عاشوراء: كيف للحزن العتيق أن يتجدَّد

رغم مقتل الحسين وجميع أنصاره في يومٍ واحد هو يوم العاشر، تتَّبع المجالس الحسينية تسلسلًا معينًا في الأيام لسرد أحداث المعركة.

ارتباطي بموسم عاشوراء ارتباطٌ بالطفولة، فأولى الصور الرمزية التي شاهدتها في حياتي كانت في مجالسه.

عاشوراء، هو اليوم العاشر من شهر محرم. واليوم الذي قُتل فيه حفيد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الحسين بن علي بن أبي طالب، في معركة كربلاء بالعراق عام 61 هـ على يد الدولة الأموية التي كانت تفوق جيش الحسين بالعدة والعتاد. وما يجعله يوم أسى وحزن لدى الشيعة، هي الطريقة التي قُتل بها الحسين وأنصاره.

خمسة للحسين والسادس لحبيب

تبدأ طقوس عاشوراء منذ اليوم الأول في شهر محرم، يوم وصول الحسين وأنصاره إلى أرض المعركة استعدادًا للحرب. وتستمر حتى يوم الثالث عشر من الشهر ذاته. نحيي هذه الأيام بالحداد واسترجاع أحداث المعركة بإنشاد قصائد الرثاء واللطم على الصدور، وبالطهي وتوزيع الطعام.

تحرص أمي على تذكيري أنا وأخوتي بارتداء ملابس الحداد السوداء طوال أيام عاشوراء: الطقس الأول الذي ينذر ببداية الحزن. كما تُغطَّى جدران مجالس الحسين، أو ما يسمى أيضًا بـ«غرفة الحسين» أو «المآتم»، بأقمشة سوداء ولوحات قماشية مطرزة بمشاهد تصويرية للمعركة.

ورغم مقتل الحسين وجميع أنصاره في يومٍ واحد هو يوم العاشر، تتَّبع المجالس الحسينية تسلسلًا معينًا في الأيام لسرد أحداث المعركة. ويعتمد التسلسل أبرز الشخصيات التي قاتلت إلى جانبه. كل يوم منها يحمل معنىً إنسانيًا ورجاءً خاصًا. 

لم أجد تفسيرًا واضحًا لتقسيم أيام عاشوراء على هذا النحو، لكن أعتقد حتى يُجزَّأ قراءة المقتل على أيام عاشوراء الطويلة.

في تلك الأيام أرافق أمي وخالاتي لمجالس الحسين النسائية. وهناك تدفع المُلايات الحاضرات للبكاء عبر سردهنّ للأحداث الدامية التي جرت في معركة كربلاء. 

أتذكر الطريق الرملي المشمس في القرية الذي نسلكه لأحد المجالس الحسينية. تضمُّني خالتي تحت عباءتها الواسعة كي تحميني من أشعة الشمس. وعند دخولنا نسرع أنا وبنات خالتي إلى «صبابة الحسين» التي تفترش الأرض بالقرب من باب المجلس، أمامها أباريق وأكواب المشروبات الساخنة.

في اليوم الأول لعاشوراء تحيي المجالس الحسينية ذكرى وصول الحسين مع عائلته وأصحابه لأرض المعركة، تركه للوطن وشعوره بالحنين للأرض حيث ترعرع في كنف جده النبي محمد. ثم تحيي حتى اليوم الخامس إصرار الحسين وثباته على مبادئه ولو كلفه الأمر حياته.

أما اليوم السادس فهو باسم الصحابي حبيب بن مظاهر الأسدي الذي كُتبت له الشهادة مع الحسين. ويعتقد الشيعة بأن الأسدي في الحياة العلوية هو المسؤول عن تدوين أسماء زوار قبر الحسين، لذلك يناجيه من يتمنى زيارة القبر.

ثلاثة أيام قبل الفاجعة

يحين اليوم السابع، يوم العباس. ترتدي فيه أمي عصابة الرأس الخضراء كتب عليها «يا عباس» مع صورة لكف بشرية مبتورة. يمثل العباس في هذا اليوم رمزية الأخوة والإيثار والوفاء، حيث قاتل في سبيل ثورة أخيه الحسين وفداه بنفسه.

أتذكر جيدًا ذلك المشهد الدائري الصاخب والمهيب. تقف أمي في منتصف المجلس تحمل كتاب الرثاء وحولها دائرة من النساء يلطمن على صدورهن بتناغم وبإيقاع موحد. تشبه حركتهن الطواف ويرددن بصوت واحد «يا عباس». حاولت مرة اختراق هذه الدائرة والمشاركة في اللطم، لكن النساء الطويلات لم يسمحن لي خشية أفسد عليهن هذا التدفق العاطفي.

ثم يأتي اليوم الثامن، يوم القاسم بن الحسن. اليوم الأحب إلى الصغار، يوم الحناء والشموع والملبس والفيمتو البارد. تكون طقوسه أشبه بالعرس التقليدي لاعتقاد الشيعة بأن القاسم كان يستعد للزواج قبل التحاقه بثورة عمه الحسين واستشهاده معه.

يومها تُوزَّع علينا الشموع. هي بمثابة أمنية مرتجاة من القاسم بن الحسن، وفي حال تحققت  تُشعَل الشموع في ذكراه القادمة ويوزع معها الملبَّس.

يتبعه يوم الأكبر. اليوم التاسع الذي تُسرد فيه حكاية مقتل علي بن الحسين، ابن الحسين الأكبر. تذكر الروايات أن الأكبر كان يشبه جده رسول الله، شديد الوسامة والفتوة. لذلك كان أبيه الحسين متعلقًا به، مع ذلك قدمه للشهادة في سبيل مبادئه. 

تُستحضَر هذه القصة لمواساة كلِّ من فقد ابنًا علَّها تسكِّن من آلامه. نتبادل ربط الخيوط الخضراء حول معاصمنا، وكل عقدة أمنيةٌ مضمورة مرتجاة من الأكبر. نربط الكثير من العقد علَّ إحداها تصيب.

اليوم التاسع يومٌ حزينٌ جدًا، لأنه يو مخصص لاستحضار قصة مقتل أصغر شهيد في المعركة. عبد الله الرضيع، أصغر أبناء الحسين، لم يكمل ستة أشهر من عمره وقت استشهاده. 

هو يوم رجاء لكل من استعسر عليه الإنجاب، وعادة مايُوزَّع فيه الحليب للتذكير بما حرم منه الرضيع في المعركة.

في عاشور يموت الحسين

يوم عاشور، اليوم الذي يخيم فيه الحزن على أجواء القرية. فهذا يوم الحسين! تستحضر المجالس قصة مقتله الدامية، ويصبح فيه بكاء السيدات مرعبًا وصراخهن مزلزلًا.  Click To Tweet

تبدأ طقوسه منذ الصباح الباكر، فجرت العادة أن تُسرَد قصة قِتال الحسين مع خصومه بالتفصيل حتى تحين الساعة الحادية عشر، الساعة التي يُعتقد أن الحسين قضى نحبه فيها. يعتزل الناس الضحك والابتسام ولا يتصافحون، والبعض يصوم حتى منتصف النهار. 

تصبح المدارس خاوية بتغيبنا عن الحضور في هذا اليوم، حتى الطالبات من المذهب السني يشاركننا الغياب. 

في هذا اليوم يتسابق الناس وخاصة المقتدرين من الشيعة إلى تقديم الذبائح. يُوزَّع الطعام طوال أيام العزاء، لكن الطبخ الجماعي وتقديم الذبائح بهذا الكم لا يحدث إلا يوم عاشوراء. فتعم رائحة الطبخ القرية كلها.

أيام الأخت واليتيم والدَّفن

في يوم الحادي عشر يقل عدد الحاضرات للمجالس الحسينية، لكن تصر أمي على استحضار صلابة السيدة زينب بعد مقتل أخيها، إذ لا يقل موقفها أهمية عن المبادئ التي قاتل من أجلها الحسين. أتذكر كيف توصي الملاية السيدات بأن يكنَّ بقوة زينب وعنادها وثباتها.

يوم الثاني عشر هو يوم اليتيم. تُسرد علينا قصة شتات بنات الحسين وأبنائه بعد مقتل أبيهم وترحيلهم قسرًا، وكيف تحولت حياتهم بعد وفاة أبيهم. لذلك يوصى في المجالس بضرورة رعاية الأيتام ومساندتهم. وفي اليوم الأخير، اليوم الثالث عشر، نحيي ذكرى دفن الحسين وأنصاره بعد بقائهم ثلاثة أيام في العراء.

الحزن العتيق يتجدَّد

يجدد هذا الحزن العتيق شعورًا بالحنين والأسى. وبموت خالاتي فَقَدَ عاشوراء الذي اعتدته صفحة من حكاية هائلة عشتها معهن. فيتجلى حزني عليهن مع حزن الحسين. أتذكر رفقتهن إلى مجالس الحسين، وتنازلهن عن حصتهن في الطعام لصالحي.

أتذكر إقناعهن أمي لأعود معهن إلى البيت. قبضة أيديهن على معصمي خشية أضيع أو أسقط في الطريق المتعرج. أتذكر حديثهن الممتع وأسرارهن الصغيرة. 

كيف نجد السعادة في عصرنا الحالي؟

نعيش في عالم تتوفر فيه سبل الراحة والرفاهية لإسعاد الإنسان، مع ذلك يكتنفنا الحزن والاكتئاب، ونعجز عن إيجاد سبيلنا نحو السعادة.

30 أغسطس، 2021

أقلِّب ذكرياتي فتكون ذكرى عاشوراء الأقرب لهن والأكثر دفئًا وكثافة بالأصوات والصور. توفَّيْن في أعوام متقاربة جدًا، فيأتي عاشوراء في كل عام بحزنٍ مزدوج أدرك معه كيف لحزنٍ عتيق أن يتجدد.

الإسلامالدينالشيعةالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية