التراث الحداثي وحتمية الحفاظ

لنا فرصة كبيرة في السعودية لترشيح عدد من المواقع ذات الشأن، إذ تزخر عمارتنا الحديثة بعدد من المشاريع التي تحمل بصمات أسماء معمارية مهمة.

أُسدل الستار في الأمس القريب على قضية الحفاظ على أحد أهم المباني اليابانية «مبنى ناكاجِن الكبسولي» (Nakagin Capsule Tower)، التي امتدت لما يقارب الخمسة عشر عامًا. ويبدو أن الملاك الجدد نفد صبرهم، و قرروا هدم أحد أهم المباني الأيقونية في القرن العشرين، الذي أضحى المشروع الأبرز لحركة «الميتابولزم» (Metabolism)، أو العمارة الاستقلابية، التي ظهرت منتصف الستينيات وكان كيشو كوروكاوا واحدًا من أبرز أعضائها.

جسّد المشروع أفكار هذه الحركة المستقبلية، التي قامت على أفكار طليعية تحاول الاستقاء من الطبيعة وإعادة النظر إلى العمارة والعمران على أنها عملية بيولوجية وليست قضية مادية صرفة. ويذكر المعماري كوروكاوا أن المشروع قام على فكرة المرونة والتكيف، وهذا ما تجسده الكبسولات وقابليتها للتغيير كل خمسة وعشرين عامًا، إضافة إلى قدرة البرج على التكيف مع التغيرات التي تطرأ بمرور الزمن.

ولكن يبدو أن الأفكار العظيمة ليست كلها قابلة للتطبيق بهذه السهولة، وهذا ما حدث، إذ نادرًا ما أُجريت تغييرات على هذه الكبسولات، ومع تقادم الزمن و محدودية الصيانة وكثرة الملاك وعدم تقبلهم للفكرة، ظل المشروع يسير في طريق الإهمال حتى امتلكه مستثمرون أغرتهم الأسعار الخيالية للعقار في طوكيو بهدم المبنى وبناء برج حديث متعدد الاستخدامات محله. 

نهاية حزينة لمبنى عريق

وهذا يعيدنا إلى سنوات قليلة ماضية، فقد أثارت قضية مجمع سكني في دولة الكويت «مجمع الصوابر» ضجة كبيرة عندما قررت الحكومة هدم المشروع وضمه إلى المنطقة التجارية التابعة للمدينة. وظل السجال دائرًا بين مؤيدي الهدم من جهة ومعارضيه من جهة أخرى، الذين شددوا على القيمة المعمارية الكبيرة لهذا المشروع، فهو من تصميم المعماري الكندي اللامع آرثر إرِكسن، الذي يعد المعماري الأبرز في كندا، ويعود له الفضل في وضع العمارة الكندية على خارطة العمارة العالمية الحديثة.

ورغم الجهود الهائلة التي بذلها الزملاء المعماريون والمهتمون بالعمارة والتراث الحديثين في الكويت للتوعية بأهمية هذه الصروح الثقافية، فإن الهدم كان مصير «الصوابر»!

تنظيم الحفاظ على التراث الحديث  

ولكن لماذا هذا الاهتمام بتركة العمارة الحديثة على الرغم من أن الحداثة في عقيدتها تحاول نبذ الماضي والاحتفاء بالحديث؟ ولعلنا نتتبع بدايات هذا التوجه، التي تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، وإلى عام 1984 تحديدًا، عندما سُجلت أعمال المعماري الكتالوني أنتوني قاودي في مقاطعة كاتالونيا في قائمة التراث العالمي، تلاها الجسر الفولاذي «آيرِنبرِج كَورج» (The Ironbridge Gorge) الواقع شمال برمنقهام في بريطانيا.

Ironbridge Gorge Shropshire The Iron Bridge
الجسر الفولاذي (The Ironbridge Gorge) في بريطانيا / Michael Garlick

أسست هذه المشاريع بتسجيلها في قائمة اليونسكو للتراث العالمي لما عرف فيما بعد ببرنامج التراث الحداثي الذي أُنشئ  عام 2001 في مركز التراث العالمي باليونسكو بالتعاون مع «الإيكوموس»، (ICOMOS) أو المجلس العالمي للمواقع والمعالم، و«دوكومومو» أو اللجنة الدولية لتوثيق وحفظ الأبنية والمعالم والأحياء للحركة الحديثة (DoCoMoMo International) وتضم القائمة أربعة وعشرين مبنى مسجلًا في قائمة التراث العالمي. 

أصبح هذا البرنامج نقطة جذب للعديد من المهتمين بتوثيق العمارة الحديثة وإرهاصاتها في دول العالم المختلفة، تارة باقتفاء أعمال المعماريين الحداثيين مثل لوكوربوزييه وميس فان دروه وفرانك لويد رايت، ومحاولة الحفاظ على ما بقي من أعمالهم في عدد من دول العالم. وتارة أخرى بتوثيق بدايات التحديث وظهور الأنماط الحديثة للمباني في دول كانت تتوارى خلف عمرانها الأصيل وتراثها المتماسك في حينه.

أسماء عالمية وعمارة محلية

ربما يعيدني هدم أحد أهم معالم العمارة الحديثة إلى مقال كتبته سابقًا عن أهمية تأريخ العمارة الحديثة، وعندما نتحدث عن الحداثة هنا فنحن لا نشير إلى طراز معين ذي إطار زمني محدد، و إنما نقصد العمارة الحديثة بكل تجلياتها والأفكار التي شكلتها بخلاف مظهرها المادي، وتعرّفها الأدبيات التي تعنى بالحفاظ على عمارة الحداثة بأنها العمارة التي ظهرت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

عمارة المدن بعد الجائحة

تبهرنا التقنية بخلق رفاهية تصير مع مرور الوقت احتياجًا، فصرنا نرى في عدم ملامستنا الأسطح حاجة أساسية قد لا تتغير بعد تجاوز الجائحة. 

19 يناير، 2022

وأعتقد أن لنا فرصة كبيرة في السعودية لترشيح عدد من المواقع ذات الشأن، إذ تزخر عمارتنا الحديثة بعدد من المشاريع التي تحمل بصمات أسماء معمارية مهمة، التي سيصبح الحفاظ عليها خلال الأعوام القليلة القادمة مطلب دول كثيرة، نظرًا لما تتمتع به مشاريعهم من تنوع، وأثرهم في مدن عالمية كثيرة.

كالمعماري مينيرو ياماساكي، الذي تعد تجربته في السعودية تجربة نوعية، ولا يمكن لأحد من الباحثين أو مؤرخي العمارة الكتابة عن عمارة ياماساكي من دون المرور على تجربته في السعودية، وهو الذي صمم مطار الظهران وصندوق النقد السعودي.

Saudi Dhahran Airport
مطار الظهران قديمًا في السعودية

وينطبق الأمر ذاته على كنزو تانق المعماري الياباني الحداثي، الذي يعد من أهم الأسماء في حركة عمارة الحداثة المتأخرة، وتراوحت أعماله ما بين المباني المكتبية و مباني الجامعات، وقد صمم مبنى الفيصلية الأول وحرم جامعة القصيم. كذلك يمكننا الإشارة هنا إلى المعماري الألماني فراي أوتو ومشاريعه التي تركت أصداء وحققت جوائز عالمية مثل قصر طويق.

والقائمة تطول لتشمل تجارب حداثية لمعماريين أقل شهرة، وهذا ما يجعل الحفاظ على هذه المشاريع والبدء بتوثيق هذه التجارب وتقصيها مطلبًا ملحًا على جميع الأصعدة.

التراثالسعوديةالعمارة والتصميمالرأي
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية