هوس الكم في المشهد الثقافي السعودي
رغم حصول وزارة الثقافة السعودية على الدعم الملكي، لا يزال الركب الثقافي الرسمي متأخرًا عن مواكبة التطور الشبابي في منصات الإنترنت.
يعيش المجتمع السعودي منذ بدايات الألفيَّة حالةَ تشكُّل ثقافيّ جديد، لا سيما في فضاء الإنترنت. إذ تجاوز عدد المشتركين والزوّار في منصات كـ«جسد الثقافة» و«الطومار» و«الساحات» الآلاف يوميًّا. ولم تقدم هذه المنصات طرحًا عاديًّا بل ناقشت مفاهيم كُبرى كالحرية وحق تقرير المصير والوصاية الدينية والسياسية والإلحاد وسُلطة الدولة وصراعها مع المثقف وحرية تكوين الأحزاب.
وبينما كانت تلك المنصات المعنيَّة بالفكر والفلسفة والسياسة فعّالةً للغاية ونشطة، ظلت الصحف الورقيَّة غارقةً في أسئلة تبسيطية تكررت لسنوات وتجاوزها الشباب والشابات السعوديات. فتركت بذلك الفضاء الثقافي الرسمي شبه خاوٍ، وفشلت في صنع حصانة أيديولوجية وهوية وطنية للمشروع الثقافي السعودي.
فما انعكاسات هذا التطور على الحالة الثقافية الرسمية؟ وهل استطاعتْ الجهات المعنية صنع قوالبَ حاوية تستوعب المشهد بعيدًا عن الغرق في تكوين الهيئات والمكاتب والخطط الإستراتيجيَّة؟
الشغف بالقراءة
تعكس كميَّة مشتريات معارض الكُتب في الداخل السعودي الشغف الشبابي بالقراءة. فالمبيعات تصاعديَّة بشكلٍ ملحوظ وبمقتنيات نوعيَّة على مستوى المؤلفات، وتدر على دور النشر عوائدَ اقتصاديَّة كبيرة.
صحيح أنَّ العائد الاقتصادي ليس كافيًا وحده لإثبات وجود حالة ثقافيَّة، أو بالأصح حالة مِن التشكُّل الثقافي الجديد، لكن التقارير والدراسات تؤكد ذلك. فمثلًا أصدرتْ «المجلة العربية» عام 2007 دراسةً بعنوان: «مُعدلات القراءة الحُرة في المملكة العربية السعودية» كاشفةً عن أرقام صادمة.
وتعد هذه الدراسة أول دراسة وطنيَّة واسعة. إذ بلغ حجم العينة قرابة 10 آلاف مواطن. ومن أهم النتائج التي قدمتها ممارسة 78.39% من إجمالي المجتمع السعودي القراءة. وممارسة 53% القراءة الحرة على نحو مستمر كعادة يومية. كما بيَّنت أن النسبة الأكبر من القرَّاء بدأت ممارسة القراءة الحرة في سن العاشرة. فلماذا لا نلحظ انعكاس تلك الأرقام على النشاط الثقافي الرسمي؟
فشل الأندية الأدبية
في ظل تداعيات إقليميَّة عدة أبرزها أحداث «الربيع العربي» ظهرت رغبة حكومية لاحتواء المشهد الثقافي في الداخل كإجراءٍ ضمن إجراءات أخرى. وفي هذا الصدد صدر أمرٌ ملكي بدعم الأندية الأدبية في السعودية عام 2015. لكن في حقيقة الأمر لم تعالج الأندية الهاجس الثقافي الحقيقي. حتى أنَّ كثيرًا من المثقفين، كانوا يصفونها بـ«مرتع الشلليَّة».
كما تعرَّض القائمون المباشرون عليها لأسئلة قاسية للغاية، واتهامات مباشرة بالسرقة المالية في الصحف الورقيَّة الرسمية. ومن تلك الأسئلة: هل تتناسب مخرجات الأندية مع أربعين عامًا من عمرها؟ وهل تؤدي واجبها نحو الأدب ناهيك عن الثقافة؟ وهل أزمة الأندية أزمة إدارية أم فكرية؟ وأين نتاج الدعم المالي الكبير الذي تمنحه الحكومة سنويًا لها؟
تبدو الأسئلة متحاملة قليلًا لكنها تعكس حالة ملحة من التطلعات الثقافيَّة ومحاكمة علنيَّة على فشل الأندية في تقديم مشروع ثقافي يُخاطب الجميع ويصل إلى الإقليميَّة والعالميَّة. فرغم الدعم الحكومي والمادي لا تزال تُعاني من الشيخوخة في محتواها وإدارتها، ناهيك عن المحسوبيات حتّى في الأمور المتعلقة بخدمة الثقافة الوطنية. بل أصبحت بعضها، على حدّ تعبير الدكتور سعد البازعي، تُكرس للجهل والمناطقيَّة.
صعود البودكاست الثقافي
بعد انحسار مشروع الأندية الأدبية والنخب القائمة عليها، ظهر نموذج أكثر جديَّة ومتانة وتأثيرًا يتمثل في منصات «البودكاست» و«مقاطع اليوتيوب». إذ أسهمت تلك المنصات في إحداث تغيير اجتماعي سريع ومفاجئ ومخيف على نحو إيجابي، وأصبحت الصانعة للخطاب الثقافي الشعبي والفكري.
فتطرقت هذه المنصات إلى كافة الموضوعات بجرأة فائقة ومهنيَّة وبشعارات مقنعة لدى المتلقي الشاب. فمثلًا تحصد حلقة عن «ابن تيمية ونظرية التطور» أكثر من نصف مليون مشاهدة من الفئة الشبابية في الداخل وأكثر من ألفي تعليق ونقاش.
وتستعرض الكثير من قنوات اليوتيوب الإنتاج الأدبي للشباب السعودي. وتقدم قنوات سعودية مُسابقات وتوصيات ثقافية وفكرية ولها شعبية هائلة في كافة الوطن العربي مثل سامي البطاطي.
غياب المضمون في العمل المؤسسي
حقَّقت المبادرات الفردية مكاسبَ وفرضتْ نفسها على الواقع الثقافي أكثر من العمل المؤسّسي الرسمي. إذ استوعبت تلك المبادرات والنشاطات المعنى الحقيقي للعملية الثقافيَّة أكثر حتّى من الجمعيات الثقافية ذاتها. Click To Tweet
فمثلًا لم تستوعب جمعية «الثقافة والفنون» كل هذه التغيرات حتّى مع الرغبة التطويرية التي نالتها وزارة الثقافة وباهتمام مباشر من ولي العهد محمد بن سلمان. وتُعد إجابة الأستاذ سلطان البازعي في لقاء على قناة العربية حول مهام الجمعية المتوقعة مع وزارة الثقافة مؤشرًا على هذه الحالة إذ قال:
«تتمثل أولويَّات جمعية الثقافة والفنون تحقيق مطالب المجتمع والوزارة في وضع البنية التحتية وإنشاء المسارح والأكاديميات والعمل مع وزارة التعليم لتطوير مناهج الفنون في المدارس… علاوةً على عقد شراكات دوليَّة.»
رغم تجربة الأستاذ سلطان البازعي الطويلة في العمل الثقافي، تعكس إجابته غيابًا في الرؤية والمضمون. إذ تحمل إجابته هموم البنية التحتية وإنشاءات المسارح والأكاديميات والشراكات الدوليَّة، لكنها لا تتعدى الجانب الشكلي والتشغيلي من المشروع الثقافي. ولم يقدم إجابةً للسؤال الأكثر صعوبةً وأهميَّة:
ما المضمون الثقافي والفني السعودي الذي سيشغل كل هذه العمليَّات الأسمنتية؟ ما الفرص الممكنة لدينا في تحويل التركة الأدبية والفكريَّة إلى أعمال عالميَّة تحمل مقولات كونية متأسِّسة على الهويَّة الوطنية والدينية والحداثية وتخاطب الجميع؟
هل نتجه نحو فراغٍ ثقافي متأزم؟
نشر مركز «الدراسات الإستراتيجيَّة والدوليَّة»، المصنف عالميًّا كأحد أهمّ المؤسَّسات البحثيَّة حول العالم، ملفًّا مستقلًّا عن السعودية ذكر فيه: «إنَّ غياب الروابط الثقافيَّة باتت تأخذ منحىً سلبيًّا في هذا الوقت، إذ أخذ الفراغ الفردي في الصعود.»
ويتفق فيكتور فرانكل، الفيلسوف والمفكر وعالم النفس النمساوي، مع سلبية الأثرْ الذي يتركه التفكك في الروابط الثقافيَّة. فصعود الفراغ الفردي «يجعل مِن السهل استقطاب الفرد بالشعارات القوميَّة أو الدينية». ويؤكد كتاب «المؤمن الصادق: أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية» هذه الخشية.
بهذا الصدد، لا يمكن إنكار ما تفعله الجهات المعنيَّة كوزارة الثقافة السعوديَّة. إذ تشتغل على نطاقٍ واسع بدءًا بالجوانب الحرفيَّة البسيطة وانتهاءً بفضاءات أوسع. وتوضح إطلالة سريعة على حساب الوزارة في تويتر نشاطاتها أكثر من التقارير الخاصة التي تصدرها.
لكنها في السياق ذاته لم تصنع حتى الآن رؤية حقيقية فاعلة، فالوزارة يشغلها البعد الرقمي الكمي لا الكيفي. فلا نراها تعمل على مقولات خطابيَّة تَضرب في أعماق المواطن السعودي والعربي بطريقة واعية وموارِبة، مع العمل بشكل متزامن على مقولات حداثيَّة واسعة فنيًّا وثقافيًّا.
ونجد في العمل الأدبي «الحالة الحرجة للمدعو ك» للروائي السعودي الشاب عزيز محمد النموذج الناجح على قدرة وصول الأدب السعودي إلى مدى عربي وعالمي. وكذلك في رواية «هدام» للروائي فهد الفهد.
رؤية في الثقافة السعودية
ولا نريد من المشهد الثقافي السعودي أن يعج فحسب بمحاضرات عن النظرية التفكيكية لجاك دريدا وجان بول سارتر وتهويماته الوجودية وغيرها مما يدخل في نطاق البذخ الفكري. بل نريد لها أيضًا أن تعكس الهوية الثقافية المحلية.
سؤال الثقافة السعودية
لا أحاول هنا تقديمَ حُلول سريعة بقدر الإشارة إلى بعض الأزمات، والمطالبة بالبحث عن حلولٍ أكثر متانة تنسجم مع العمق التاريخي والعربي والإسلامي للسعودية.
فعدم العمل وفق إستراتيجية «البُعد الواحد» خطأٌ ثقافيٌ، والتخلِّي في الوقت نفسه عن رأس السعودية الرمزي خطأٌ آخر أكثر فداحة. فالمطلوب الموازنة بين المسارين بتقديم قراءات شموليَّة تعمل باحترافية على كافة المقولات بعيدًا عن المباشرة والنخبوية، وتحترم وعي المتلقي وتساهم في رفع ذائقته.
تُعاني الحالة الثقافيَّة في السعودية من أزمة تسويق. فلماذا مثلًا لا تُترجَم حلقات البودكاست إلى لغات عدَّة وتُرسَل إلى قوائم المهتمين البريدية بالتنسيق مع مكتب التواصل الدولي في وزارة الخارجيَّة؟ وترسل أيضًا لأقسام الدراسات الشرق أوسطيَّة في الجامعات العالميَّة بأسلوب احترافيّ دون التدخل المباشر في المحتوى.
ولماذا لا توجه الوزارة دعوات إلى أدباء ومفكرين عالميّين وتعقد لقاءات مع قرائهم الشباب في السعودية، لكن الحاصل حاليًّا استضافة الوزارة الأشخاص العاملين في القطاع الثقافي السعودي أنفسهم. وفي هذا إلغاء لمفهوم الآخر، سواء الآخر البعيد أو القريب.
ويبقى في النهاية السؤال الملح والصعب، على الأقل بالنسبة لي: إلى أين ستصل الحالة الفكريَّة والثقافيَّة في السعودية، وهل ستبقى أسيرةً لهوس الكم ومؤشرات الجودة؟