موت المؤلف بالضربة القاضية

حتى تحافظ منصات المشاهدة على أرباحها الخيالية، وتضاعف إنتاجها بمحتوى جديد يحافظ على اهتمام المشاهد واشتراكه، لن يعود المؤلف البشري كافيًا.

في 1968، دشّن المفكر الفرنسي رولان بارت فكرة «موت المؤلف» في الأدبيات النقدية. بكلام بسيط قال المسيو بارت إنَّ قراءة أي نصّ أدبي يجب حصرها في النص نفسه وعدم إقحام شخص المؤلف أو فكره أو ظروفه الاجتماعية أو البيئية. يعني يصير النص الأدبي ذا كيان مستقل، أما المؤلف فمجرد رحم يتمخَّض عنه النص، ثم مع السلامة يا مؤلف!

طبعًا هذا التنظير النقدي لم يسلب المؤلف وجوده؛ فالتأليف لا يزال منتعشًا. لكن ماذا لو أدى التطور التقني للاستغناء كليّة عن المؤلف البشري؟

اليوم نتعامل مع ملايين النصوص، لكننا أعطيناها تسمية معاصرة: «محتوى». هذا المحتوى نتلقاه كبودكاست وتغريدات و«فيديو حسب الطلب» (VOD) تعرضها المنصات إياها. محتوى غزير وكثيف ووفير يبدو من المستحيل تصوُّر إمكانية «استهلاكه» أو استيعابه في فترة زمنية معقولة!

على سبيل المثال، يتيح حساب نتفلكس 50 ألف عنوان بين فلم وحلقة مسلسل؛ يُقدَّر زمن مشاهدتها كلها بنحو 2.2 مليون دقيقة، أي أربعة أعوام متَّصلة. بطبيعة الحال، كثير من تلك العناوين عمرها أقدم من نتفلكس، لكن الكثير منها كذلك جديد ومتجدد. 

كم مسلسلًا وفلمًا يظهر كل شهر وكل أسبوع؟ مَن يؤلف ذلك القدر الهائل من المحتوى؟ وكيف تُدار عملية تحريره ونشره؟ إذا كنا نتكلم هنا عن المحتوى الإبداعي من النصوص التي تتولد بأسرع من متحورات فيروس كورونا، والتي تعد صورًا للإبداع الإنساني، فكيف نقيس جودتها وتأثيرها علينا كمتلقين؟ كيف نحكم عليها وفق معايير الأصالة والنقد الفني؟

هذه كلها أسئلة فلسفية تتضاءل أمام إلحاح السوق ولغة الأرقام. إذ قُدّر حجم سوق محتوى «الفيديو حسب الطلب» في 2021 بأكثر من 85 مليار دولار، ويُتوقَّع وصوله إلى نحو 98 مليار دولار في 2022. 

وقد وصلنا فعلاً إلى المرحلة التي تكتب فيها خوارزميات الذكاء الاصطناعي نصوصًا؛ فالخوارزميات ستحلِّل وتتعلم ما يطلبه المشاهدون، وتعطيك الحبكة التي ستبيع. هكذا سيتولد المحتوى بالسرعة المطلوبة لتحقيق الأرباح بدون عقبات الإنتاج وتعثُّر القريحة الإبداعية للمؤلفين البشر المساكين.

إنه الموت النهائي للمؤلف.. بالضربة القاضية يا مسيو بارت.

الإنسانالذكاء الاصطناعيصناعة المحتوىالثقافةالمستقبل
نشرة أها!نشرة أها!نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.