خواطر عن الاستقالة العظمى
من المهم حقًا تشجيع حرية الاختيار في قضاء وقتنا في التسكع مثلًا -وهو أمر محمود- أو في الاسترخاء لأنه حق أساسي من حقوق الإنسان.
اليوم أتجاوز منطقة الراحة خارج حدود سريري الدافئ، وأذهب إلى حفلة شواء تقيمها صديقتي منيرة، بمناسبة استقالتها من العمل وبدئها رحلة روحية لاستكشاف ذاتها. ولكن يراودني سؤال وجودي مشابه للأسئلة التي راودت ميرسولت في رواية «الغريب» وهو «لماذا يستقيل البعض من وظائفهم الجيدة ويتوقفوا عن العمل؟»
أثارت فضولي الظاهرة المعروفة باسم «الاستقالة العظمى»، مصطلح صكّه الأستاذ الجامعي في جامعة تكساس «أنتوني كلوتز»، عندما استقصى التزايد في الاستقالات رغم توفر وظائف شاغرة. كأن هذه حالة إضراب ورفض للواقع المهني، مع التشكيك في قيمة الوظيفة ومعناها، وكأنما أصبحت وظائفنا «وظائف الهراء».
أرى هذه الظاهرة أشبه بالموقف السياسي الرافض لواقع الرأسمالية وآثارها في نفسية العامل، وهي تكرّس اغترابه عن العمل والمجتمع وعن ذاته. فهي تستهلكنا ونحن منغمسون في العمل وارتقاء السلم الوظيفي، غافلين عن الالتفات لأمور أخرى ذات قيمة ومردود حسن على صحتنا وذواتنا.
ورغم استهلاكنا للثقافة المرئية ومنتجاتها التي ندمن مشاهدتها لساعات طويلة، لمحاكاتها هذا الواقع المشكك بقيمة الوظائف في مسلسلات مثل «سفيرينس» (Severance)، و«ذا أوفيس» (The Office)، إلى فلم «سوري تو بوذر يو» (Sorry to Bother You)، لكننا لا نعيها إلا متأخرين.
فكم مرة فكرتم بتحقيق رغباتكم، لكنكم لم تجدوا الوقت الكافي لهذا، وراودكم شعور بالإحباط لعدم تحقق معنى حياتكم؟ عن نفسي، لا يمكن أن أقدم استقالتي من دون ضمانات أو بدائل، لأنها ستكون أمرًا أشبه «بالقفزة الإيمانية»، التي وصفها كيركقارد كأنها قفزة للمجهول نحو المستقبل.
فما زالت وفرة المال العقبة أمامي، ومثلي كثيرين. وما زلت أجد صعوبة في استيعاب سؤال آلن واتس «ماذا تفعل لو لم يكن للمال قيمة؟»، وإن كان سؤاله في محله، فهو يدفعنا إلى التفكر والتشكيك بتلك القيمة، وبتقديس المال والعمل المهني المصاحب لشعور كثير منا بالخيبة في مستقبلنا.
ولعل الحل يكمن في تجديد خيالنا وآمالنا السياسية والاقتصادية بغد أفضل نبني فيه «برنامجًا» يضع الراحة والرفاه والترويح عن النفس في صميم خياراتنا. واقع نضمن فيه مستقبلًا آمنًا لأنفسنا بعد التقاعد. المهم حقًا هو تشجيع حرية الاختيار في قضاء وقتنا في التسكع مثلًا -وهو أمر محمود- أو في الاسترخاء لأنه حق أساسي من حقوق الإنسان. ولنعتبر أن من ليس لديه وقت للاسترخاء شخصًا يفتقر إلى الحرية.
الروابط:
بودكاست إزرا كلاين، ضد حُب العمل.
كتاب «ديب ورك» عن التركيز في عالم مُشتت.
مسلسل «سيفيرنس» عن دستوبيا العمل.
بُكرة، لكل الشباب الواعد، نطرح أسئلتنا الكبيرة والصغيرة والمتغيرة والعالقة، مع مختصّين وباحثين وعُلماء، ونفهم معهم كيف نعيش ونستعد ونعمل من أجل مُستقبل أفضل.