وثائقي «The Pigeon Tunnel» يستكشف حقيقة جاسوس
لا أعتقد بأنه يمكن الوصول إلى جوهر أي إنسان خلال ساعة ونصف. إلا أنها كانت ساعةً ونصفًا ممتعة ومثيرة للاهتمام. ولا أعتقد بأن أحدًا آخر غير «موريس» كان قادرًا على الوصول إلى هذه النتيجة.
وثائقي «The Pigeon Tunnel» يستكشف حقيقة جاسوس
مازن العتيبي
إيرول موريس مخرج أفلام وثائقية وفنان. هل هذا شيءٌ جيد؟
فنيَّة موريس كانت ولا تزال محلَّ جدل. فلمه الأشهر «ذا ثِن بلو لاين» (The Thin Blue Line) واجه انتقادات كثيرة أعقاب نشره عام 1988، لاستخدام موريس مشاهد تمثيلية فيه، وهو ما لم يكن سائدًا في الأفلام الوثائقية حينها، وكذلك لاستخدامه قطعًا موسيقية من مؤلف معروف هو فيليب قلاس.
كانت هذه الانتقادات تجادل بأن ما يفعله موريس ليس عملًا وثائقيًا، يقولون إن الأفلام الوثائقية يجب أن تكون توثيقية معلوماتيةً في المقام الأول، وأن تعرض الحقيقة كما هي دون تلاعب فنِّي.
إذا كنت تتفق مع هذا الرأي فآخر أفلام موريس ليس لك، ففي «نفق الحمام» (The Pigeon Tunnel) لا يكتفي موريس باستخدام المشاهد التمثيلية والموسيقا التصويرية البديعة من شريكه القديم قلاس نفسه، لكنه أيضًا يجعل مفهوم «الحقيقة» ركيزة من ركائز الفلم. فيستعرض بذكاء ذكرى معيَّنة لشخصيته الرئيسة في الفلم، الروائي البريطاني جون لي كاريه، قبل أن يتساءل عمّا إذا حدث هذا في الواقع أو لا. ويبدو جليًا أن موريس وشخصيته الرئيسة يتفقان على أن «الحقيقة» موجودة والسعي وراءها نبيل، إلا أنه يستحيل أن تُحْكِم قبضتك عليها.
يحكي «The Pigeon Tunnel» قصة لي كاريه، أحد أشهر كتَّاب أدب الجاسوسية في العالم، الذي كان يعمل كذلك في الاستخبارات البريطانية خلال الحرب الباردة. حياة لي كاريه الشخصية لا تقل إثارة وغموضًا عن حياته المهنية، سواءً من ناحية والدته التي هجرت العائلة عندما كان طفلًا، أم والده المحتال الذي استمر غيمةً سوداء في حياته حتى النهاية.
بالإمكان أن تقرأ هذا الوصف للفلم وتتخيل نسختين بديلتين منه. الأولى هي نسخة «ناشيونال جيوغرافيك»، حيث يسرد راوٍ ذو صوت رخيم قصة حياة لي كاريه منذ ولادته، فيصف بيته وشارعه ورفاق طفولته وحياته الأسرية المؤلمة ثم دراسته وعمله وزواجه، وترافق كل هذا السرد مقابلات مع أهم الأشخاص في حياته وهم يتحدثون بعاطفة مفرطة عن تأثير لي كاريه فيهم. هذه ستكون النسخة «المعلوماتية» الأفضل.
هذا النوع من الأفلام هو ما يتخيله أي شخصٍ عندما تنطق كلمة «وثائقي»، وهي وسيلة أكثر فائدة للاستزادة من موضوع ما خلال ساعة ونصف، وبالتأكيد سُردت بها كثير من الروائع، مثل سلاسل كين برنز عن حرب فيتنام وتاريخ البيسبول. إلا أن تعميم هذا الأسلوب السردي على كل القصص أضرَّ بعالم الأفلام الوثائقية أكثر مما أفاده، وبالتأكيد لو سُردت قصة لي كاريه هكذا لتوقفت عن مشاهدة الفلم خلال الدقائق العشرين الأولى، ففي نهاية الأمر، حياة لي كاريه لا تحوي مأساوية حرب فييتنام ولا عراقة تاريخ البيسبول.
لكنك بالتأكيد تستطيع التظاهر بأن حياة لي كاريه كانت أكثر زخمًا وحماسًا من الواقع، وهو ما كانت ستفعله نتفلكس لو أنتجت وثائقيًا عنه. هذه هي النسخة الثانية التي تستطيع أن تستنتجها من الوصف العلوي، وفيها يبدو عمل لي كاريه في المخابرات أشد إثارة مما كان عليه، وتصبح علاقته الزوجية المتوترة مركز اهتمام وتكهُّن، ويصبح لي كاريه بشكل أو بآخر الشخص الأهم في عوالم الأدب والجاسوسية حتى الخيانات الزوجية.
هذا الأسلوب الوثائقي «الحماسي» ليس سيئًا بالضرورة، خصوصًا عندما تكون القصة في ضخامة الأسلوب مثل سلسلتي نتفلكس عن أوشو ومايكل جوردان. لكن نجاح مثل هذه الأعمال خلال السنوات الماضية منح الأسلوب انتشارًا صادمًا، بالكاد تحدث جريمة قتل في أمريكا دون أن تصبح مسلسلًا وثائقيًا من ست حلقات، وهذا المسلسل بطبيعة الحال سيصدمك في نهاية كل حلقة بلحظة «يا للهول» جديدة، حتى تُصدم في الحلقة الأخيرة بأنك أضعت ست ساعات من حياتك دون رجعة. لو أن قصة لي كاريه سردت بهذا الأسلوب فلربما كنت سأنهي متابعة الفلم؛ لأنه سيضيع بالتأكيد في سيل الأفلام المشابهة بلا قيمة.
لكن كما ذكرنا سابقًا، موريس فنان، فلا تشبه نسخته هاتين النسختين.
ما يبحث عنه موريس شيءٌ أكثر شخصيةً، فلا توجد مقابلات مع أحدٍ غير الشخصية الرئيسة، لي كاريه نفسه. وهذه المقابلات مع الكاتب لا تجري بالطريقة التقليدية، فأماكن التصوير غريبة، مثل مكتبة مليئة بالمرايا، ووجود موريس نفسه غريب، فتسمع أسئلته للي كاريه أحيانًا وتأملاته كذلك، لكنك لا ترى وجهه أبدًا. الأسئلة نفسها تتجاهل أحيانًا أكثر المواضيع «إثارة»، مثل الخيانة الزوجية أو تفاصيل عمل الاستخبارات، وتتجه إلى مناطق فلسفية من الصعب أن تراها في فلمٍ وثائقي آخر، مثل طبيعة الخيانة كسلوك بشري والاغراء الذي يواجه «العميل المزدوج».
هذا لا يعني أن الفلم خالٍ من القصص أو ممل بالضرورة، بالعكس، موريس سارد قصص رائع بطبيعته، وهذه القصص تخرج على لسان روائي بحجم لي كاريه، وهذا يسهِّل مهمة السرد. النقطة هنا هي أن هذه القصص بمفردها ليست المغزى من الفلم، ولا المعلومات عن حياة وعمل لي كاريه، فقد تكون صفحة «ويكيبيديا» مصدرًا أفضل للمعلومات عن الكاتب ومؤلفاته.
لكن صفحات «ويكيبيديا» دائمًا مصدر أسرع وأسهل للمعلومات من الأفلام الوثائقية، والسؤال الآن: ما مهمة الوثائقيات؟
في «The Pigeon Tunnel» يقول موريس إن الوثائقيات يجب أن تكون أعمالًا فنية، وهذا العمل الفني بالتحديد يحاول الوصول إلى جوهر لي كاريه. هذا الهدف يجبر موريس على اختيار الفن قبل المعلومة في كل شيء، فتمتد اختياراته غير التقليدية من ترتيب المقابلات إلى طريقة عرض الصور والمقاطع الأرشيفية، واستخدام الاقتباسات من روايات لي كاريه وأفلامه، حتى في المشاهد التمثيلية التي كان أحدها غرفة مليئة ببيض الحَمام.
لا أجزم بأننا وصلنا إلى جوهر لي كاريه في الفلم، لا أعتقد شخصيًا بأنه يمكن الوصول إلى جوهر أي إنسان خلال ساعة ونصف. إلا أنها كانت ساعةً ونصفًا ممتعة ومثيرة للاهتمام. ولا أعتقد بأن أحدًا آخر غير موريس كان قادرًا على الوصول إلى هذه النتيجة، فـ«التلاعبات» التي قد تُعد عيبًا في أعين البعض هي بالضبط سبب نجاح أفلامه؛ فهي تتطلب انتباهك الكامل، وتترك فيك العديد من المشاعر عند الانتهاء منها، كما يجب على كل الأفلام الحقيقية أن تفعل. لا يمكنك الوصول إلى أي نتيجة ساحرة لو أنك سردت كل قصة حقيقية كنشرة أخبار.
هذا لا يعني أن الفلم مثالي، شخصيًا وجدت نفسي في بعض اللحظات أسخر من خيارات موريس الفنية أكثر من اللازم.
إلا أن موريس يستخدم لسان لي كاريه في منتصف الفلم حتى يدافع عن نفسه استباقيًا عندما يقول: «أنا حقًا لا أعتقد بأن أي فنان، سواءً أكان كاتبًا أم رسّامًا أم أي شيء آخر، لا أعتقد بأن عليه أن يبرر عمله بعد نقطة ما. إذا ما أثار العمل أسئلةً في داخلك فأنت قد حظيت بوقت جيِّد.»
و«The Pigeon Tunnel» يثير فيَّ العديد من الأسئلة، وعليه فإنَّ تقييمي بالأرقام: 8 من 10. 🍿🤔
اقتباس النشرة
أخبار سينمائية
استغلَّ الممثل كيليان مورفي وقت فراغه أثناء إضراب الكتَّاب والممثلين والممثلات مستمتعًا بأكل الجبن. (يا خي محلا الحياة وهي سهالات كذا 😫)
المخرج ريدلي سكوت يواصل أفلامه، ليست السينمائية بل تصريحاته🤦🏻♂️. أول تصريح حين بدأ البعض يسأل عن صحَّة الوقائع التاريخية في فلمه «نابليون» وكان ردّه على كل من يسأل «إنت كنت عايش معهم؟» ثم قرر أن يضرب تحت الحزام حين سئل إذا لديه مخاوف المخرج مارتن سكورسيزي وقال: «بكل بساطة لا، من بدأ مارتن يسوي فلمه (Killers of the Flower Moon) أنا سويت أربع أفلام، وكل صباح أستقيظ فيه أرحب بالقلق والتوتر.»
بشرى لكل من حب فلم «The Killer»: تستطيع أن تنام مرتاح البال لأن المخرج «ديفيد فينشر» يقول «لا توجد مشاهد محذوفة.» (هنا مراجعتنا للفلم من نشرة الأسبوع الماضي😏)
يبدو أنَّ مخرج فلم «Dune» الجزء الثاني شعر أنه تورَّط بالتأجيل، لذلك قدَّم موعد إصدار الفلم من 15 مارس إلى 1 مارس 2024. (غالبًا يكون عندنا الموعد نفسه أو قبله بيوم😁)
توصيات سينمائية
كوني المحرر الذي يكتب التوصيات، فأنا وفريق النشرة سعداء بتركيزنا على توصية واحدة، لأنَّ التوصية الواحدة خيرٌ من ألف اقتراح. لكن هذه المرة وقع المحرر في إحدى نقاط ضعفه وهي الأفلام الوثائقية. مع ذلك أبشركم، هذه التوصية لم يحدث فيها أي مضاربات جدالات!
- «أقدر أشتري غواصة؟»
- «تبيها مع صواريخ ولَّا بدون؟»
من بداية الفلم الوثائقي عرفت أني مقبل على رحلة مجنونة ذكرتني كثيرًا بفلم «Scarface». بطل الوثائقي لودفيج فاينبرق (بشحمه ولحمه) يحكي لك القصة، ولك أن تتخيل أول وظيفة له: «إشعال الحرائق». يبدأ مهمته مع إشعال حريق بسيط، وعندما يتدخل فريق الإطفاء يكمل خدعته بصب كمية هائلة من الماء. هنا المهمة تمت وجرى تخريب المكان بنجاح.
من خلال الفساد صعد بطلنا سلم النجاح خطوة خطوة، وأسَّس نادي تعرِّي ليلي. أصبح النادي مرتع المجرمين، وفيه يتدخل فاينبرق في بيع المخدرات والأسلحة إلى أن وصل إلى المهمة المستحيلة التي تتطلب تهريب كمية كبيرة من المخدرات عبر غواصة! كيف يستطيع شراء غواصة؟ وكيف يستطيع ربط جميع الأطراف بين بعضها في هذه المهمة! سأترك مهمة الإجابة للفلم.
وحقيقة لو كنت مخرجًا أو كاتب نصوص سينمائي، لحرصت على تقديم هذه القصة بنكهة سينمائية، والأهم أني سأروي القصة مثلما جرى سردها في الوثائقي.
ميم النشرة
يعرض الآن
في السينما فلم الدراما التاريخية «Napoleon» بطولة خواكين فينيكس وإخراج ريدلي سكوت. يركز الفلم في تاريخ نابليون بونابرت وأصوله، وكيف استطاع الوصول إلى لقب «الإمبراطور»، ومعاناته مع علاقته بزوجته.
في السينما فلم الرعب «The Ghost Within» بطولة ميكايلا لونقدين وريبيكا فيليبسون. يحكي الفلم قصة امرأة شابة تحاول لغز وفاة أختها منذ عشرين عامًا، في سلسلة من المواجهات المرعبة بدأت بالتقائها بشبح أختها.
في السينما فلم الصور المتحركة العائلي «Wish» بطولة أريانا ديبوز وكريس باين. تتمنَّى فتاة «آشا» أمنية وتتحقق أمنيتها حرفيًّا وتنزل نجمة إليها من السماء لتنضم إلى مغامرتها.
مقالات ومراجعات سينمائية أبسط من فلسفة النقّاد وأعمق من سوالف اليوتيوبرز. وتوصيات موزونة لا تخضع لتحيّز الخوارزميات، مع جديد المنصات والسينما، وأخبار الصناعة محلّيًا وعالميًا.. في نشرة تبدأ بها عطلتك كل خميس.