بين العراق ولبنان، من سينتصر في مسلسل اغتيال الناشطين؟

يشهد العراق مسلسلًا دمويًّا من اغتيال الناشطين، ما يأخذنا إلى مسلسلٍ مشابه وقع في لبنان قبل ثلاثين عامًا ولم يتوقف تمامًا حتى اليوم.

مذ أكثر من أربعة أشهر، في الرابع من فبراير تحديدًا، اُغتيلَ لقمان سليم في مناطق نفوذ حزب الله في الجنوب. الجريمة التي هزت الأوساط اللبنانية المناهضة لحزب الله ومشروعه في لبنان، جعلت بعضهم يتكهن بأن هذا الاغتيال -الآتي بعد انقطاع- فاتحةُ مسلسل اغتيالات دمويّ وجديد يستهدف معارضي حزب الله، خاصة من أبناء المجتمع الشيعي. حتى أنَّ أسماءً مرشحة جرى تداولها عن هوية الضحية القادمة.

من دواعي الارتياح أن هذا التكهن لا يبدو مصيبًا، على الأقل حتى الآن، مع ذلك لا يبدو بعيدًا عن المنطق نظرًا إلى تاريخ حزب الله وعلاقته ببيئته الشيعية.

بالتوازي، يستمر مسلسل الاغتيالات في العراق مع اغتيال الناشط المدني الشيعي إيهاب الوزني في التاسع من مايو، بعد أكثر من ثمانين عملية بين اغتيال ومحاولة اغتيال نالت من نشطاء عراقيين منذ ثورة أكتوبر 2019. فإن أخذنا في الحسبان هوية المتهم بتنفيذ الاغتيالات في العراق، ومن يقف وراءه وغاياته، فلن يكون مستغربًا تصور رابط بين ما جرى في لبنان وما يجري في العراق، رغم خصوصية وتمايز الحالتين.

نشأة حزب الله كذراعٍ إيرانية 

يشرح الصحفي اللبناني محمد أبي سمرا أن نشأة حزب الله في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي ارتبطت نوعًا ما بتأسيس حركة أمل قبلًا على يد الإمام موسى الصدر. وكان الهدف المعلن حينها مواجهة تهميش الشيعة والمطالبة بحصتهم من الخدمات والمناصب.

ويرى أبي سمرا أن الساحة الشيعية اللبنانية لم تكن حينها محكومة بثنائية اليوم. فوقتذاك انضمَّ الشيعة الوافدون إلى بيروت من الأطراف، من الجنوب وبعلبك الهرمل بالتحديد، خاصة الطلاب والمتعلمون، إلى أحزاب كالبعث والقومي السوري والشيوعي. وجاء الانخراط الشيعي في هذه الأحزاب تعبيرًا عن الخروج على الولاءات الإقطاعية التقليدية التي حكمت البيئات الريفية.

لعب الشيعة في الأحزاب اليسارية والشيوعية والقومية دورًا تقدميًا في مجتمعاتهم بعيدًا عن الدين، لكنها ظلَّت حالة نخبوية غير شعبية وهشة مقارنة بما صارت عليه حركة أمل وحزب الله.

بعد انتصار الثورة الإسلامية سنة 1979 في إيران وتبنيها سياسة «تصدير الثورة»، لم تتأخر طلائع الحرس الثوري الإيراني في الوصول إلى لبنان. وتحقق لها ذلك -بطبيعة الحال- عبر ممر إجباري تمثل بدمشق، معقل نظام حافظ الأسد واللاعب العربي الأقوى حينها في لبنان.

في عام 1982، انشق حسين الموسوي عن حركة أمل ليؤسس حركة أمل الإسلامية التي كانت على علاقة وثيقة بالحرس الثوري في لبنان. وانضم إليه، في انشقاقٍ له دلالته، ممثل حركة أمل في طهران إبراهيم أمين السيد. وإلى جانب مجموعات أخرى كأنصار الخميني والجهاد الإسلامي واتحاد الطلبة المسلمين وغيرها، شكلت حركة أمل الإسلامية جزءًا من نواة حزب الله.

فجاء بيان تأسيس حزب الله عام 1985 إعلان ولادة ختمت مخاضًا استمر أعوامًا شكلت فيه حركة أمل الإسلامية مثالًا على الحركات المؤسسة للحزب، وذلك من خلال توجهها الإسلامي الأكثر راديكالية ووضوحًا من توجه حركة أمل. وكذلك عبر ارتباطها المعروف بالحرس الثوري الإيراني وانخراطها في المشروع الإيراني الخميني.

ففي حين كان تديُّن حركة أمل مع الإمام الصدر تديُّنًا سياسيًا بحسب أبي سمرا، كانت عقائدية حزب الله ومشروعه الإسلامي وارتباطه بولاية الفقيه أمرًا أساسيًا ومؤسِّسًا لا لبس فيه.

اغتيال الناشطين وإقصاء الآخر

يرى أبي سمرا أن هذه المجموعات المذكورة كانت أشبه بجهاز أمني سري منها بحزب أو تيار سياسي. إذ نفذت تحت رعاية سورية إيرانية الكثير من التفجيرات والعمليات الانتحارية والخطف والهجمات ضد مصالح غربية، قبيل تشكيلها سويةً حزب الله. 

واستمرت تلك المجموعات على نهجها مع تنفيذها مجموعة من الاغتيالات ضد ناشطين لبنانيين ومثقفين يساريي الميول، منهم من كان شيعيًا كحسين مروة ومهدي عامل بالإضافة إلى خليل نعوس وسهيل طويلة وغيرهم.

يمكن للمتقصي عن هذه الاغتيالات أن يستنتج بسهولة أنها لم تقصد إخراج ضحاياها من المشهد قتلًا فحسب، بل تعذيبًا وتمثيلًا في الجثث في رسالة لرفاق الضحايا ومجتمعاتهم.

وتقدَّم حزب الله رويدًا رويدًا في محاولته محو التباينات ضمن الطائفة الشيعية، لا شيوعيين ولا بعثيين ولا قوميين ولا غيرهم. وبين الاغتيالات، ونشر مفهوم ولاية الفقيه، والترهيب والترغيب، صارت الكلمة العليا في المجتمع الشيعي اللبناني لحزب الله دون غيره.

في السياق نفسه، خطوة تلو الأخرى، أزاح حزب الله جبهة المقاومة اللبنانية من ساحات مقاومة إسرائيل في جنوب لبنان ليحتكر هذا الشرف. وبعد اتفاق الطائف، ودون سواه من بين كل ميليشيات الحرب الأهلية، وحده احتفظ بسلاحه بذريعة مقاومة إسرائيل.

ومن خلال سياسات أخرى لا يمكن فصلها عن حقيقة كونه الحزب المسلح الأوحد، منها سياسات اغتيال الخصوم خارج الطائفة وضمن الوطن، أمسى حزب الله اليوم حاكم لبنان الفعلي، وذراعًا عسكرية-أمنية إقليمية رديفة للحرس الثوري الإيراني.

حزب الله والحشد الشعبي: مدرسةٌ واحدة 

قرابة 800 كيلومتر تفصل بين بيروت وبغداد، وأكثر من ثلاثين سنة بين نشأة حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق، لكن كل هذه المسافة الجغرافية والزمنية لا تجعل المقارنة بين الحالتين مستبعدة. Click To Tweet

أو تغير حقيقة أوجه الشبه العديدة بين مساعي إيران عبر حزب الله في لبنان، ومساعيها عبر الحشد الشعبي في العراق، مع خصوصية كل حالة من حيث التاريخ ودور المرجعيات الشيعية والظروف الحالية.

صحيح أن الاغتيالات في العراق شملت وتشمل ناشطين شباب لا مثقفين وكوادر حزبية كحالة لبنان الثمانينيات وما بعدها، إلا أن الهدف بعيد المدى يبدو واحدًا. إلغاء أي تباين في المجتمع الشيعي العراقي، وتوحيده جبرًا تحت راية المشروع الإيراني بمختلف الوسائل، بذراع الحشد المتمثلة بالحديد والنار، وغدر فرق الاغتيالات المتلحفة بالعبوات الناسفة وكواتم الصوت تحت جنح الظلام.

يعلق خبير في الشأن الشيعي العراقي على صحة هذه المقارنة مؤكدًا أن ما بين العراق ولبنان ليس سوى «مدرسة واحدة، وراع واحد، وأوجه التشابه واضحة وحقيقية.» لكن ما يجعل تواتر الاغتيالات في العراق شديد الارتفاع هو عدم تمكن إيران وأدواتها -حتى الآن- من إخضاع أو ترويض المجتمع الشيعي العراقي.

فجزء كبير من هذا المجتمع نجا من حقبة حكم صدام وفترة داعش والتوتر الطائفي شديد الاحتقان. واليوم يركز جهوده، مستندًا إلى تنوع وعراقة المرجعيات الدينية الوطنية، على إيقاف التدخل الإيراني وغير الإيراني في الشأن العراقي الوطني.

وفي إطار المقارنة، يلفت الخبير إلى القصد من إرفاق كلمة الحشد بتعبير «المقدس» ليصير، على غرار حزب الله، فوق الانتقاد. وليصبح أي تعرضٍ للحشد الشعبي أشبه بالتعرض لـ«الذات الإلهية» في فعلٍ بمنزلة الكفر.

هل سيصمد العراق في وجه الاغتيال؟ 

يرى صحفي عراقي من البصرة أن حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق قد أسُسا -وفق الرواية الرسمية- بهدف الوقوف في وجه إسرائيل في لبنان وداعش في العراق. وأدى الاثنان دورًا لا يمكن نكرانه في التصدي لهذين العدوين، لكنهما اليوم يستعملان فزاعة هذين الخطرين في سبيل التحكم برقاب البلاد والعباد، دون فعل أي شيء بشأن الخطر الحقيقي.

من جانبٍ آخر، يناقش ناشط سياسي عراقي حقيقة نشوء تنظيم داعش، وأنَّ داعش ما كان لينشأ دون تسهيل من الجهات ذاتها المؤسسة للحشد الشعبي، بغية خلق ذريعة وجود الحشد. ويضيف، حتى لو كان الخطر حقيقيًا فإنه لا يبرر اغتيال المدنيين المختلفين مع الحشد في الرأي والتوجه.

يبدو أن مسلسل اغتيال الناشطين في العراق اليوم انعكاسٌ لمسلسل شقيق جرى في لبنان قبل أكثر من ثلاثين سنة، ولم يتوقف تمامًا حتى اليوم. وفي حين نجح مشروع تدجين المجتمع الشيعي اللبناني على نحو لافت وإن يكن غير تام، فأمسى جزءًا حيويًا من مجتمع ولاية الفقيه والثورة الإيرانية، يُظهر المجتمع الشيعي العراقي صلابة في وجه المشروع ذاته، رافضًا محاولات الترويض وباذلًا دماء شبابه وناشطيه بشجاعة قلَّ نظيرها.

ويبقى السؤال: من سينتصر في معركة كسر العظم هذه عبر السنوات؟ هل ستشكل عزائم العراقيين سدًّا ثابتًا في وجه المشروع الإيراني، أم أن سطوة النار والغدر ستتمكن من هؤلاء الشباب فيحذوا حذو إخوانهم في لبنان؟

 الزمن وحده كفيلٌ بالإجابة.

الأحزاب السياسيةالشيعةالعراقلبنانالسلطة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية