع التكاليف عليه. إلا أن ما قالته الأرقام في الأشهر التالية هو أن هذه الاستدراكات لم تنجح في قلب موجة انخفاض البناء الجديد.
آلية تأثر السوق بالتشريعات ليست كما يتوقعها الشخص العادي، فزيادة مخاطر الاستثمار يكون أولًا بعدم الوضوح، وتزايد المخاطر الممكنة. فكيف يضمن من سيستثمر الملايين أن هذا الاستثناء سيستمر، وكيف سيموّل البنك مطوّرًا عقاريًّا في مدينة تتدخّل في التسعير وترفع المخاطر على المطورين، بمقابل مدن أو قطاعات أخرى تغيب فيها هذه المخاطر.
عرض غير مستغل
بالإضافة لانخفاض وتيرة الاستثمار وتغذية العرض، سيعني تحديد أسعار الإيجارات أن المستأجر سيظل في وحدته، وإن لم يحتج إلى كامل مساحتها، عوضًا عن انتقاله لوحدة أصغر توافي احتياجاته الفعلية لو لم تكن أسعار الإيجارات مقيّدة.
ومثال ذلك بقاء كبير بالسن في وحدة كبيرة لوحده بعد استقلال أبنائه عنه. أو أن يبقي المستأجر وحدته للاستخدام وقت الإجازات وحسب بسبب انخفاض تكلفتها. تلك المساحات الإضافية غير المستغلّة ليست إلا عرضًا غير مستغلّ في سوقٍ يعاني من انحسار العرض.
من الدلائل على ذلك ما حصل في المملكة المتحدة. فرغم إلغاء قانون السكن في 1988 من إدارة مارقريت تاتشر -الشهيرة بسياسات التحرير والخصخصة- لمختلف أشكال تقنين ارتفاع الإيجارات، ومنع إخراج المستأجرين، إلا أن آثار تلك السياسات لم تقف عند ضعف المعروض وانخفاض الجودة وحسب، بل خلقت تشوهًا مركبًا في السوق العقاري السكني بقي عقودًا من الزمن، وإلى هذا اليوم.
قبل قانون السكن بـ1988، كانت المملكة المتحدة تعاني من أزمة في وفرة السكن مع وجود عدد كبير من المساحات السكنية غير المستغلّة. وسبب ذلك منع النظامُ صاحبَ العقار من إخلاء المستأجر أو أحد أفراد عائلته، في حالة رغبتهم بتجديد العقد. وحين يُقيّد ارتفاع الإيجار يصبح العقار للقاطنين -مع مرور الوقت- خيارًا رخيصًا لدرجة عدم حاجتهم إلى الخروج حتى لو انخفض عدد أفراد الأسرة. وكذلك لا حافز لهم إلى التملّك، لكون سعر الإيجار أقل -وبشكلٍ معتبر- من قسط تملك المنزل.
واصل المعروض السكني في الانخفاض في الفترة التي كان فيها قانون حماية المستأجرين سارٍ. فليس لدى ملاك العقارات أي حافز لبناء مساكن جديدة.
حاولت الحكومة علاج ضعف المعروض عبر بنائها لمشاريع إسكان وعرضها للإيجار. أدى ذلك لانخفاض نسبة السكن المملوك من القطاع الخاص من 76% في 1918 إلى 8% فقط في سنة إلغاء تلك القيود عندما صدر قانون السكن في 1988.
تلك القيود كانت كارثية لدرجة استحقاقها لمقالة خاصة بها. كانت كل سلبية تظهر من سياسات التحكم في الإيجار يقابلها تعنّت ومحاولة أخرى للتصحيح بعيدًا عن الاتجاه لإلغاء القانون، السبب الأساس في هذه المعضلة. فمثلًا، حين قلّ الطلب على تملك المساكن، بسبب انخفاض الإيجار عن قسط التملّك -كما أسلفت-، حاولت الحكومة دعم قسط الرهن العقاري؛ حتى تغلق الفجوة بين التملّك الإيجار.
وحين ارتفع عبء ذلك الدعم على ميزانيتها، اتجهت الحكومة للتحكم بسعر بناء البيوت؛ عبر فرض سقف سعري على المطوّرين. هذا بدوره قلّل المعروض ورفع وقت الانتظار للحصول على منزل. وقد تكون أسوأ العواقب إفلاس عدد كبير من المطورين في السبعينيات، مما أفقدت المملكة المتحدة قدرات إنتاجية تلازمها إلى الآن.
انخفاض الجودة
عندما يجد مالك العقار نفسه مضطرًا للتأجير بسعرٍ مقيّد لا يمكن رفعه فلن يعبأ بالمحافظة على جودته بالصيانة، فضلًا عن رفعها بالترميم والتطوير؛ فالمستأجر لن يخرج حتى لو انخفضت جودة المسكن ليحافظ على سعر إيجاره المنخفض، لأنه إن خرج وبحث عن وحدةٍ جديدة واستأجر بسعرٍ مفتوح فلن يجد وحدةً بالسعر ذاته وبجودة مماثلة أو أفضل. ولذلك، بسبب سياسات التحكم بأسعار الإيجار؛ تستمر جودة المعروض السكني في التدهور بمرور الوقت.
قد تكون مدينة نيويورك أشهر مثال لسياسات التحكم في أسعار في الإيجار، وهي ما حفز الثنائي فريدمان وستيقلر لنشر بحثهما المذكور آنفًا.
تُطبّق نيويورك اليوم سياسة «الاستقرار الإيجاري» (Rent Stabilization)، حيث يقدّر مجلس الإيجارات التابع للمدينة الإيجار العادل لكل منطقة. ثم يُسمح لملاك الوحدات برفع الإيجارات سنويًا بما لا يزيد عن 7.5% إلى حين وصول الوحدة لذلك السعر العادل، وعند وصولها إليه، يُقيّد الارتفاع عنها بنسبة يحددها ويحدثها المجلس ذاته بشكل دوري.
تُطبق هذه السياسة على الوحدات السكنية المشيّدة قبل 1974 فقط، ويقدّر عددها اليوم بحوالي مليون وحدة. وآخر مرة حُدّث فيها هذا النظام كانت في 2019.
من يزور نيويورك، عاصمة المال والأعمال، سيُفاجأ من رداءة عدد كبير من المباني في أهم المناطق وأكثرها غلاءً. إذ سترى مبانٍ وأبراج حديثة، للمكاتب والفنادق والمحلات التجارية، بجوار مبانٍ سكنية رديئة، بلا تكييف ولا مصاعد، ولا أي تطوير منذ أن بُنيت قبل عقود.
أما النصف الآخر من وحدات نيويورك السكنية غير الخاضعة لسياسة الاستقرار الإيجاري، إما لأنها مبنية بعد 1974، أو لكونها في مناطق مستثناة؛ ستجدها مصانة وحديثة وبجودة عالية، مقابل أسعار عالية كذلك بالطبع.
ضعف الإيراد الإيجاري من تلك المباني الخاضعة للاستقرار الإيجاري؛ قضى على أي حافز للاستثمار في الصيانة والترميم والتجديد. بل حتى المالك، غير القادر على إرغام مستأجريه على الخروج، يرغب باستمرار تهالك مبناه، حتى يضطرهم للخروج منه، ليمكنه حينها هدّ المبنى واستثمار أرضه الثمينة بنيويورك في قطاع غير القطاع السكني المقيّد.
وبسبب ذلك، بين 2002-2021، فقدت نيويورك، ثاني أعلى مدينة بالعالم في سعر الإيجار السكني، حوالي نصف مليون وحدة من الوحدات المصنّفة بأنها وحدات بإيجار منخفض وما دون.
هل تخفّض هذه السياسات الأسعار أصلًا؟
قد تكون الآثار المذكورة آنفًا لسياسة التحكم بالأسعار، والمتكررة في عشرات المدن حول العالم، كلفةً مقبولة مقابل المكاسب الاجتماعية. ولكن هنا يكون السؤال: هل فعلًا تؤدي تلك السياسات إلى كلفة سكن أقل؟ لننظر إلى تجربة اليابان.
كان النظام في اليابان إلى عام 2000 يسمح لصاحب العقار أن يختار السعر الذي يريد عند الاتفاق مع المستأجر، ولكن يقيّد الارتفاعات السنوية الممكنة، وأن يمنع المؤجر من إخلاء وحدته ما دام المستأجر مستعدًّا لدفع الإيجار بعد ارتفاعه ضمن النطاق القانوني. كانت سياسة مشابهة لمثيلاتها عبر العالم، وأتت لأسباب مشابهة كذلك، وهي محاولة ضبط الارتفاعات العالية بأسعار الإيجارات.
ولكن ما يحدث بسبب مثل هذه السياسة أن المؤجّر سيبدأ العقد بسعر عالٍ من البداية، تحسبًا لعدم قدرته رفع الإيجار بعدها بسبب ذلك التنظيم. هذه الممارسة متوقعة ومعروفة، ولكنها لم تُدرس إحصائيًّا لمعرفة أثرها على متوسط سعر الإيجار للمدينة ككل.
ولكن في 2004، قد أدى المهمة باحثان إقتصاديّان يابانيّان. إذ حاولا قياس تكلفة ومنافع سياسات التحكم بالإيجار في طوكيو، في محاولة تطوير نموذج رياضي يقيس التكلفة مقابل المنفعة، بناءً على أرقام وبيانات فعلية.
الذي وجدته الدراسة أن تحوّط ملّاك العقارات -المشروح أعلاه- يجعل سياسة تقييد نسبة الزيادة للمستأجرين غير نافعة لهم، وبالمقابل فإن لها أثرًا سلبيًّا على المستأجرين لفترة قصيرة؛ حيث سيتحملون تكلفة أعلى مقابل لو كان السوق متحررًا من القيود.
أيضًا وجدت الدراسة أثرًا سلبيًّا على قدرة المستأجرين على الحركة وتغيير المسكن. فحين يرغب المستأجر بالانتقال لوحدة أكبر، إما لزيادة أفراد عائلته، أو لانتقاله لمدينة أخرى لتغيّر عمله، فإنه سيكون معرضًا لسعر إيجارٍ جديد أعلى من السعر الطبيعي؛ بسبب تحوّط المالك المذكور آنفًا. وبسبب ذلك، فإنه سيحتاج أن يبقى لمدة أطول في وحدته الحالية، حتى يعوّض ارتفاع تكلفتها الابتدائية بانخفاض الزيادات السنوية الممكنة.
هذا الاستنتاج ليس غريبًا ولا جديدًا، بل هو مجرد نموذج رياضي جديد طُبق في مدينة جديدة لقياس السلبيات المتوقعة نفسها. هذا البحث الياباني يقتبس ويستخدم إثني عشر بحثًا آخر بين الأعوام 1987 و2002 تقيس الآثار الاقتصادية لسياسات التحكّم بأسعار الإيجارات.
إذن، هل أدت محاولات تثبيت أو تقنين الزيادات في الإيجارات إلى أسعار أقل؟
الدلائل واضحة، وهي أن المدن ذات السياسات التي تتدخل في الأسعار لا تخرج من دائرة أكثر المدن تكلفة في الإيجارات. وحتى لو تخلّت عن تلك السياسات، فإن أثرها سيمتد إلى سنوات لاحقة.
آثار سلبيّة أخرى
وإضافةً إلى قصور تلك السياسات بتخفيض الأسعار، وهو هدفها الأساس المزعوم، فإن تخفيضها المعروض السكني وتركّز الطلب في السوق على معروضٍ محدود سيكدّس المستأجرين في طوابير ليعاينوا الوحدة ويحظوا بفرصة الحصول عليها، هذا إن لم يُلزموا بمقابلات شخصية.
واختيار المؤجر لفائز من بين مئات المتقدمين سيفتح المجال لدخول العنصرية في عملية اختياره؛ لكون كل الطلبات تعرض السعر نفسه المحدّد بالقانون، خلافًا للحالة الطبيعية حيث يمنح المؤجر وحدته لأعلى طلب لها.
وبعيدًا عن دائرة المؤجر والمستأجر، فإن عجز مدينة عن توفير معروضٍ سكني سيقيّد النمو الاقتصادي الممكن لها؛ إذ أن توافر خيارات الإسكان ضروريٌ لانتقال العاملين إليها وتأسيس الأعمال فيها.
وبالإضافة لكل ذلك، فإن أي سياسة تدخليّة في السوق ستعظّم دور البيروقراطيين في الحياة العامة. فمثلًا، مع سياسات التحكّم في أسعار الإيجارات ستتولد مجالس تحديد «السعر العادل»، ومجالس أخرى لحل المنازعات، وقد يسبب النقص في المعروض إلى الدعوة لتشييد السكن الحكومي العام -مثلما حصل في المملكة المتحدة- وهذا ما سيجعل قطاعًا ضخمًا وأساسيًّا تحت إدارة جهات بيروقراطية ستوظف جيش من المشرعين، والمراقبين، ومدراء المشاريع، وحتمًا أقل كفاءةً وجودةً من القطاع الخاص.
تجربة دبي
يرى البعض أن تجربة دبي المثال الأقرب لنا، وأن في تطبيقه كفاءة؛ إذ عُدّل عدة مرات منذ 2005 لتلافي أخطاء تجارب المدن الأخرى. إلا أن كلفة الإيجار للقطاعين السكني والتجاري في دبي أعلى من مثيليهما في الرياض، رغم النمو المتسارع والاستثنائي للرياض خلال السنين الأخيرة. ولا يبرر هذا الارتفاع القوة الشرائية أو نوعيّة الاقتصاد.
وعند ذكر تجربة دبي، تجدر الإشارة لملاحظة أن التدخل في الإيجارات يلحقه تكاليف أخرى. فمثلًا، جميع عقود الإيجار في دبي تخضع لضريبة 5% على كامل مبلغ الإيجار لصالح هيئة الأراضي والعقارات، بالإضافة إلى 3.5% رسوم نزاعات في حال الخلاف بين الطرفين.
السياق المحلي
تختلف حالات التحكم بأسعار الإيجارات عبر العالم بالآليات والحدّة، إلا أنها تتفق بنطاق تطبيقها، ألا وهو العقار السكني، لأسباب عدّة منها عدّ العقار السكني حاجةً إنسانية، وأن مستأجريه هم القطاع العام، مصدر الضغط الأكبر على صنّاع القرار.
إلا أن الفريد بسياقنا المحلي هو علو صوت القطاع التجاري بمثل هذه المطالبات على صوت القطاع السكني. تستحضر هذه الأصوات أمثلة وتجارب عالمية متعددة، ولكنها لا تدرك أنها في طريقها للإلغاء بعد عقودٍ من الفشل، والأغرب: أن ولا واحدة منها تشمل القطاع التجاري، بل تقتصر فقط على القطاع السكني؛ لأسباب تشمل عدّ الكيانات التجارية أنضج في التفاوض ودراسة خياراتها وعقودها، وأقدر على تحمّل تغيّرات الأسواق والتكيّف معها.
فمثلًا، فعندما يواجه محلًّا تجاريًّا عالي الأسقف، كبير المساحة، منخفض الجدوى الاقتصادية، ارتفاعًا في سعر إيجاره، فمن غير المنطقي أن نهمل ضعف قدرته على التكيّف مع هذا الارتفاع، بالتحوّل مثلًا لنموذج أكثر احترافية وتنافسية وكفاءة، ونعتبر أن الحل في سياسات تحميه من ارتفاع الإيجار، مع بقائه على حاله.
وإن تعذّر على الكيانات التجارية ذلك، فعلينا أن نستكشف السبب الجذري لعجزهم، ونعالج العوائق التنظيمية التي سببته، بدلًا من التدخّل بأسعار الإيجارات، الذي سيأتي بكلّ الأضرار التي استعرضتها عبر هذه المقالة.
ولا أجد مثالًا يوضّح هذه الفكرة أكثر من ذلك السمين الذي يعتقد أن علاج سمنته في تضييق حزامه، وليس في أيٍّ من الحلول الجذرية مثل الحمية والرياضة. عندما يضيّق حزامه سيبدو ظاهريًّا أنحف، ولكنه سيعاني الألم ما بقي على ذلك. وسيجد جسمه بعد السنين والعقود مشوّهًا، ولا زالت مشاكله الجذرية على حالها، إن لم تتعاظم.
لماذا تكرر المدن الخطأ نفسه؟
إن عدنا لمثال عاصمة مينيسوتا، فإن انخفاض أعداد رخص البناء فيها، بعد سنّها سياسات التحكم بأسعار الإيجار، زامنه ارتفاع 16% في أعداد الرخص بمدينة مينيابوليس المجاورة لها.
قد يتصوّر القارئ أن سكان الولاية سيجدون في هذه المفارقة أوضح عبرة بأثر سياسات التحكم بأسعار الإيجار. إلا أن تلك المدينة المجاورة، مينيابوليس، صوتت هذا العام على قرار مشابه، رغم كل محاولات المختصين التنبيه على آثارها السلبية.
مطالبات تقنين الأسعار والتدخّل في السوق الخاص لا تنتمي إلى اقتصاد السوق المفتوح الحر، ولكن الفريد والغريب في هذه المطالبات أنها تُؤخذ بجديّة بل وتُطبّق في دول ذوات اقتصادات رأسمالية، مثل نيويورك ولندن وباريس وبرشلونة، والكثير غيرها.
وهنا يكون السؤال: لماذا تصر المدن -حتى الرأسمالية منها- على تكرار الخطأ نفسه؟
تُعد سياسات التحكم في الأسعار -والتدخل الحكومي في السوق عمومًا- ركيزةً أساسية في الفكر اليساري والاشتراكي، الذي يرى أنه أقدر على التخطيط والإدارة من ترك الاقتصاد إلى القرارات الفردية ولرغبات السوق.
والأهم، الشعبية العالية لمثل هذه القرارات لدى الشخص العادي غير المتمكن من الاقتصاد يجعلها أداةً سهلة لكسب الأصوات والفوز بالانتخابات.
هذا التحليل ليس هجومًا على تيار بسبب اختلاف أيديولوجي. فدكتور الاقتصاد الأمريكي بول كروقمان -المعروف بتوجهاته اليسارية- نشر مقالةً شهيرة يتعجب فيها من الإصرار على سياسات التحكم في الإيجار، رغم إثبات فشلها مرةً بعد الأخرى.
وصف القضية أنها من أكثر القضايا الاقتصادية المدروسة والمتفق عليها بين الاقتصاديين، وأن الناس ببساطة لا يودون سماع ذلك. فمثلًا المجموعات المدافعة عن حقوق المستأجرين في سان فرانسيسكو عارضوا حتى طرح القضية للدراسة؛ لأن مجرد الموافقة على البحث في القضية ودراستها، والنتيجة العلمية المتوقعة من هذه الدراسة، ستدفع باتجاه إنهاء سياسات التحكّم بأسعار الإيجارات، وبمختلف أشكاله.
فاصل ⏸️
تحلل هذه الحلقة من البودكاست الاقتصادي «Freakonomics» موضوع هذا العدد، سياسات التحكم بالإيجار؛ لتجيب على السؤال ذاته: «لم لا يفيد التحكّم بالإيجارات»، استنادًا لدراسات متعددة، وتجارب مختلفة حول العالم، وحجج الاقتصاديين ضد أي سياسة للتحكم الاصطناعي بأسعار الإيجارات.
في حلقة «لماذا يجب على الحكومة الخروج من السوق» من بودكاست فنجان، يقدّم ضيفها، كاتب مقالة هذا العدد، أطروحة تحرير الأسواق من التدخّل والتأثير الحكومي، مستعرضًا مختلف التجارب العالمية الواقفة عند أحد طرفي هذا الرأي. متى وكيف تتحكم الحكومات بالأسعار، وما آثار التشريعات، والفرق بين العمل الحكومي والخاص، والكثير ضمن هذا السياق في هذه الحلقة.
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.
نشرة أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات تحليلية لكتّاب بمجالات عدّة. يمنحونك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.