صورة الفلسطيني في السينما الصهيونية

شكلت السينما إحدى أهم أدوات السردية الصهيونية منذ النكبة وقيام الكيان الإسرائيلي، فكيف تحوَّرت صورة الفلسطيني فيها وفقًا للواقع السياسي؟

منذ النكبة وحتى اليوم اختلفت صورة الفلسطيني في السينما الصهيونية باختلاف الواقع السياسي الإسرائيلي الرسمي واختلاف أهدافه من توظيف تلك الصورة. فالسينما، كسائر أدوات الثقافة، حاولت منذ انطلاقها خدمة السلطة الصهيونية بجد وأناة. 

لا صورة للفلسطيني 

اعتمد الإنتاج الإسرائيلي من البداية على مجموعة من المخرجين والنجوم العالميين بهدف ترويج صورة سينمائية تظهر فيها إسرائيل كدولة تحررية ما بعد كولونيالية محاطة من كافة الاتجاهات بالأعداء المتربصين. والأعداء هم الفلسطينيون والعرب. لذلك شكَّلت صورة الفلسطيني والعربي في السينما الإسرائيلية عنصرًا هامًا في تعريف العالم بقضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين .

تمثلت الصورة السينمائية للعربي الفلسطيني في الموجة الأولى من الأفلام الصهيونية بالذي «لا صورة له». فالحديث عنه ضمنيٌّ وبرؤية مبتورة مشوهة وشاحبة ولا أهمية لها. «كانوا عشرة (1961)» و«الخروج (1960)» نماذجٌ على تلك الأفلام.

فمثلًا يحاكي فلم «عمود النار (1959)» نمط أفلام الغرب الأميركي. ويحكي قصة كيبوتس صغير في الجنوب يُصدم ساكنوه بمواجهة دبابات مصرية يعاونها مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين لا يظهرون بطريقة مباشرة. وتندلع المواجهة على طريقة مطاردة راعي البقر الأبيض للهندي الأحمر الهمجي.

ولم يفت على السينما الإسرائيلية صورة الفلسطيني الهمجي. إذ يُظهر الفلم الوثائقي «قصة فلسطين (1962)» العرب في أعين المهاجرين الصهاينة كقبيلة وثنية شديدة البدائية. ويعلق الراوي على جهلهم استخدام الآليات الزراعية، ويطرَح بحسرة سؤاله: «أهذه هي أرضنا المشتهاة؟» فيجيب: «لا، ما دام هؤلاء فيها

وفي فلم «لقد مشى عبر الحقول (1967)» كان لا وجود للفلسطيني أصلًا. فقدم حرب 1948 كحرب تستهدف البريطانيين حصرًا. ويروي الفلم قصة أوري، أول طفل يولد في فلسطين. يصبح محاربًا في البالماخ، سلاح العاصفة في الهاقانا، ويقع في حب فتاة مهاجرة.

سيناريو النازية والهولوكوست 

طوعت السينما الصهيونية الهولوكوست في عدائها مع العرب، وصورت العرب الفلسطينيين كنازيين. ففي فلم «الخروج»، بطولة بول نيومان، يخطط خبير نازي سادي لهجمات إجرامية سينفذها الفلسطينيون على المجتمع اليهودي. وفي فلم «لا ردَّ من التل 24 (1955)» يتبين أنَّ أحد الجنود المصريين نازي يتكلم الألمانية، ويحاول قتل الجندي الإسرائيلي الذي يحاول مداواة جراحه.

كما يربط الفلم الإسرائيلي-الإيطالي «جوديث (1966)» بشكل مباشر بين التهديد الذي يمثله الفلسطينيون وذلك الذي مثله النازيون. فتؤدي صوفيا لورين دور زوجة ضابط سابق في وحدة نازية يهربها الهاقانا إلى إسرائيل. وذلك حتى تساعد في كشف هوية زوجها الذي يساعد العرب في حرب 1948.

وركزت أفلام تلك الفترة، منها «لا رد من التل 24» و«خمسة أيام في سيناء (1968)»، على الأبطال الإسرائيليين من جيل «سابر». فهي تمهد لقصة إسرائيلي أو مجموعة من الإسرائيليين يواجهون عدوان العرب ووحشيتهم، فتمثِّل بذلك صراع إسرائيل ضد العالم العربي المحيط بها.

وبطبيعة الحال يلقى الجنود الصهاينة في كثير من تلك الأفلام حتفهم كأبطال. التي ساهمت في ترسيخ المقولة الإسرائيلية الشهيرة في خطاب السياسيين: «وهبونا في موتهم الحياة».

داوود الإسرائيلي وجالوت الفلسطيني

داوود وجالوت قصة توراتية شهيرة. ولم تتوانَ السينما الصهيونية عن إعادة قولبة القصة إلى داوود الإسرائيلي الذي يصرع جالوت العربي في أجواء الخوف الإسرائيلي من الإبادة العربية.

ويستحضر فلم «دون كيخوت وسعادية بانثة (1956)» ثيمة الخوف من الإبادة والأفعال البطولية المعجزة. فبطلا الفلم طفلان يشكلان طرفي المجتمع اليهودي. الطفل الأول دان، يهودي أشكنازي، والآخر سعادية، يهودي يمني مزراحي. وتدور الأحداث بعد أيام قليلة من إعلان قيام دولة إسرائيل واندلاع الحرب مع العرب. 

ويقدم فلم «ثمانية يتعقبون واحدًا (1964)» قصة ثمانية أطفال يفلحون في القبض على جاسوس عربي خطير استعصى على الجيش الإسرائيلي الإمساك به. وهكذا يعرض الفلمان ثيمة جديدة لصورة العربي الفلسطيني كجالوت العملاق. فالعرب كثر ودهاة وأفعالهم سبب لكل العنف الموجه لهم، مع ذلك سيهزمهم «داوود» الذي يمثله الأطفال الإسرائيليون.

ما بعد السينما الصهيونية

تسبب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 في انشقاق مجموعة تناهض الاحتلال الإسرائيلي من المثقفين المعروفين. وظهرت انعكاسات «تيار ما بعد الصهيونية» سينمائيًّا في تشكيلها صورة جديدة للفلسطيني.

لكن قبل ذيوع صيت تيار ما بعد الصهيونية، يحدثنا إيلان بابيه في كتابه «الفلسطينيون المنسيون» بوجود تيارٍّ آخر من «الصهيونية المخففة». لم يحد التيار عن السردية الكبرى للصهيونية، لكنه سمح للصوت الفلسطيني بالدخول. 

فعُرضَت على الشاشات الإسرائيلية أفلام مثل «خلف القضبان (1984)» يُصوَّر فيه الفلسطيني للمرة الأولى كشخصية شرعية لها حقوق. وتعود تلك الصورة بالطبع للتغذية المتبادلة بين التيار السياسي الجديد وصناعة السينما في إسرائيل.

وفي التسعينيات ظهر الجهد السينمائي الأكثر جرأة على يد صناع السينما ما بعد الصهيونيين، فأصبح الفلم أداتهم لإعادة النظر في الصهيونية وسردياتها. وساعد الانفتاح النسبي الذي أعقب اتفاقيات أوسلو في تهيئة الأجواء لتلك المحاولات. ساعد منطق السوق أيضًا في ظهور تلك الصورة الجديدة. فالأفلام الناقدة التي تعرض الإسرائيلي باعتباره محتلًا والفلسطيني ضحية لاقت رواجًا.

إذ شهدت المرحلة اندماجًا بين توجه متطرف من اقتصاديات السوق الحر وبروز حالة التعددية الثقافية في المجتمع الإسرائيلي.

وهكذا دفع تحول إسرائيل إلى الرأسمالية بمزيد من التحرك النقدي للسوق الثقافية المحلية حتى تُظهِر أنها ليست مجرد واجهة لأجندة مؤدلجة. ووفقًا لبيير بورديو فالمنتجات الأكاديمية والثقافية لا تمثل تحولات سياسية واجتماعية فحسب، لكنها أيضًا منتجات اقتصادية يلزمها التسويق. 

نكبة 1948 من المنظور الفلسطيني

فلم «خط النار(1989)» من الأفلام الجريئة الأولى التي تتعرض لحرب 1948 من المنظور الفلسطيني. ويعتمد الفلم على قصة حب مستحيلة بين جورج الفلسطيني ذو العاطفة والمروءة وميريام اليهودية.

وتظهر في الفلم مشاهد توثيقية هامة للعرب لدى تلقيهم قرار تقسيم فلسطين في العام 1947. وتلك كانت المرة الأولى التي يُظهر فيها فلم إسرائيلي مخاوف الطرف العربي من قرار التقسيم واقتسام الأرض مع الصهاينة.

هزيمة إسرائيل أمام السردية الفلسطينية

يعود هذا التحول إلى تغيّر في سردية القضية الفلسطينية أدى إلى خروجها من النطاق الإقليمي والديني التقليدي إلى الإنساني العالمي.

25 مايو، 2021

ويُعد المخرج إيال سيفان من الوجوه البارزة لتيار ما بعد الصهيونية داخل السينما الإسرائيلية. فصنع الكثير من الأفلام انتقدت شرعية الأساطير المؤسسة للصهيونية والهولوكوست، وأفلامًا عن الفلسطينيين أنفسهم.

ويناقش فلمه «يذُكر: عبيد الذاكرة (1991)» فكرة استخدام الهولوكوست والمبالغة في استخدامه لأغراض أيديولوجية. ويحمل الفلم جملة هامة: «أن الهولوكوست ليس شأنًا يهوديًا، فلسنا نحن من فعل ذلك، بل الألمان، ولذا فإن تلك مشكلتهم. أما الاحتلال فيجب أن يكون شأن اليهود في إسرائيل، وذلك لأن الاحتلال شرٌ من صنع أيدينا.»

وفي فلمه «يافا، ميكانيكية البرتقال (2009)» يتتبع سيفان السردية الصهيونية بعملية تفكيك متعددة الأوجه لقصة البرتقال اليافاوي. فيعرض هيمنة الصهيونية في زراعة الحمضيات في فلسطين كصراع مصغر عن الصراع في الأرض بعمومها.

وتعامل مرة أخرى مع تاريخ فلسطين في عمل مشترك مع المخرج الفلسطيني ميشيل خليفة في فلم «الطريق 181 (2001)». وناقش فيه المغالطات التي انطوى عليها قرار التقسيم الظالم في حق الفلسطينيين.

وبتعاونه مع المخرج ديفيد بنتشريت في فلم «عبر حجاب المنفى (1992)». سلط سيفان الضوء على محنة ضحايا نكبة 1948، من خلال قصة ثلاث نساء فلسطينيات من طبقات اجتماعية مختلفة. 

الصورة الصهيونية المخفَّفة

من الخطأ القول بأن التيار ما بعد الصهيوني نجح في ترسيخ صورة جديدة عن الفلسطيني في السينما الإسرائيلية، فذلك لم يحدث بالطبع. ولا يعني إنتاج أفلام على يد مخرجين بلا أجندات أيديولوجية أنها السمة المسيطرة في صناعة السينما الإسرائيلية. ففي أعقاب انتفاضة الأقصى الثانية تقهقر تيار ما بعد الصهيونية لحساب تيار الصهيونية الجديدة.

لكن على الأقل أسهم تيار ما بعد الصهيونية في ألا تعود السينما الإسرائيلية لصورتها العنصرية الفجة عن الفلسطيني أو حذفه من الذاكرة التاريخية. وما نشهده اليوم في الإنتاج السينمائي الذي يتناول العرب في إسرائيل صهيونية مخففة. 

ظهرت تلك الصهيونية الخفيفة جليّة في الفلم الإسرائيلي الأشهر الذي ترشح لجائزة أوسكار «فالس مع بشير (2008)». قدم الفلم مراجعة سينمائية لحرب 1982. كذلك في فلم «حراس البوابة (2012)» الوثائقي الذي ترشح أيضًا للأوسكار ويكشف الشر الكامن في احتلال الأراضي الفلسطينية. 

 أثار كلا الفلمين إعجاب النقاد الصهاينة ووصفوهما بالخطوة الجريئة التي تتطلب قدرًا عاليًا من الشجاعة. وصدق إيلان بابيه حين وصف هذين الفلمين بقتل الناس ثم المشي في جنازتهم.

عودة السردية الفلسطينية

ساهمت عالمية المخرجين الفلسطينيين، خاصةً من عرب الداخل، في تراجع إنتاجية الأفلام المشوهة للعرب في السينما الصهيونية. فأنتج هؤلاء المخرجون أفلامًا تحكي سرديتهم الخاصة عن القضية الفلسطينية.  Click To Tweet

وتنافس الأفلام الفلسطينية في أكبر المهرجانات رافضة التمثيل تحت اسم إسرائيل. منها أفلام المخرج هاني أبو سعد الذي ترشَّح للأوسكار بفلمه «الجنة الآن (2005)» كأفضل فلم أجنبي ممثلاً لدولة فلسطين. وأيضًا إيليا سليمان الذي نال بفلمه الأخير «لا بد أنها الجنة (2019)» جائزة مهرجان كان. 

وفي مهرجان كان الأخير قرر أبطال الفلم «فليكن صباحًا (2021)» مقاطعة الدورة اعتراضًا على فرض المهرجان تصنيف الفلم كإسرائيلي لا فلسطيني. 

وبوجود السردية الفلسطينية السينمائية على يد عرب الداخل كمنافس عالمي قوي للسردية الصهيونية، تتراجع قدرة السينما الصهيونية على تشكيل صورة الفلسطيني كما تشاء في أفلامها. 

إسرائيلالسينماالقضية الفلسطينيةالثقافةالسلطة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية