بناء الصداقات بعد الثلاثين

ينتظرني الاحتفال بيوم ميلادي الأربعين، فيخطر لي السؤال عن كل الصداقات التي عشتها في حياتي، أين اختفت وكيف أحاول بناء صداقات من جديد.

كنا انتقلنا من مدينة لأخرى وأنا في عمر الثالثة تقريبًا، فأطلقتُ أسماء قريباتي اللاتي تركتهن ورائي على كراسي طاولة الطعام. وهناك على الطاولة قضيت الساعات يوميًا في اللعب معهن ورواية القصص عليهن في انتظار خروجي إلى العالم.

وها أنا اليوم في العالم، أعيش مرحلة جوهرية ومستقرة اتضحت معها حاجتي الحقيقية من العلاقات والأشخاص. إذ يدفعني هذا الهدوء الذي يلفّ ثلاثينياتي للتفكير جديًا بصخب الطفولة والمراهقة والعشرينيات فأتساءل: أين طارت كل الصداقات التي بنيتها في تلك المراحل الثلاث ولماذا تسربت من حياتي؟

أمرر يدي على ذاكرتي المكتوبة وأجد اثنتين من صديقات الطفولة صمدتا في وجه هذا الإعصار، نحن الثلاثة صمدنا أمامه. معهما أتحقق من كل شيء جيّد فعلته لأجل الصداقة، ومعهما أستعيد نفسي كل مرة نجلس فيها لنتحادث.

لكن رغم وجودهما في حياتي، يهمني الاستمرار في تكوين الصداقات حتى وإن كانت قابلة للتطاير أو الانهيار أية لحظة. فالصداقات الجديدة تعني بقائي على اتصال بالإنسانية، ها أنا موجودة ولا أزال قادرة على التفاعل مع الآخرين.

 لكن لماذا أصبح الأمر صعبًا بعد الثلاثين؟

عصر الصداقة الذهبي 

 تلقيت منذ صغري تمارين مكثفة في بناء العلاقات الإنسانية. ففي عشر سنوات نقلت عائلتي مسكنها ست مرّات ومعها تنقَّلتُ بين بيوت ومدارس مختلفة. ومع كل انتقال وجدتني أشرع في بناء علاقاتي من الصفر، أولًا أتعرف على المكان ثم الجيران ثم الصديقات.

بالنسبة لي وللكثير ممن في عمري، نساءً ورجالًا، فمرحلة التعليم العام كانت المرحلة الذهبية لتكوين الصداقات. كنت أتجول في ممرات المدرسة وألقي التحية على العشرات من الصديقات.

ولا أزال أذكر كيف أصرَّت إحداهن على ضرورة التمييز: «لا نعد كل هؤلاء أصدقاء، يجب أن تفرقي يا هيفا بين الزميلات والصديقات.» ولفترة من حياتي أشكل المفهوم عليّ حتى تحققت منه بنفسي مع التجارب والانتقال بين العلاقات، واكتشافي امتداداتها وتعريفاتها الحقيقية.

فمع ارتقائنا إلى مرحلة الدراسة الجامعية تغيرت التفاعلات بيني وبين رفيقات المرحلة المدرسية وانحصرنا في قوالب محددة ومتباعدة. مثلهن ارتبطت بزميلات التخصص أكثر كوننا نتشارك ساعات المحاضرات، وبالضرورة الاهتمامات الأكاديمية ذاتها. حتى أوقات فراغنا توافقت حسب صعوبة جدول التخصص وأيامه الخفيفة.

لا أذكر خروجي كثيرًا للقاء زميلاتي بعد ساعات الجامعة. عوضًا عن ذلك كنا نقضي فترات الاستراحة المتكررة خلال يومنا الجامعي في سرد القصص وتأمُّل المارة.

تلك كانت أطول فترة شعرت فيها بالانفصال بين حياتي الشخصية وحياتي خارج المنزل. لم أشترك مع صديقاتي الجدد في أي من الاهتمامات الفردية. فهن لا يفضلن القراءة أو الكتابة أو محادثة الغرباء على شبكة الإنترنت الجديدة. مع ذلك وجدتني سعيدة ومكتفية بهن ورأيت نفسي أنضج بصحبتهن.

إيقاد شعلة الحماس

إن كنت سأرسم خريطة مفصَّلة لحياتي، فأواخر العشرينيات من عمري مرحلة انطفاء الصداقات. فبعد الجامعة كثيرٌ من الصديقات انتقلن إلى تكوين أسرهنَّ الخاصة ومنهن من سافرت للدراسة خارجًا.

مع السنوات أصبح التواصل معهن أصعب من بناء صداقة جديدة. ولاحقًا مع انطلاقنا معًا في سوق العمل واكتشاف الحياة، استحالت الصداقة بيننا شيئًا من الكماليات. فلدينا ما يكفينا من الالتزامات المهنية والاجتماعية، وإضافة اجتماع مع الصديقات من حياة سابقة هنا وهناك ما عاد مناسبًا.

مع ذلك دائمًا ما انتابني جوعٌ لا نهائي لرفقة الصديقات والاستئناس بهن في كل حين. فوفقًا للدراسات التي قرأتها آنذاك فحاجتي الفطرية للانخراط في المساعدة ورعاية الآخرين تمنحني الهدوء والقبول والثقة. لكن رغم توقي لبناء صداقة فاختياراتي سرعان ما كانت تتهاوى عند أصغر وأسهل منعطف.

فكيف تمكنت إذن من بناء صداقاتي من جديد؟

إحدى الخطوات التي اتخذتها خلال السنوات القليلة الماضية، ودعمت محاولاتي بناء صداقات، تتمثل في تجربتي أشياء جديدة. فأنا لدي هوايات ثابتة وأنشطة لا أغيرها مهما كانت الظروف، لكن الحماس المنبثق عن خوض التجارب الجديدة دفعني للقاء كثير من السيدات الرائعات والانضمام لمجتمعاتهن المتنوعة. أحيانًا يكنَّ كاتبات وأحيانًا فنانات أو هاويات للحرف اليدوية. أو ببساطة يجمعني بهن فضول البحث عن اهتمامات جديدة.

لم يكن ثمة دافع للاستعجال في صداقاتي الجديدة، حتى لو جمعتني بها اهتمامات كثيرة أو تشابهت رغباتنا في الحياة. بل لربما أجد في كل شيء دافعًا لتوطيد العلاقة معها لكني لا أشاركها مثلًا تفاصيل خاصة جدًا في مرحلة مبكرة.

ما يحدث حقًا في أحيان كثيرة أني أعكس تفاعل الشخص معي وأطبقه في تعاملي معه. وفي بداية الصداقة لا شيء بالتأكيد يدفعني للبوح بقصتي كاملة أو معلوماتي لشخص آخر لا يهتم بمعرفتها.

صداقةٌ مستدامة قدر الإمكان 

حتى أحافظ على صداقة جديدة لوقت أطول وتصبح علاقة صحية وممتدة جيدة لي ولصديقتي، آخذ في الحسبان الاستدامة وتقبل الاختلافات. فكل منا لها احتياجاتها الخاصة وطرقها التي تعبر بها عن اهتمامها وقربها.

لدي صديقات ألتقي بهن سنويًّا أو مرة كل عدة سنوات ولا يؤثر أبدًا بشكل سلبي علينا. وبالمقابل لدي صديقات أحتاج دائمًا إلى قربهن والالتقاء بهن لأكثر من مرة في الأسبوع على فترات متنوعة من حياتنا.

بالطبع لا تنقص وتيرة اللقاء من قدر أي صداقة أو أثرها وأهميتها في نفسي. هي وحسب الوتيرة التي أجدها الأمثل في التواصل بيني وبين كل صديقة من صديقاتي.

ومثلما عرَّفني تكوين الصداقات الجديدة على أناس آخرين، عرَّفني أكثر على شخصيتي. ما الذي أحبه وما الذي أكرهه؟ ما أساليب التعلق لدي؟ وكيف يمكنني تهدئة نفسي متى ازدحمت جداول صديقاتي جميعهن بالفعاليات وفي وقتٍ واحد. هكذا تعلمتُ مرافقة نفسي في رحلات التسوق، والانطلاق وحدي في رحلات السفر. 

كما تعلَّمت الوقوف على مسافة صحية بيني وبين صديقاتي واكتشاف طرق التواصل المختلفة معهن. وكيف أمنح كل صديقة ما تحتاجه مني وأحيانًا أكثر.

البحث بأسلوب المواعدة!

قبل عدة سنوات قرأت عن بودكاست «Call Your Girlfriend»، تقدمه مجموعة من السيدات ويهتم بالصداقات النسائية وكل ما يخص هذه العلاقة الهامة في حياة المرأة. ووصفت مقدمة البودكاست البحث عن صديقات بعد عمر الثلاثين بأمر يشبه المواعدة! نلتقي بالصديقات الجدد ونقدم أفضل ما لدينا ونتمنى اتفاق شخصياتنا والبدء بعلاقة صحية ومثرية. 

هادئة أخطو نحو الأربعين: قصاصات امرأة عزباء

كل مرة أفكر فيها بالكتابة عن عزوبيتي، يغمرني الحماس وأنطلق ثم فجأة يخبو تحمسي ويختفي. كما لو كنت ممسكة بكرة زجاجية ملأى بالقصاصات، أهزها بقوة

8 مارس، 2021

ومن هناك بدأتُ التفكير بطريقة مختلفة. ف:

كون إحداهن صديقتي المقربة لا يعني اتفاقها معي دائمًا، ولا يعني حتمًا تشارك الاهتمامات نفسها وكأننا خُبزنا في صينية كعك واحدة. Click To Tweet

فالتمايز الصحي بيننا يعطينا مساحات للتنفس واكتشاف مزيد من الأصدقاء والعلاقات، ويمنحنا التخفف من ثقل التعلق المرضي.

وقد اختبرت أسلوب المواعدة في بناء الصداقات، وإن بعفوية وبطرق مختلفة. أذكر بالذات تلك المرة التي اختبرتها على شكل دعوة للقهوة مع صديقة مقربة كانت صحبت معها صديقة أخرى. فما حصل لاحقًا أدهشني، إذ أصبحت هذه الصديقة التي التقيت بها بعد تردد أقرب إليَّ مع الوقت. واكتشفنا الكثير من القصص والدوائر الاجتماعية التي تربطنا دون إدراكنا المسبق. 

كذلك يهيئ مجال عملي وتواصلي مع القارئات والحاضرات في الورش التي أقدّمها إلى استلامي دعوات لطيفة للخروج برفقتهن أو زيارتهن. وهو ما تعلمت اعتياده مع مرور السنوات. فأصبحت أستغل الوقت والفرص الجيدة للتواجد مع من تجمعني بهن «بعض» الاهتمامات المشتركة. حتى إن لم تؤدِّ كل تلك الفرص إلى بناء صداقات حقيقية في المستقبل.

أربعون شمعة تنتظر 

يخطر لي أحيانًا خاطرٌ مضحك أتخيل فيه وليمة عشاء ضخمة أجمع فيها كل صديقاتي اللاتي أحتفي بمعرفتهن حول طاولةٍ واحدة. سيكون الوضع كارثيًّا! إذ أدرك يقينًا أنهن لن يتفقن على أي شيء حتى لو كنَّ يتشاركن الدوائر الاجتماعية نفسها. فالأمر يشبه مزج المركبات الكيميائية المختلفة حيث أكون إما المادة المحفزة للتفاعل بينهن أو فتيل القنبلة!

وها ذاكرتي تعود من جديد للوراء وتعرض عليَّ يوم ميلادي الثلاثين كأني عشته الأمس. صديقاتي مجتمعات في صالون منزلنا وكلّ منهن جهزت كعكة احتفالية ملونة. والآن فقط تنبَّهتُ أنَّ بوجودي في مدينة جديدة وممارستي حياةً أخرى فصديقاتي لن يكن حاضرات في احتفالي بعامي الأربعين. أصلًا ما عدنا صديقات. 

هكذا بكل بساطة تنساب الصداقات من حياتنا. لكن الصورة الأجمل لم تتغير. فهذا العام سأكون محاطة بصداقات أخرى بنيتها، صديقات جدد قد لا يُجِدْن خبز الكعك لكنهن بارعات في منح الحب والاهتمام.

الحياةالصداقةالعلاقات الإنسانيةالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية