بطء نظام الحوالات المالية «سويفت» في عصر السرعة

نعيش اليوم ذروة الثورة التقنية في التواصل وقواعد البيانات، فكيف لا يزال نظام الحوالات المالية «سويفت» متخلفًا عن عصر السرعة؟

نعيشُ في زمنٍ اجتاحته التقنية السريعة وتسيطر فيه الخوارزميات على الأنظمة والصناعات. ويكفيك أن ترسل بحوالة مالية دولية إلى حساب بنكي آخر عن طريق  التطبيق المصرفي في جوالك. تعبئ أولًا البيانات المطلوبة، أهمها رقم «سويفت» الخاص بالحساب المتلقي، وتضغط على «موافق» فيصل المبلغ المطلوب. لا يتطلب إتمام العملية سوى دقائق معدودة.

للأسف ما اختبرته أبعد ما يكون عن الحقيقة. فنظام الحوالات الدولية في القطاع البنكي لا يزال متأخرًا عن ثورة التقنية. والحوالة التي ظننتَ أنها لم تأخذ سوى دقائق في ذروة عصر السرعة، تتطلب أيامًا حتى تكتمل. 

«سويفت» مجرد نظام رسائل 

يُعرَف النظام الدولي المعتمد للحوالات البنكيّة، أو ما يسمى بـ«جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك»، بالاختصار «سويفت». وتعني هذه الكلمة حرفيًّا «سريع وسلس» لكن النظام فعليًا عكس ذلك.

تستغرق الحوالة الدوليّة أيامًا لأن النظام يعتمد على رسائل بين البنوك ولا يمس المعالجة الماليّة. فالمعالجة تجري بشكل يدوي عند وصول رسالة «واتساب» للبنك (أ) بأن البنك (ب) أجرى عمليّة حوالة. أي أنَّ نظام الحوالات اليوم في حقيقته ليس نظام مدفوعات بل مجرد نظام رسائل. 

ويؤكد داڤيد شوارتز، مدير التكنولوجيا التنفيذي لشركة «رِبِل» (Ripple) المطورة لنظام مالي بديل، قِدَمَ هذا النظام. فقد اكتشف أثناء دراسته لأساسيات المدفوعات عبر الحدود أنَّ القطاع البنكي يعتمد نظام «المعالجة بالدفعات» (Batch Computing) والذي يعود تاريخه إلى ستينيات القرن الماضي

هل تحلّ «البلوك تشين» (Blockchain) المشكلة؟ 

إن أردنا نقل المال من عصر البطء إلى عصر السرعة فمن المنطقي استخدام آخر ما توصلت إليه التقنية. ويدّعي البعض أن الحل يكمن في اعتماد تقنية «البلوك تشين». فهذه التقنية لا تقلل فحسب من السلطة التي تحملها البنوك في السياسات الماليّة بل تجعل الجميع مشمولًا في النظام المالي وسياساته. فما هي «البلوك تشين»؟

فلنتخيل قرية صغيرة مغلقة بإحكام يمكن لسكانها تبادل السلع فيما بينهم فقط دون السماح بأي طرف خارج القرية بالمشاركة. هذا أقرب تشبيه لنظام «سويفت»، فهي منظومة منغلقة مكونة من البنوك والمؤسسات الماليّة فقط. الفرق الجذري بينها وبين البلوك تشين أن الأخيرة مفتوحة المصدر، ومن الممكن لأي شخص المشاركة في تشغيل الشبكة.

في حال اعتماد البلوك تشين، فالقوّة المحوسبة والموارد الكهربائيّة المطلوبة لبقاء الشبكة آمنة ومستدامة سيُزوّدها أفراد هذه القرية، والرسوم المستحقَّة من كل عملية ستُعد المحفّز المادي لهؤلاء الأفراد. لا يتسع المجال لذكر كل مزايا هذه التقنية الصاعدة، لذا سيقتصر الحديث على ما يخص تسريع الحوالات الماليّة.

ما لم يفهمه وارن بافيت عن العملات الرقمية

في مايو من عام 2019 وصف وارن بافيت أحد أغنى رجال الأعمال في العالم وأحد أهم المضاربين في البورصة في التاريخ البشري عملة البيتكوين الرقمية بأنها مجرد “صدفة”

2 فبراير، 2020

تكمن المقارنة هنا بين نظام يعتمد بشكل جوهري على إرسال الرسالة ثم تنفيذ العملية، وبين نظام يستخدم عملة رقميّة تُنقَل عبر الحدود بدقائق من مُرسِل إلى مُستقْبِل. وتجري عملية النقل تحت ظل شبكة لامركزيّة توثق هذه الحوالات وتعالجها عن طريق الاستعانة بأجهزة الأفراد المشغِّلين للشبكة.

مال سريع وآمن

نلاحظ كلما ذُكرت تقنية البلوك تشين يصاحبها مصطلح «لامركزيّة». المقصود باللامركزية عدم وجود نقطة فشل منفردة كما الحال مع نظام «سويفت» الذي سُبق اختراقه. Click To Tweet

ففي مطلع عام 2015 تمكنت مجموعة من التغلغل في نظام الاتصالات الخاص بالبنوك. فأرسلت طلب حوالة ماليّة من بنك في الإكوادور إلى بنك آخر في الولايات المتحدة. واتضَّح فيما بعد أن مبلغ 12 مليون دولار جرى تحويله إلى مصدر مجهول في هونق كونق.

لا يمكن لهذا السيناريو أن يحصل في شبكة لا تملك مركزًا رئيسًا محددًّا. وإن حاولت المجموعة ذاتها استهداف شبكة ماليّة لامركزية فأين ستكون نقطة الهجوم؟ وإذا قررت المجموعة اختراق الشبكة بالمشاركة في دعمها، واتضح لاحقًا مقصدها الإجرامي، فالشبكة مبرمجة على طرد أي عقدة (جهاز) لا ينضبط ببروتوكولات وقوانين اتفق الأغلبيّة على تحديدها.

من يتحكم بالمال؟ 

بوسعنا القول إن المال بهيئته الحاليّة تتحكم به جهتان: الأولى ذات سلطة تنفيذيّة والأخرى تشغيليَّة. إذا أخذنا عملة الدولار مثالًا، سنجد أن المسؤول عن طباعتها وقيمتها الشرائية بنك الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي). وبناءً عليه فهي الجهة المخولة بالتحكم بكميّة الدولارات التي تُضَخ في الاقتصاد. وهنا تكمن المشكلة.

فقد صرّح نيل كاشكاري، عضو مجلس الاحتياطي الفدرالي، قائلًا: «بوسعنا طباعة كمية لا محدودة من الدولارات». هذا التصريح أقرب ما يكون لاعتراف مباشر بافتقار النظام إلى معايير واضحة لضخ الأموال في السوق، مما يهدد بضعف القيمة الشرائية للعملة الورقيّة.

وبلغ هذا الضعف أشد حالاته مع وباء كورونا المستجد. فقد أُعلِنَ في يونيو من العام الجاري 2021 أن نسبة التضخم في الولايات المتحدة لامست الـ5%، في ارتفاع غير مسبوق منذ ثلاثة عشر عامًا. 

بلا شك أنَّ أحد أسباب ارتفاع مؤشر التضخم بهذا الشكل الدراماتيكي هو تداعيات وباء كورونا. ففي محاولة الحكومة الأميركية تخفيف العبء الاقتصادي على مواطنيها، قرر مجلس الشيوخ الأميركي الموافقة على نظام «شيكات التحفيز». ويستدعي هذا النظام إيداع مبلغ 1400 دولار لكل مواطن أميركي بغية سد حاجة الشعب في ظل الإغلاق الكلي للبلاد. 

هكذا بلغت عدد الدولارات التي وُزعت ما يقارب 386 مليار دولار، واتضح هذا العالم مآل هذه القرارات. إذ تعود 22% من كمية الدولارات التي ضُخَّت في الاقتصاد منذ ظهور العملة إلى طباعة عام 2020-2021

ونستطيع التحقق من هذا الأمر بالتمعّن في مؤشر كمية الأموال لـ«قاعدة البيانات الاقتصادية للاحتياطي الفدرالي» (FRED) المذكور في تقاريرها ربع السنوية. إذ سنجد في تقريرها بداية العام 2021 قفزة فريدة بداية شهر مارس 2020 في كمية الدولارات المطبوعة.

الجدير بالذكر أن «قاعدة البيانات الاقتصادية للاحتياطي الفدرالي» قررت نهاية شهر فبراير 2021 إيقاف تحديث هذا المؤشر، بعد أن ظلَّ معلنًا منذ عام 1980.

التطور نحو رصيد فعليّ 

تضمُّ السلطة التشغيلية للمال جميع مقدمي الخدمات الماليّة من البنوك التقليديّة إلى خدمات التكنولوجيا الماليّة (FinTech). وهؤلاء جميعًا هم من يُظهرون لنا أرصدةً على حساباتنا البنكيّة دون قدرتنا على التحقق من الوجود الفعلي لهذه الأموال. 

لقد اعتدنا في تعاملاتنا اليومية على وصول الرسائل النصية تنبئنا بحركة الرصيد فورًا مع كل عملية دفع واستلام، فنظن أنفسنا مطَّلعين حقًّا على الحركة الفعلية لأموالنا. لكن فلنتذكر هنا صدمة المواطنين اليونانيين عام 2008

فهم أيضًا كانوا يرون أموالهم بلا نقصان على شاشات الصرافات الآلية، ليتضح لهم لاحقًا أنها «للنظر فقط». وما لبثوا أن اصطفوا في طوابير أمام أبواب البنوك مطالبين بأموالهم الحقيقية بعد اكتشافهم أنَّها ما كانت سوى أرقام على الشاشات. 

لهذا لا بد من البحث عن بديل لتسريع معالجة المدفوعات عبر الحدود بحيث تُعالَج الحوالات المالية فورًا لا على مدى أيام. وبرأيي فتقنية سلسلة الكتل لن تُدخل السرعة فقط في عالم المال، بل ستدخل أيضًا الأمان والديموقراطيّة، بحيث لا يُتخذ قرار إلا بموافقة الأغلبيّة. هكذا يصبح المال سريع التحويل وآمنًا وملكًا للجميع، وتحت تصرّف الجميع.

التقنية الماليةالمستقبلالنظام البنكيالرأسمالية
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية