الرأسمالية وتسليع المستهلك

لطالما ارتكزت الرأسمالية على وضع قيمة سلعية للأشياء، لكنها في العصر السيبراني وجدت في العلاقات الإنسانية سلعة مربحة قابلة للبيع والشراء.

مرَّت الرأسمالية بالعديد من التحولات وفقًا للمؤثرات والمتغيرات التقنية. فرأسمالية الثورة الصناعية تختلف عن رأسمالية العصر السيبراني والتي تُوصف في أحيان كثيرة بـ«الرأسمالية المتوحشة».

جاءت سمة «المتوحشة» وصفًا للتغول والاختراق الذي أصبح به النمط الإنتاجي الحديث قادرًا على تشكيل ثقافة جديدة للبشر. ثقافة تضع الاستهلاك وما يتبعه من تسليع لكل شيء في المركز، وتدفع بالعلاقات في شكلها الفطري إلى الهامش. 

العميل الذي يبيض ذهبًا 

يرى الاقتصادي الأمیرکي جيريمي رفكين في كتابه «عصر الوصول: الثقافة الجديدة للرأسمالية المفرطة» أن ما أصاب الثقافة من تحولات جديدة كابوسٌ بشري. فبعد أن صادرت الرأسمالية المظاهر المختلفة للحياة الإنسانية ودمجتها في العلاقات التجارية، أصبحت حياة الإنسان وعلاقاته السلعة الأولى في تجربة التسوق. 

ففي اقتصاد الشبكات، السريع في خطاه وتحولاته، يحتاج السوق السيبراني إلى الاحتفاظ باهتمام الزبائن والعملاء. ويتطلب ذلك التحكم بأكبر قدر من وقت الإنسان.

هكذا تحولت ثقافة السوق جذريًّا. وبدلًا من الارتكاز على السلعة التي تبيعها الشركة للإنسان، أصبح الارتكاز على تكوين علاقة شخصية بين الشركة والإنسان يكون فيها الإنسان الدجاجة التي تبيض ذهبًا.

وبدأت المؤسسات التجارية تدرس فكرة التخلي عن بيع المنتجات لأكبر عدد من الزبائن، لتركز عوضًا عن ذلك على تأسيس علاقات طويلة المدى مع كل زبون بصورة مفردة. وترتكز هذه الرؤية على إمكانية تحويل مجمل خبرات حياة الفرد إلى سلعة. ومن هنا ظهر مصطلح «القيمة العمرية للعميل» ليلعب دورًا محوريًا في ثقافة الرأسمالية الجديدة.

القيمة الاقتصادية لعمر الإنسان 

يستخدم خبراء التسويق مصطلح «القيمة العمرية للعميل» (Lifetime Value) في التأكيد على أهمية التحول من بيئة مرتبطة بالمنتَج إلى أخرى مرتبطة بالوصول. فتقل حينها أهمية التفاوض على معاملات تجارية مفردة، ويصبح الأهم تأمين علاقات تمتد عبر حياة العميل وتسليعها. ويورد رفكين في كتابه مثالاً عن التسويق عبر بناء العلاقة. 

تتفق إحدى شركات حفاضات الأطفال في الولايات المتحدة مع العميل على تزويده بكل الحفاضات التي يحتاجها طفله مقابل اشتراك. وهكذا، عوضًا عن شراء الحفاض كعملية شراء منفردة، يتاح للعميل وصول دائم إلى الحفاضات ما دام الطفل يحتاجها. بعدها تمدد الشركة الاشتراك مع العميل وتزوده بحليب الطفل وطعامه وألعابه وملابسه. 

بهذا تؤسس الشركة علاقة خدمة شاملة، وتتمكن عبر المدى العمري من إدامة تلك العلاقة ورعايتها. فتبيع لأسرة العميل ألعاب الأطفال والألبسة المدرسية وتجهيزات المدرسة ورحلات الإجازات العائلية وألعاب الفيديو. وقد تصل لاحقًا إلى تقديم الخدمات المالية للعميل في تخطيطه مقدمًا لنفقات أبنائه الجامعية.

ويمكن للشركات اليوم تحديد «القيمة العمرية للعميل» بلا عوائق. إذ تسهَّل تكنولوجيا المعلومات و«المرئيات» (Feedback Control Loops) -جمع مرئيات دائمة عن اختيارات المستهلك- وتقنية الباركود استلام الشركات معلومات محدثة عن مشتريات الزبون. فيصبح لديها منظورٌ مفصل عن أسلوب حياته واختياراته، وتتوقع رغباته المستقبلية وحاجاته. 

هكذا ترسم الشركات خارطة حملات التسويق الهادفة لاجتذاب الزبائن في علاقات تجارية طويلة الأمد. ولا شك أن هذا النوع من العلاقات يحمل الفائدة لطرف واحد وهو الشركة. فهي تعرف عن العميل أكثر بكثير مما يستطيع اكتشافه عن نفسه. 

المستهلك في دائرة الرأسمالية 

كانت تعاملات السوق المنفردة في ماضي الاقتصاد الصناعي تعطي الزبون درجة كبيرة من التحكم في قراره الاستهلاكي. أما في العصر السيبراني، يُحاصَر الزبون داخل دائرة علاقات تجارية تتضاءل فيها سيطرته على قراره. 

وتتعاظم السيطرة أكثر وأكثر مع بيع الشركات معلومات المستهلك إلى طرف ثالث يتغلغل أيضًا داخل الدائرة. وفي تناقض ساخر، تطبق الشركات الرأسمالية بمشاركتها حياة الزبون نوعًا من أنواع الشيوعية.

يحذر رفكين من خطر تحويل العلاقة الإنسانية إلى مجرد سلعة. إذ يراها مغامرة متهورة في علاقات السوق الرأسمالية، وتجعل الإنسان أسيرًا لعالم يتحكم فيه الاقتصاد على وجوده وعلاقاته. 

وما الذي سيتبقى حينها للعلاقات الطبيعية المتمثلة في القرابة والجيرة والاهتمامات الثقافية المشتركة والانتماءات الدينية؟ وكيف سيختبر الإنسان عواطفه وعلاقات الحب إذا أصبحت واجهات كينونته مجرد فعاليات مدفوعة الثمن؟

الحب في زمن التطبيقات

وصل منطق الرأسمالية الحديثة بالعلاقات البشرية إلى مرحلة «الحب السائل»، كما عنون الفيلسوف البولندي زيقمونت باومان كتابه.

تدمر تلك الحالة من السيولة ديمومة العلاقات الوجدانية وعاطفيتها. فهي تؤقتها وتقصر عمرها كأي سلعة استهلاكية تبلى مع الاستخدام وتستبدل في أسرع وقت لمواكبة السرعة التي تتغير فيها منتجات السوق. 

وفقًا لباومان، يتعرض الفضاء العاطفي الشخصي في حياة الإنسان لحملة ممنهجة من ممارسي اقتصاد السوق. إذ:

يتحتم على السوق تدمير كل أشكال العيش غير المالي ووصفها بالدونية والمملة حتى تنفِّر الإنسان منها. وتضطره حينها إلى مواجهة الاختيار بين التسوق لديها أو المعاناة من الجوع العاطفي. Click To Tweet

ويمكن رؤية تمظهرات الهجوم الاقتصادي على المجال العاطفي في التطبيقات التعارفية. إذ تقوم فلسفة تلك التطبيقات على تطوير نفسها استجابةً لحالة السيولة العاطفية التي أصبحت آفة العلاقات البشرية. 

فعالم العلاقات الافتراضية بسرعته الفائقة يجعل من غير الملزم على الإنسان التحلي بالصبر أو التضحية أو اختبار فضاء متعة الاستكشاف وإخفاقاته. إذ يتيح التطبيق للعميل خيارات مواعدة مع أشخاص مُفصلين على هواه. وإذا فشل فما عليه سوى حذف الشخص أو حظره بشكل نهائي، دون تكلُّف عناء العتاب والوداع وثقل الالتزام العاطفي. 

توحش المنفعة السوقية

هذا نمط السوق الاستهلاكية الجديدة حيث العلاقات الإنسانية متعددة وسريعة. مجرد علاقات افتراضية صالحة للاستعمال مرة واحدة قبل الاستغناء عنها واستبدالها بالخيارات المحسَّنة التي يعرضها السوق. 

وبهذا التوحُّش تهدد الرأسمالية الحديثة الطبيعة الإنسانية في العلاقات البشرية. فقد حولتها إلى سلعة، وبذا ينطبق عليها مقياس جودة السلعة. فالجيد يطرد سابقه الرديء، ولا تقاس قيمة العلاقة إلا بما تحققه من منفعة سوقيَّة. وهذا هو إنسان اقتصاد السوق المثالي.

الاستهلاكيةالرأسماليةالعلاقات الإنسانية
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية