فلم «الأب»: حين تتداعى الأشياء

لا نستطيع التحديد إن كان فلم «الأب» عن الشيخوخة والخرف وتحديدًا الزهايمر. لكن ما نعيشه يقينًا الوحدة والقلق الوجودي.

في ظروف استثنائية فرضها الوضع العالمي الجديد المثقل بتأثيرات وباء كورونا، أُقيم الاحتفال الثالث والتسعون لتوزيع جوائز الأوسكار، وذلك وسط إجراءات احترازية مشددة لا تقل غرابة عن أفلام هوليوود التي تصوَّرت أحلك أيامنا سوادًا.

ورغم هذا الوضع الطارئ، استطاعت الجائزة بأفلامها المعدودة أن تطور من ذاتها وتنفتح في ترشيحاتها وجوائزها على عرقيات مختلفة وثقافات أخرى، وبمواضيع اجتماعية مغايرة. ولعل أبرز هذه الأفلام حضورًا ونجاحًا جماهيريًّا وفنيًّا كان فلم «الأب».

أصالة أداء أنتوني هوبكنز 

وضع نجاح الفلم السير أنتوني هوبكنز تحت الأضواء، حيث راهن الجميع على فوزه بجائزة الأوسكار. وبالفعل، استطاع بعد عقود من أول فوز، أن يحصد جائزته الثانية كأفضل ممثل عن دوره المبدع في فلم «الأب». فوزٌ مستحق بجدارة، رغم الهمهمات التي تصاعدت هنا وهناك عن أحقية الممثل الراحل تشادويك بوزمان بالفوز تخليدًا لذكراه. 

أجمع أغلب من شاهد الفلم على أن أنتوني هوبكنز قدم الأفضل، لكن هوبكنز أكد أن الدور لم يكن بتلك الصعوبة. إذ عاش حقيقةً بعض ملامحه في الواقع؛ فشخصيته في العمل ليست سوى استحضار لشخصية والده الراحل. كما أضاف: «كان سهلًا أن أصور هذا الفلم، فهو يقدم سيناريو يعتمد على خارطة طريق ومواقف بسيطة للغاية. وهذا ما يصنع جمال الأشياء؛ أن نترك للجنون بساطته.»

أيًّا كان الأمر، فهوبكنز قدم دورًا معقدًا بمنتهى السلاسة والعذوبة بعيدًا عن الاستعراض. كل ما كان يحتاجه القليل من الخبرة على منهج معلمه ستانسلافسكي، ووعيًا بالمادة المتناولة. وهذا ما ساعده على الانتقال بيسر من المرحلة التي سماها معلمه بـ«معاناة الدور» إلى مرحلة التجسيد التام لهذا الدور.

وكلا الأمرين يتوفران ببذخ لدى هوبكنز المتمرس منذ عقود على أداء كل الشخصيات المعقدة، ساعده في ذلك شغفه بالمسرح وثقافته الواسعة. كما أنَّ دور الأب ليس جديدًا عليه، إذ سبق وقدمه أكثر من مرة سينمائيًّا ومسرحيًّا. ويبقى أقربهم دوره الأخير، الملك «لير»، والذي لعبه مرتين. الأولى على المسرح، والثانية حين أعاد تشكيله من جديد على الشاشة مستفيدًا هذه المرة من نضجه وتقدمه في السن. فالشخصيتان تجدان أصالتهما في النص المسرحي.

زيلر من كاتب مسرحي إلى مخرج

لم يكن غريبًا فوز الفلم أيضًا بأفضل اقتباس عن نص، فالفلم مقتبس عن مسرحية تحمل العنوان نفسه للفرنسي فلوريان زيلر. ومما يجعل من فلم «الأب» تجربة مميزة، كون المخرج هو نفسه كاتب النص الأصلي.

فزيلر، وقبل أن يكون مخرجًا للفلم وكاتبًا مشاركًا في السيناريو بمعية العظيم كريستوفر هامبتون، هو كاتبٌ مسرحيٌّ، قدّم مسرحيّات عرفت نجاحًا وطنيًّا وعالميًّا بعد انتقالها من باريس إلى لندن، ومنها إلى بقية مسارح العالم.

وفلم «الأب» هو ثاني تجارب زيلر الإخراجية بعد فلمه القصير «آخر أشيائنا التافهة» الذي أخرجه سنة 2008. والدافع لعودته مجددًا للجلوس على كرسي الإخراج كان استياؤه من اقتباسات فشلت في تقديم أعماله بالمستوى الذي يراه مناسبًا لأفكاره. على الأخص فيلم «فلوريد» المقتبس كذلك من مسرحية «الأب»، والذي عرض على الشاشة سنة 2015، ولم يلق النجاح الكبير المتوقَّع. 

يهتم زيلر بالممثل في أعماله المسرحية كما السينمائية. إذ على الممثل أن يكون من الصف الأول ويملك خبرة جيدة؛ ليقدم شخصياته المعقدة بأدق تفاصيلها النفسية والتعبيرية. لهذا حرص أن تكون تجربته الإخراجية التالية اقتباسًا لمسرحيته الأثيرة «الأب». 

كما حرص على اختيار ممثل قدير يجمع ما بين التجربة السينمائية والخلفية المسرحية التي تؤهله لنقل الفكرة كما تخيلها، وضبط معاييرها من خشبة المسرح إلى شاشة السينما.

ومن البداية مثُل أنتوني هوبكنز أمامه وهو يكتب سيناريو الفلم، وتمسك بهذا الاختيار وتماهى معه. وبحركة ماكرة غير اسم الأب من أندريه في المسرحية إلى أنتوني على الشاشة. كما جعل للممثل والشخصية تاريخ الميلاد نفسه، والهوايات نفسها والشغف ذاته.

لم يرق الأمر لهوبكنز بدايةً وشعر بعدم الارتياح للتشابه المفرط بينه وبين شخصية الأب، لكن زيلر استطاع إقناعه. وبرر هذا الاختيار بقوله: «هكذا لن يشكل الدور درعًا يحتمي خلفه هوبكنز.»

لكني أجزم أن زيلر بخلقه هذا التشابه كان يرغب في إرباك المشاهد وإدخاله في اللعبة، فيكون بالتالي متواطئًا مع بقية الشخصيات تجاه الأب. وهكذا نجح زيلر في تحصين فكرته القائمة على تداعي الحدود بين الخيال والواقع داخل ذهن المشاهد.

ثلاثية الأم والأب والابن 

مسرحية «الأب» جزء من ثلاثية. وقد حصدت هذه الثلاثية بكل أجزائها اهتمامًا عالميًّا وضع زيلر على مصاف كبار كتاب المسرح المعاصرين فرنسيًّا وعالميًّا. كما حصدت الثلاثية أهم الجوائز المسرحية المرموقة، وعلى رأسها جائزة «موليير» الفرنسية. 

افتتح زيلر ثلاثيته بمسرحية «الأم» التي عرضت سنة 2010، وهو الدور الذي أدته إيزابيل هوبير في نسختها الإنقليزية على مسرح برودواي بنيويورك. ثم كتب مسرحية «الأب» وعُرضت في فرنسا سنة 2012، واستمر عرضها لسنوات أدى فيها دور الأب الراحل روبرت هيرش بأداء لا يقل جدارة عن أداء أنتوني هوبكنز. ثم تختم الثلاثية بمسرحية «الإبن» التي ستُقتبس بدورها سينمائيًّا مع الممثل هيو جاكمان. 

ويركز زيلر في ثلاثيته العائلية (الأم والأب والابن) على العلاقات الإنسانية متى تعرضت للأزمة. ومن خلال هذا الصراع يشرح هذه العلاقات ويعالج نقاط ضعفها وقوتها، كما يكشف بلغة بسيطة ومألوفة المستور وسوء الفهم الذي يقع خلف الصمت؛ بل وأيضًا خلف ما يقال. 

هكذا يقدم لنا زيلر رؤيته للمسرح الذي يؤمن به: المكان المناسب لطرح الأسئلة وليس البحث عن إجابات جاهزة. المكان الذي يثير الشك ويزيح اليقين.

مأساة الاحتياج للآخر 

يعالج الفلم أكثر مراحل عمر الإنسان هشاشة: الشيخوخة. وهي، كما وصفها فيليب روث، ليست معركة بل مذبحة. وهي أيضًا، كما وصفتها سيمون دي بوفوار، الشيء الذي يحدث لغيرنا.

فأغلبنا يرى الشيخوخة أمرًا يحدث مستقبلًا، فنتجنب التفكير في وضعٍ سنجبر عليه لاحقًا. وضعٌ سنكون فيه بحاجة إلى المساعدة، وتتغير فيه نظرتنا للحياة فتضيق مع توالي السنوات. وضع سينحصر فيه اهتمامنا على حاضرنا وعلى أقرب الناس إلينا. ووضع يتحول فيه منظورنا للأشياء ليرتبط أكثر بكل ما هو ثابت حولنا، فنرفض ونقاوم أي شيء قد ينتزعه منا.

الفلم هو بالتأكيد عن الشيخوخة وآثارها، لكنه أيضًا عن شيء أعقد من شيخوخة وحسب؛ إذ يعالج مأساة الاحتياج للآخر بعد أن كان هذا الآخر هو من يحتاجنا. Click To Tweet

فعلاقة أنتوني بآن تحولت من رعاية أب لابنة، إلى رعاية ابنة لأب. وهذا التغير المفاجئ في العلاقة يثير الاضطراب، ويعري الكثير من المسكوت عنه في العلاقات الإنسانية والأسرية تحديدًا. 

تغيّرٌ أجاد تولستوي توصيفه في رائعته «موت إيفان إيليتش». حيث وجد البطل نفسه، بعد أن كان قويًّا ومهاب الجانب، ضعيفًا ومثيرًا للشفقة في عيون زملائه وعيون أقرب الناس إليه. نعاين الاضطراب نفسه بين الأب وابنته. فالابنة فعلت كل ما تستطيع لتوازن بين حياتها ورعايتها لأبيها. وقد أبدعت أوليفيا كولمان في تجسيد هذا التشتت من خلال ملامحها وحركات عينيها التي لا تستقر على شيء.

الشيخوخة بين سؤال الحب والواجب 

تقف آن بقميصها الأزرق ذي الأزرار الخلفية والتي تصيّره خانقًا. تقف في مواجهة الأب، ونرى خلف هذه المواجهة مجسمًا ورقيًّا أزرق اللون بنفس درجة قميص آن، يراقب لوحة تجسد مشهدًا طبيعيًّا يتنفس حرية.

يبرز هذا المشهد الافتتاحي هذه العلاقة الشائكة التي تتنازعها مشاعر متناقضة ما بين الرغبة في الحرية والتحليق بعيدًا عن الأب، والرغبة في البقاء والقيام بالواجب الذي يفرضه قبل كل شيء الحب.

في مشهدٍ لاحقٍ، تتصل آن بالطبيبة معتقدة أنه قد حان الأوان للتفكير جديًّا في إيداع أنتوني بدار الرعاية. وبينما تنتظر رد الطبيبة، نراها تقلب بين يديها قطعة ألماس وتتأملها بشجن، فالألماس رمزٌ للحب الأبدي وللوفاء. ويتركنا المخرج مع تأملات آن المترددة، في لحظة مفتوحة، ومع السؤال الشائك: هل يكفي الحب وحده لإنقاذ علاقاتنا؟

تعالج هذه العلاقة الشائكة بين الآباء والأبناء دائمًا انطلاقًا من سياقها الثقافي والاجتماعي. فإن كنا في فلم «الأب» نرى هذا التشتت مبنيًّا على السؤال الجوهري: هل يكفي الحب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الذاكرة والارتباط وفرديتنا؟ فنحن في فلم «الانفصال» لأصغر فرهادي، عاينَّا هذه المعضلة في سياق ثقافي واجتماعي مغاير تمامًا. 

سياق يختلط فيه الفردي بالجمعي، وتحكمه العادات والتقاليد والدين، كما يحكمه انعدام أي رفاهية ممكنة لاتخاذ القرار. 

إذ عالج أصغر فرهادي بدوره مشكلة الشيخوخة ومآلاتها وتأثيراتها على الأسرة من خلال عرض حياة نادر وعلاقته بأبيه وبزوجته وطفلته والخادمة، ثم في علاقة كل هذا بسلطة أكبر جسدها فرهادي في مؤسسة القضاء. أي من خلال مجتمع قائم على تراتبية معينة تفترض أن نعيش كل اختلالاتها من خلال مفهوم الواجب، والذي يتماهى في فلم فرهادي ليشمل النظام ككل وليس الأب فقط.

حين يتداعى الأب 

لا نستطيع التحديد إن كان عمل زيلر عن الشيخوخة والخرف أم عن الشيخوخة المقترنة بمرض الزهايمر؛ فالكلمة لم ترد إطلاقًا في الفلم.

لكننا نستطيع التكهن بتفاصيله من خلال المشاهد، بينما نحاول فك الأحجية وتجميع قطعها؛ لنكوِّن فكرة نهائية حول ما يعانيه أنتوني. أنتوني «الأب» في الفلم وليس أنتوني «الممثل». فأي محاولة لإسقاط الشخصية على الممثل أراها تجانب الصواب وتخلط بين الشيخوخة والمرض.

فالشيخوخة قد تعاش بصفاء ذهن وصحة جيدة، كما يفعل أنتوني هوبكنز في حياته اليومية. لكنها من جهة أخرى قد تفرض تساؤلات جدية حول الوحدة وحول طريق بدأ فيه الأصدقاء والرفقة بالرحيل. أجزم أن ما تقدمه شخصية أنتوني أكبر من حالة الخرف أو ما تستدعيه الشيخوخة من قلق وجودي؛ ما يقدمه أنتوني هو الزهايمر في أبشع حالاته وصوره.

أمرٌ لن يفهمه إلا من عاينه عن قرب وعاش هذا التشظي والتداعي والهشاشة لحظة بلحظة. فأسوأ ما في هذا المرض هو البطء الذي يؤجل أي محاولة فهم، فيبقى المرافق للمريض حائرًا لا يستوعب التغيرات إلا بعد أن تكتمل.

يخبرنا زيلر أن الكتابة عن الشيخوخة جاءت عن تجربة شخصية عاشها مع جدته وهو بعمر الخامسة عشر. لهذا أجاد القبض على ماهية المرض بعيدًا عما يتداوله الناس من كليشيهات مبتذلة، وما يختزله الأطباء في لغة علمية جافة وثقيلة تزيد قلق المريض وخوف أهله. ففي الفلم، استطاع زيلر أن يجسد المنطقة الرمادية لدى المريض والتي تلقي بظلالها على علاقاته بمحيطه.

منطقة تعمها الفوضى وسوء الفهم وأزمنة متراكمة. وأوجه يلفها الغموض ومشاعر قاسية تتماهى بين الرعب من جهة والرغبة في إثبات الذات والمقاومة من جهة أخرى. وهكذا، استطاع زيلر أن يجسد من خلال حوارات ومشاهد الفيلم وتفاعل شخصياته الدرامية حقيقة ما يقف خلف المرض من تكهنات واستفهامات وأوهام وارتباكات. نجاح زيلر الحقيقي هو تجسيد ما يستحيل أن يجسد، الوعي في أسوأ حالاته.

الأب داخل العلبة المغلقة 

حافظ زيلر على المنطقة الرمادية باستحضاره جو المسرح في الكادرات، وساعده في ذلك الحميمية التي يمنحها الطراز الإنقليزي للأثاث، ومن خلال حفاظه على وحدة المكان. إذ سنفهم في النهاية أن الأمر يتعلق بمكان واحد «خلف الأبواب المغلقة» (Huis clos) تتغير معالمه كما تتغير ديكورات المسرحية لكن وفق سطوة الذاكرة.

ديكورات تدخلنا في متاهة تكثر فيها الأبواب التي تفضي إلى الفضاءات المشتركة، والتي يقف أنتوني على بابها مترددًا وحائرًا. وآخر الردهة باب واحد يدخله أنتوني بكل جرأة ويقين ويغلقه خلفه ويتركنا نعاين هذه المتاهة.

فقد شكَّل البيت شخصية ثابتة في هذا الفضاء الزمكاني؛ إذ يردد أنتوني دائمًا وبهلع فاضح «هذا بيتي، هذا بيتي». وفي تأكيده المستمر تأكيدٌ على أهمية البيت في حلم اليقظة. فهو معنا مهما غيرنا المكان ومهما تسرب منَّا الزمن.

فالبيت، وبمختلف تفاصيله ومقصوراته، كما وصفه باشلار في عمله الرائد «جماليات المكان» يشكل تتابع تثبيتات في أماكن استقرار الكائن الإنساني الذي يرفض الذوبان. فالبيت يبقى ثابتًا في اللاوعي على شكل حلم يقظة يواجهه الواقع، فيقاومه ويمنح صاحبه بعض البراهين، أو بعض ما سماه باشلار: «أوهام التوازن».

حرص زيلر أن يمنح المشاهد أمام هذه اللعبة الميتافيزيقية مشاهد ثابتة تخلو من حضور أنتوني. كما لجأ إلى الإضاءة والموسيقى كأدوات تغرق الحدث والمتاهة في علبة مغلقة. وداخل هذه العلبة المغلقة يعاني أنتوني من نوستالجيا مشروخة، تشبه كثيرًا أسطوانة الموسيقا التي كان يصغي إليها وتوقفت فجأة. وداخل العلبة يحدد أنتوني مصيره وعلامات يهتدي بها فيما تبقى من حركاته المعدودة.

ويكثر أنتوني من الأسئلة، فهناك دائمًا شيء مفقود وحلقة لا يستطيع بلوغها، وهذا ما يصيّر الوجوه ظلالًا تتبدل وتتغير انطلاقًا من ذكريات تخترق عقله، دون ترتيب زمني، فيختلط الماضي بالحاضر. هوس أنتوني بساعة يده ليس سوى محاولة للقبض على زمن يفلت من بين أصابعه، ورفضٍ مطلق لما يقرره الآخر وما يعدّه أنتوني غريبًا وعدوًا. 

العلبة المغلقة والمنطقة الرمادية والمسرح الحقيقي لم يكن ظاهرًا؛ بل يتوارى خلف دماغ أنتوني.

لحظة الاستسلام للواقع 

قد يرى البعض أن الفلم يعرض حالة سريالية تشبه أعمال فيليني أو ديفيد لينش، لكن فلم «الأب» مغرق بالواقعية. فما نراه من تشظي يحدث بالفعل، ويؤثر على صاحبه وعلى محيطه. بل قد يؤثر في مجتمع بالكامل إذا تأخر هذا المجتمع عن استيعاب تطورات مرض الزهايمر وفهمه، والاستعداد لمواجهته مؤسساتيًّا وعلى صعيد الأفراد والأسر.

يقوم نجاح الفلم بعد السيناريو المدهش والإخراج الجميل تمامًا على أكتاف العملاق هوبكنز. يجيد هوبكنز صنع القلق والرعب البارد، ويتماهى مع الشخصيات المستفزة. أجاد اللعب على الخط الفاصل بين المشاعر الخفية والمشاعر الظاهرة، وهو العالِم بكليهما. واستطاع إخفاء رعب البطل من الوحدة خلف الحنق والغضب تجاه ابنته وزوجها والممرضات. 

أجاد إخفاء مقاومته للشفقة خلف القسوة والتسلط، وإخفاء الارتباك خلف العاطفة. وكأنه كان يمثل على مرحلتين: يستدعي الشعور الحقيقي داخليًا ثم يعكس خارجيًا الشعور المقاوم له. استطاع هوبكنز أن يبرز التداعي والانهيار البطيء من خلال عينيه، وفي حركات يديه ورأسه، وفي طريقة ارتدائه للملابس وتناوله للأكل. 

وقد أبدع في النهاية مشهدًا تراجيديًّا يختصر كل معضلة الفلم. المشهد الوحيد الذي اضطر فيه هوبكنز إلى طلب خلوة من الإخراج، أكثر من مرة؛ ليعيد ترتيب نفسه. ففي هذا المشهد بدأت الدائرة التي بحث أنتوني عن نهايتها طيلة الفلم تنتهي بالعودة إلى الطفولة ورحم الأم. فاللحظة التي يشعر فيها أنتوني بأوراقه تتساقط الواحدة تلو الأخرى، هي اللحظة الفارقة في الفلم؛ لحظة الاستسلام للواقع.

عساك تظلُّ شابًا على الدوام

لا يقدم فلم «الأب» علاجًا للمرض؛ فلا علاج لمرض الزهايمر حتى الساعة؛ بل يحاول وضعنا في تجربة مماثلة لما يعيشه المريض. فمنذ بداية الفلم إلى آخر مشهد، وعبر مشاهد غير مترابطة تتداخل أحيانًا وتُصوَّر أحيانًا أخرى من زوايا مختلفة، سنعيش هذا الارتباك و هذا التشتت والضياع.

وكأنتوني، سنطرح الأسئلة، وسنحبط قليلًا من الإجابات. سنعيش مع أنتوني ما قد يعيشه مريض الزهايمر طيلة فترة مرضه. فهذه التجربة تساعدنا ونحن نفعل كل ما نستطيع لنحافظ على نضارة أوراقنا، والتي تركها لنا أنتوني وصيةً مع نافذة مفتوحة. تجربة تساعدنا على فهم المريض سواء كنا مرافقين له وملزمين برعايته، أو كنا ممن يصادفهم في الحياة اليومية.

وأتمنى أن يُستغل نجاح الفلم في التوعية بمرض الزهايمر، ومحاولة إيجاد حلول ناجعة لمواجهته بما فيه مصلحة المرضى والأهل.

وعلى أمل بلوغ ذلك مستقبلًا، نغني مع بوب ديلان أمنيته الغالية لأحد أطفاله:

«عسى يداك تظلّان مشغولتين على الدوام 

عسى قدماك تظلّان سريعتين على الدوام 

عساك تقف دومًا على أرضٍ ثابتة

متى هبت الرياح وتقلَّبت الأحوال

عسى قلبك يظلُّ مبتهجًا على الدوام 

عسى أغنيتك تُغنَّى على الدوام 

عساك تظلُّ شابًّا يافعًا على الدوام.»

الزهايمرالشيخوخةمراجعات الأفلامالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية