تأملات في الضجيج والسكون برفقة «ديفيد هنري»
نتناول الضجيج كونه أحد الظواهر السلبية لحياة إنسان المدينة، لكن لطالما كان الضجيج الصوت المرافق للإنسان مذ عصر الكهوف الأولى.
انتقلت مؤخرًا إلى سكن منفرد خاص، الغرف أكثر من حاجتي نسبيًّا، لكنني من خلال الفراغ الأوليّ للمكان اكتشفت علاقة جديدة لي مع الصوت.
ففي مرحلة سابقة كنت أتجنب أي مثيرات صوتية بشرية على مقربة مني أثناء العمل أو الكتابة. أنظر لفكرة الصوت والضجيج الصادر عنه باعتباره ما يرتبط بالصوت البشري، النبرة الخارجية التي تبتر الصوت الداخلي المستغرق فيّ. لكنني الآن أتعامل مع الأصوات المحيطة بشكل مختلف. ففي حقيقة الأمر، الصمت التام، السكوني، قد يكون مجرد وهم.
تساؤلات الضجيج
أتأمل ذلك كلما قطعت هذه الأفكار أصواتٌ عابرة كانت دائمًا موجودة فيما سبق، لكنني تعاملت معها باعتبارها خارج النطاق الصوتي للضجيج الذي من شأنه بتر استغراقي في الفكرة. أتحدث هنا مثالًا عن مواء قطط الشارع الصاخب، حفيف شجر يطرق على زجاج النافذة، جوقة من الطيور في حركات الرفرفة المنفعلة، والأصوات التي تتكثف بصخب هذه الطيور أول النهار وآخره.
ثم تأتي أصوات المركبات العابرة بسرعة، صرير التوقف المفاجىء لمركبة أحدهم على الطريق وما شابه. كلها أصوات كنت فيما سبق أضمها لحالتي السكونية، لكن هل يكون هذا البعد الأقصى للصمت والسكون الذي قد أحظى به اليوم، أيكون هذا سكون المدينة؟
أول ما قد يتبادر إلى الذهن عندما نشير إلى مدن العالم اليوم الضجيجُ بمفهومه العام، الصوتي والبصري وحتى الذهني. وعلى هذا الأساس نتناول الضجيج بكونه أحد الظواهر السلبية في حياة إنسان المدينة.
لكن من هنا قد نتطرق لسؤال آخر: هل هذا الأمر المرتبط بالضجيج جديدٌ فعليًّا؟ هل هو من إفرازات المدن الجديدة، المركبة والعشوائية والمزدحمة؟ وما تعريف الضجيج فعليًّا، هل هو الصوت المرتبط بالبشري فقط، أم يتجاوزه في جذوره ليكون أكبر بكثير؟ وهل الضجيج باعتباره شكلًا من أشكال الصوت ظاهرةٌ سلبية دائمًا؟
رافقني ديفيد هندي بكتابه الذي يحمل عنوان «الضجيج، تاريخٌ إنساني للصوت والإصغاء» لنتأمل معًا في هذه الأسئلة وفكرة الصوت. فالكتاب الصادر من مشروع كلمة للترجمة عام 2016، بترجمة بندر محمد الحربي، أحد الكتب التي شعرت أنها وجدتني في وقت ملائم تمامًا للتأمل في أسئلة مرحلية.
والسؤال هنا فكرة الصوت، بكامل ما يحويه من انبساط وتعقيد في الآن ذاته، وبما يجعله يتموضع في أبعاد تفوق تلك الفيزيائية منها إلى التأثير الاجتماعي والسياسي بل وحتى الاقتصادي.
أصل الصوت
يعود هندي بالصوت إلى أول ارتداداته في التاريخ، حيث الكهوف الأولى. وكيف كان أول ضجيج اكتشفه الإنسان، بالمفهوم العام للضجيج، الجسر الأول الذي حاول من خلاله التعرف بعلاقته مع البيئة المحيطة به، والآخر المحيط به أيضًا. ففي تحركاته داخل الكهوف القديمة وتجويفاتها كان يكتشف كيف تجد كل خطوة له وكل نبرة إرتداداتها في الصدى المتكون في تلك التجاويف، وكيف تتقاطع مع أصوات الطبيعة بالخارج.
من هنا حاول البدائي تتبع مكان الصوت في الكهف أو موضع الصدى المرتد، راسمًا ما يتوازى به ذلك الصوت مع البيئة المحيطة، سواء من رفرفة تصيِّر الرسومات لطائر ما، أو نغمة صوتية تشبه صوتًا معينًا لكائن في الخارج. فجاءت هذه الرسومات البدائية بوابة التوثيق الأولى التي صنعها الضجيج الصوتي، الذي لم يأتِ ليبتر بل ليبني.
ويتطور الأمر لاحقًا، ونحن نتحدث هنا عن مناطق تاريخية تمتد لما يزيد عن العشرين ألف عامًا قبل الميلاد، إلى خلق الرموز الصوتية من خلال الآلات الصوتية التي صنعها الإنسان. معبِّرًا عن أول رموز صوتية للتواصل، في طريقه لمد جسر صوتي كلامي للتوصيل بعيد المدى من خلال الصوت الرمزي، إذ كل ضجة كانت تحمل في طيِّها معنىً.
تنويعات الضجيج الموسيقيَّة
في 2018، نظمت مؤسسة الشارقة للفنون تجربة استماع للأصوات وتراكيبها، وعمل عليها المؤلف الموسيقي ديفيد هاريقنتون. استعدتُ هذه التجربة الغريبة عليّ نسبيًّا في آنها وأنا أقرأ كتاب الضجيج، إذ توقعت أثناء جلسة الاستماع تلك التعرف على نوتات موسيقية وتنويعات ألفها هارنقتون. لكن وجدتني أمام خلاصة إلهام الفنان الصوتية لتجربة فرقته «كرونوس كوارتزيت» التي امتدت على أربعة عقود دار فيها العالم من ضجته المدينية حتى ضجته المصنعة.
كانت أصواتًا من تنويعات الطبيعة الخالصة أحيانًا، كأزيز الحشرات الدقيقة الذي كان تكثيفه أثناء الاستماع، رغم الضجيج المزعج، يحمل في طياته نغمة موسيقية قاربها هارنقتون مع فكرة في ذهنه ليؤلف مقطوعة خاصة به. مرورًا بأصوات كلاب الهاسكي مثلًا في القطب الشمالي، والتناغم الفريد فيما بينها مع الطبيعة السكونية المحيطة والمتجمدة، وكيف شكلت دفقًا حارًا وسط الجليد أوحى له بمقطوعة أخرى.
ماذا يقول لنا التغير المناخي عن أصوات الطبيعة؟
وغيرها الكثير من الأصوات كضجة صوتية في مقهى لم يدرك هارنقتون لغة رواده في اليابان مثلًا، لكنه اقتنص نبرة من اللغة الضاجة في وقتها لتوحي له بمقطوعة موسيقية باستخدام آلة الكوتو اليابانية التقليدية.
كان من المثير لدى استماعنا للضجيج المجرد، الذي كان يبتر سكوننا، الشعور كمن ينصت بتمعن لمقطوعة موسيقية فعلية. جلست بمحاذاتي سيدة تغمض عينيها كلما انطلق الصوت، وتبدو كمن يستمع فعلًا لأوركيسترا حية بنشوة. التقطتُ عدة صور لها، لكنها كانت دائمًا مهتزة بحيث تجعلها تبدو كشخصين، أحدهما يخرج من جسد الآخر.
لاحقًا وأنا أتأمل الصور، وجدتني أرد الأمر للفنون التي تخرج الجوهر من الإنسان وهو في حالة نشوة. وكان الفن هنا صوتُ الضجيج الذي يخترق السكون، ليُلهم هارنقتون ويُدخِل هذه الغريبة في حالة من الإنصات المنتشي في تقاطع خلاب.
الصوت خارجًا من البحر
في موضع آخر، أذكر أنني في خضم استماعي لمقابلة مع الفنان الكويتي عوض الدوخي أجراها معه صقر الرشود في السبعينيات، سمعته يتحدث في أجزاء وافرة منها عن تجربته كبحار مراهق في أواخر أيام الغوص في منطقة الخليج العربية. التجربة التي اكتشف منها المدى الصوتي الخاص به.
كان ذلك من خلال ما يكسر به البحارة، بقيادة النهام على السفينة، سكون البحر والمجهول المخيف. بما يرددونه من أهازيج على طبقات صوتية متنوعة، منبسطة وعالية في أغلبها، في مواجهة ذلك المدى الأزرق اللامتناهي. وعميقة في أحيان أخرى لكأنها من خلال القرار الصوتي تحاول أيضًا سبر العمق المحيط بهم قبل نزول الغاصة بحثًا عن اللؤلؤ والرزق. كل ذلك مع آلات قادمة في أصلها الصوتي من زنجبار وما حولها في رمزيات تعيدنا لإنسان الصوت والكهف الأول وترميزاته.
فالمستمع لتلك التجربة دون دراية بها سيرى ضجيجًا صوتيًّا في نقطة من مياه الخليج. لكن للدوخي كان ذلك الضجيج مدرسة موسيقية متكاملة صنعته وألهمته ومنحته ذلك المدى الصوتي الأصيل الذي يعبِّر عن إنسان المكان من خلال ما يصنعه من ضجيج.
طبقات الضجيج الاجتماعية
نعود الآن إلى ضجيج المدن اليوم وكيف أنه من صنع العولمة الحديثة، كما نعتقد. لكن يأخذنا هندي في التاريخ إلى ما يسبق الألفين عامًا قبل الميلاد، إلى روما تحديدًا حيث ضجيج المدينة لا يختلف عن أي ضجيج معاصر، بصخب الأصوات وتداخلها مع النبرات، العالية والخفيضة. وكيف صنع الضجيج وتباينه الاجتماعي بعدًا للطبقات.
فالطبقات الدنيا أكثر صخبًا في مناطق معينة من المدينة، بينما تنأى الطبقات العليا بنفسها عن الصخب فيما خلا ما تحتاجه منه لتوجيه الجموع الدنيا والسيطرة عليها. تمامًا كما كان يحدث في عروض الكولوسيوم وما يثيره ضجيج العروض من حماسة ينسجم معها العامة، أو الخطابات الإمبراطورية التي كانت تأمر وتوجه بالجزل الصادح من العبارات.
أتذكر عندما زرت الكولوسيوم الساكن والمفرغ تمامًا من ضجيج الهتافات القديمة والدماء وصراعات «الجلاديتورز» شعرت بأنني أعيش صخبًا تاريخيًّا. وتعود ذاكرتي لصناعة المشهد المتخيل فتعود الضجة الموثقة لكأنها تنطلق من أحجار مدرج الكولوسيوم، لكأنها حفظت فيه للأبد، بضجيجها الذي يوثق أكثر مما يشتت كما المتعارف عن معنى الضجيج اليوم.
للضجيج الاحتجاجي معناه البليغ أيضًا. عدا عن كونه لوثات صوتية، يتلخص هذا الأمر بتلك الاحتجاجات الضاجة التي تأتي من عمق القرون الوسطى، في المظاهر التي تعبر عن صخب رافض لوضع معين أو محاولة لكسر سلطة دينية أو سياسية و للتمرد عليها. الأمر الذي سرى بضجيجه حتى عصرنا الحديث مارًّا بحركات التحرر الكبرى كحركة العبيد التحررية في أميركا مثلًا، وما أفرزته من تنوع صوتي أدى لموسيقى خاصة.
فلا زالت التظاهرات الضاجة أحد أكثر أشكال الضجيج بمفهومه المتمرد بلاغةً. الهتافات الرافضة العالية التي تجسد في كثير من مدن العالم اليوم شكلًا من أشكال حرية التعبير، ولا زالت في مدن أخرى منه موضع مساءلة.
يشرح هندي هذه الظاهرة بما عُرِف عن محاولات تقييد الصوت والسيطرة عليه من طبقة عليا على طبقة دنيا. ما يبقي السؤال مطروحًا دائمًا: هل الضجيج الاحتجاجي شكلٌ من أشكال التلوث الصوتي فعلًا، بمفهوم المدن الحديثة؟
الضجيج كاستحواذٍ استعماريّ
المغزى التمردي للضجيج قابلته محاولاتٌ للسيطرة، ليأتي الضجيج أيضًا بمفهومه الاستحواذي. فيقابل بالصخب التنظيمي الضجيجَ الأول بوصفه أحد أشكال التلوث الصوتي العشوائية في الاحتجاج.
يأخذنا هندي هنا إلى المستعمرات قبل قرابة مائتي عام ومحاولات ترويض الأصوات الرمزية والاحتجاجية في المناطق الجديدة من خلال آلات تصدر ضجيجًا منظمًا. ضجيجٌ قصده الاستحواذ والإخضاع بحدته وغرابته معًا بالنسبة للسكان الأصليين. مثالٌ على ذلك النفخ في الأبواق وقرع الطبول المارشالية وإطلاق رصاص البنادق في الهواء، ضجيجٌ مربك يراد له أن يكون وعاءً يحوي الأصوات التقليدية في المكان.
أو لكأنَّ المستعمر يحاول بدوره استعمار الصوت كما الحال مع المكان الجغرافي. ولعل يرينا هذا التشريح كيف للصوت في أي مكان ضجيجٌ خلاق يجسد هوية المكان، فصار من الضروري للمستعمر الإطاحة به كما أطاح بالأصوات الأخرى.
هنا يتحول الضجيج إلى قيد، سجن، اختناق. يشبه إلى حد كبير ما نفكر به عندما نتذكر الصراخ. صراخ أحدهم بنا ليشل حركتنا، يجمدنا، ويعود بنا إلى شكل الضجيج المؤذي.
المدينة الضاجَّة ودلالاتها
منذ الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر، بدأت الإشارة إلى فوضى الأصوات. إلى الضجيج بمفهومه الحالي حيث تخترق الآلة الواقع السكوني لإنسان الريف أو الساحل أو الصحراء. أصواتٌ صادمة ومتنوعة وطاحنة هي شكل المدينة الجديدة.
ولعل هذا التداخل الصوتي يكشف في باطنه تسارع شكل الحياة نفسها، ووتيرة الإنسان، إنسان المدينة، الذي شكَّل في جزء كبير منه الطبقة العاملة التي يضيع صوتها وسط صخب الآلات.
لكننا عندما نتأمل هذا الضجيج القاتل، بدلالته المزعجة، لا نستطيع تجاهل آلات صهر الحديد والقطارات بسككها وضجيجها كاختراعات ضاجة مدنية. يقابلها ضجيجٌ من نوع آخر كالصوت المتضخم لصوت دقات القلب عن طريق سماعة القلب التي اخترعت في الفترة ذاتها. تلتها سلسلة من الاختراعات الطبية والفيزيائية التي جعلت الصوت بحيزه الضاج يساهم في استمرارية الحضارة البشرية بإطالة عمر مكونها الرئيس، الكائن البشري.
من هنا يأتي الضجيج ليعطينا تلك الصورة المتقابلة المربكة التي لا زالت تحكم علاقتنا فيه حتى اليوم. فمن ناحية نحن لا زلنا نربطه بصورة العمال المسحوقين تحت ضجيج الآلة التي أتت بأجيال مشوشة سمعيًّا. ومن جانب آخر، نتسامح مع ضجيج المستشفيات والمعامل لأنها تكرس لإنسان أطول عمرًا وأكثر صحة وأقدر على التحليل والاستنتاج وخلق الأجوبة.
نحن لا نكون وحيدين أبدًا في هذا العصر الضاج، ولا يكاد لنا أن نكون في حالة سكونية تامة بالمعنى الحقيقي. لكن الأمر ليس مرتبطًا بطبيعة المدينة اليوم فقط، فهذا الكوكب ضجيجٌ حيوي تاريخي ونسبي في الوقت ذاته. Click To Tweet
هذا ما يؤكده ديفيد هندي في خاتمة كتابه التي أعادت إلى ذهني مقتطعًا من رواية «الحديقة» لمارغريت دوراس، قائمة على حوارٍ خافت بين غريب وغريبة في حديقة باريسية صاخبة في منتصف القرن الماضي، يقول فيه أحدهما للآخر:
«ليس المرء وحيدًا على الدوام كما تعرفين، أعني أن المرء إذا ما كان وحيدًا تمامًا فقد يصاب بالجنون. كلا فهناك الأصوات، أصوات الزوارق وقطارات يملؤها الناس الذين يتأملون ويتطلعون، وإذا ما أحس المرء بأنه سيصاب بالجنون، فهناك دائمًا صوتٌ ما يدفعه إلى عكس ذلك.»