وثائقيات الحياة البرية
وثائقيات الحياة البرية هي أفلام وثائقية تصور الحياة البرية الفطرية التي لم تلمسها الأيدي البشرية، ويصاحبها ذكر آخر الإكتشافات العلمية عنها. أو هذا ما كانت عليه.
وثائقيات الحياة البرية هي أفلام وثائقية تصور الحياة البرية الفطرية التي لم تلمسها الأيدي البشرية، ويصاحبها ذكر آخر الإكتشافات العلمية عنها. أو هذا ما كانت عليه.
في البداية كانت الحياة البرية أكثر شراسة، ولم يمتلك العلماء وصانعي الأفلام معدات متطورة تسهل عليهم المهمة. فلم تكن تُنقل معهم سيارات الدفع الرباعي أو أي وسيلة مواصلات أخرى.
ولذلك كانت عملية تنقلهم تمثل التحدي الأكبر الذي فُقد خلاله العديد من العلماء والمستكشفين في مجاهل الغابات ولم يسمع عنهم ابدًا، ولاقى الكثيرين حتفهم. إلا أن من استطاع إتمام المهمة لم يحتج لأكثر من عرض صور متحركة من البرية للمشاهدين ليتمكن من إبهارهم تمامًا.
اليوم تغيرت الصناعة كما تغير المشاهدون، فبعدما انحصرت البيئات البرية، وصاروا يصحبون حتى أثقل المعدات ووسائل التنقل معهم، بالإضافة إلى التطور الهائل في مجال التصوير والإضاءة. أصبح التحدي يتعلق بالجمهور الذي اعتاد مشاهدة الأفلام والتأثيرات السينمائية، ولم يعد إبهاره سهلاً البتة.
وحتى إن كانت المادة المصورة مبهرة فعلاً، فنجاحها يعتمد على جذب انتباه المُشاهد، وجعله يرغب في مشاهدة مادة علمية لساعة أو اثنتين. ولذلك يهتم صناعي الأفلام بالمونتاج ومرحلة تعديل الفيلم كاهتمامهم بتصويره، فيقضون ساعات من اختيار اللقطات المثالية لتظهر في الفيلم.
التأثيرات الصوتية
كما ينتقون موسيقى تصويرية مناسبة لكل مشهد، فتجدها هادئة عذبة عندما يرعى القطيع بسلام، وسرعان ما ستتغير لأخرى أكثر درامية عند ظهور حيوان مفترس يراقبه من بعيد، وسيصبح رتمها أسرع وأكثر حدة إذا لاحظ القطيع وجوده ولاذ بالفرار.
وربما تكون أصعب مرحلة هي مرحلة إضافة التأثيرات الصوتية، والتي تحدث في كل الأفلام عامةً لتجعل المشهد أكثر حياةُ وواقعية، كصوت الرياح أو خطوات الأقدام أو أي حركة يقوم بها الممثلون.
لكن ما يجعلها أصعب هنا هو أن المقاطع التي يصورها صناع الأفلام في البرية لا تحتوي على أي صوت. فالكاميرات تمكن المصور من التقاط المشهد من مسافة بعيدة، لكن الميكروفونات لا تفعل ذلك. وفي الغالب يكون المدى الذي تحتاجه لالتقاط الصوت سيعرض حاملها للخطر أو قد يتشتت الصوت بسبب الأصوات الأخرى المحيطة كصوت السيارة أو المروحية مثلاً.
أصوات الحيوانات التي نسمعها في الوثائقيات ليست حقيقية بل هي مصممة من قبل فناني هذا المجال. يقوم هؤلاء الفنانون باستعمال أدوات بسيطة لصنع أصوات تشبه التي يحتاجونها.
فعند صنع صوت حركة الحيوان على العشب مثلاً يأتون بكومة قش لداخل الاستوديو ويعبثون به ليصدر الصوت المطلوب بالقرب من أدوات التسجيل.
ويقومون بتحريك قفاز جلدي أو منفضة غبار بشكل سريع ليسجلوا رفرفة أجنحة الطيور. وأما حركة الأسماك فيدخلون أجهزة التسجيل لحمام السباحة ويقفز أحدهم داخله.
الحقائق كما هي
ولكن ما سيجعل الوثائقي أكثر إثارة للاهتمام هو احتوائه على قصة. فمهما تغير الناس وصُعب إرضائهم لا تزال القصص قادرة على جعلهم يلتفون حولها.
فبدلاً من صنع فيلم عن هجرة الحيتان مثلاً، يمكن أن يسرد قصة حوت مهاجر والتحديات التي أمامه وهو ما سيجعل المُشاهد يتعاطف معه ويتساءل عمَ ستؤول إليه الأحداث وهل سيصل بأمان أم لا؟
وقد يلجأ صانعو الأفلام لبعض الحيل، فصانع هذا الفيلم كريس بالمر اعترف بعد أعوام أن الحوت الذي صوره في بداية الرحلة لم يكن هو نفسه الذي نجح في الوصول نهايتها، فبالرغم من أن كل المعلومات العلمية الواردة في القصة حقيقية لم تكن القصة كذلك.
وهذا ما يعد حالياً نقطة جدل كبيرة في هذا المجال، فبالمر الآن الذي قد أعلن تراجعه وأعتذر عن أفلامه السابقة، أصبح يطالب زملائه بالالتزام بأخلاقيات المهنة وقول الحقائق كما هي.
عذر القالب الممتع قد ضر المحتوى العلمي في مرات كثيرة
ولكن نسبة كبيرة من صانعي الأفلام يختلفون معه ويرون أن دورهم يكمن في ذكر معلومات علمية صحيحة أما السياق الذي تقدم فيه فيحق لهم استخدام الخيال لوضعها في قالب ممتع يجعل عدد أكبر من المشاهدين يستفيد.
وقد يكونوا محقين لكن المشكلة أن عذر القالب الممتع قد ضر المحتوى العلمي في مرات كثيرة. كالذي حدث في فيلم (White Wilderness) والذي كان يتحدث عن الحياة البرية في القطب الجنوبي. حين تطرق للحديث عن نوع من القوارض يدعى لاموس. يصور الفيلم في أحد مشاهده انتحار جماعي لأعداد هائلة من اللاموس، حيث تقفز من فوق جرف عال لتسقط في البحر.
أحدث هذا المشهد تحديداً ضجة كبيرة زادت من مشاهدات الفيلم، وحصد جوائز كثيرة منها جائزة الأوسكار لذلك العام. ولكن المشكلة هي أن المشهد الذي علق بأذهان كل من رآه لم يكن حقيقياً، فقد اتضح فيما بعد أن صناع الفيلم هم من ألقوا باللاموس من الجرف العالي ليؤكدوا مفهوم خاطئ سمعوه من قبل وليخلقوا بعض الدراما.
وهناك من صنع الدراما في قالب وثائقي، كسلسلة (shark week) التي عرضت إحدى حلقاتها مجموعة من العلماء خرجوا للبحث عن سمكة قرش قاتلة، تذكر في أساطير أهل المنطقة كوحش بحري. وظهر هؤلاء العلماء في الحلقة يؤكدون احتمالية وجوده، وحجمه الهائل وخطره على الناس.
ولكن الحقيقة كانت أن فريق العمل أخبرهم أن الفيلم عن أسماك القرش في شاطئ لويزيانا، واقتصوا ما يريدون من كلامهم ليفاجأ العلماء عند صدور الحلقة بموضوعها غير العلمي وكلامهم المجزأ. وبالإضافة إلى التزوير العلمي الذي قام به هذا العمل فهو في رأي بالمر يشترك في إيذاء الحيوانات، فالتلاعب بالحقائق الخاصة بهم لخلق مادة ترفيهية قد يضرهم مباشرةً.
كالذي يحدث في برنامج (Rattlesnake republic) الذي يتحدث عن أكثر الأفاعي سمية والمخاطر التي يتعرض لها صائديها. وبالرغم من أن هؤلاء الصيادين يفعلون ذلك ليسلخوا جلودها ويبيعونها لمن سيصنع منها الحقائب والأحذية. يصورهم البرنامج على أنهم أبطال شجعان يخاطرون بحياتهم لمحاربة هذه المخلوقات السامة.
متناسين أن الحيوانات السامة هذه هي جزء من الطبيعة وانقراضها سيخل بالسلسلة الغذائية، وأنها لم تهاجم هؤلاء الصيادين إلا حماية لنفسها.
هذا عكس كل ما يحتاجه العالم
يرى بالمر أن هذه الأفلام لا تؤثر سلباً على الحصيلة العلمية للمشاهدين فقط، بل وعلى وعيهم تجاه القضايا العالمية.
فتصوير الحيوانات المفترسة كوحوش مختبئة همها الأول هو أكل لحوم البشر لصنع مادة مثيرة، يخلق تبرير في ذهن العامة لكل ما يفعله الإنسان من انتهاكات في حق الطبيعية والكائنات الحية الأخرى.
ويصب هذا في مصلحة الشركات الكبرى التي تقوم بهذه الانتهاكات فتلوث المياه، وتحرق الغابات، وتقتل حيوانات مهددة بالانقراض لصنع سلع فارهة.
وهذا عكس كل ما يحتاجه العالم الذي يتجه للهاوية، فالتلوث يفتك بكوكب الأرض ومعدل الاستهلاك الحالي للمصادر الطبيعية لا يبشر بمستقبل مزهر. إلا لو تحرك الناس وانقذوا ما يمكن انقاذه.
يبذل بالمر اليوم أقصى جهده لإيصال هذه الرسائل وتوعية الناس، فالوعي فقط هو من سيمنع إنتاج هذه الوثائقيات ويقاوم الجرائم البيئية، والوعي فقط هو من سينقذ الكوكب.