«نوماد لاند» مشاهد من حياة بدوي أميركي
يستوحي فلم «نوماد لاند» (Nomadland) قصته من كتاب يحمل العنوان ذاته للصحفية جيسيكا برودر. حيث قضت شهورًا مع أشخاص يتبعون نمط الحياة...
الكتاب والفلم وسيطان مُختلفان. وتحويل كتاب إلى فلم، مهما كان طويلًا وشاملًا، دائمًا ما يتطلب عملية تسوية. إلَّا أنَّ للفلم ميزةً على الكتاب: ففي حين يصف الأخير مشاهده إلى عين خيالك بالكلمات، يريك الفلم إياها بصمت. فمشهدٌ يستغرق وصفه عدة فقرات، يختصره الفلم في ثوانٍ معدودة.
«نوماد لاند» أسلوب الحياة الزهيدة
يستوحي فلم «نوماد لاند» (Nomadland) قصته من كتاب يحمل العنوان ذاته للصحفية جيسيكا برودر. حيث قضت شهورًا مع أشخاص يتبعون نمط الحياة المُتنقِّل، قطعت فيها أربعة وعشرين ألف كيلومتر على طول الولايات المتحدة وعرضها.
يبتدئ الفلم بنصٍّ يخبرنا بما حدث في بلدة إمباير في ولاية نيفادا حيث توجد شركة جبس تقوم عليها حياة السكان. في عام 2011، تُغلق الشركة مصنعها في البلدة بعد ثمانٍ وثمانين سنة من العمل، فيصبح أهالي المدينة بلا وظيفة ولا مأوى ومجبرين على اقتلاع جذورهم ليجدوا لهم مصدر رزق في مكان آخر.
بطلة الفلم، فيرن– فرانسيس مكدورماند، تُوفِّي عنها زوجها وخسرت منزلها، وتُقيم في شاحنة صغيرة. تنتقل فيرن بين الولايات غير قادرة على الحصول على وظيفة ثابتة، وتؤدي وظائف موسمية لا تتطلَّب مهارة. تُغلِّف طرود أمازون في الأعياد، وتُحمِّل الشمندر في موسم الحصاد، وتنظِّف الحمامات والغرف في مُنتجع برِّي، وتعمل نادلة في المطاعم.
تلتقي فيرن بامرأة أخرى تخبرها عن تجمع يأتي إليه أناس اختاروا هذه العيشة المُتنقِّلة. وتخبرها كذلك عن بوب ويلز، الرجل الذي يدعو إلى أسلوب الحياة هذا عبر قناته في اليوتيوب: «حياة الآر ڤي الزهيدة». يلتقي هؤلاء الناس في الصحراء ويُقدِّمون الدعم لبعضهم البعض، ويتعلَّمون من بعضهم طرق العيش المستدام، ويشعرون بدفء الانتماء إلى جماعة.
«نوماد لاند» أشبه بالحياة الحقيقية
يبدو الفلم مشاهدُ منتزعة، لا يجمعها جامع إلا أنها تدور حول حياة فيرن. لا نرى الحبكة التقليدية التي تمتاز بها الروايات والأفلام: التمهيد، فالحدث الصاعد، فالذروة، فالحدث النازل، فحل العقدة. إذ يبدأ «نوماد لاند» فجأة، ويلقينا في حياة فيرن وسط المعمعة. لا يبدأ بنا من حيث كانت تعيش حياة طيبة إلى أن تقع المصيبة فنمرَّ بمراحل البناء الدرامي حتى نصل إلى حلِّ العقدة، ويُسدل الستار على فيرن وهي سعيدة وقد استعادت حياتها.
لا يمكن لحياتنا أن تُختزل في رسم بياني كالأعمال الدرامية. فكل يوم من حياتنا نضالٌ مستمر، ومشاكل ترمي بها الحياة علينا ونحاول حلها أو تلافيها، ولا توجد لحظة نصل فيها إلى حلٍّ نهائي، فيسدل بعده الستار أو تظهر أسماء الممثلين والكاتب والمُخرج، ونعيش بسعادة حتى النهاية.
أمر آخر يُميِّز الفلم ويجعله مختلفًا عن غيره من الأفلام، أن شخوصه، باستثناء البطلة وصديقها ديف، أناس حقيقيون، وليسوا ممثلين مُحترفين. هم الأشخاص الذين يعيشون هذه الحياة بالفعل، ونراهم يتحدثون عن تجربتهم وحياتهم وكيف انتهى بهم المطاف هنا. إنها تجارب ألم وفقد، ومحاولة نجاة في عالم لا يرحم. وهكذا يُضبِّب الفلم الخطوط الفاصلة بين العمل الدرامي الخيالي والفلم التسجيلي الوثائقي.
أنا لست مُشردة. أنا بلا منزل فحسب
ينطوي الفلم على محوريْن: محورٌ اقتصادي-اجتماعي، ومحور وجودي. يمكننا التحدث عن مشكلة التشرُّد في الولايات المتحدة، ومشكلة الحصول على الرعاية الصحية، ومشكلة تحطُّم الروابط الاجتماعية. لكنَّ الفلم ليس عن أيٍّ من هذا: ففيرن ليست مشردة بالمعنى الحرفي للكلمة.
نجدها تقول إنها ليست مُشردة (Homeless) بل بلا منزل (Houseless). ولا يبدو أن الحصول على الرعاية الصحية مشكلة عندما مرض صديقها ديف واحتاج إلى علمية جراحية. أما الروابط الاجتماعية فنرى طوال الفلم عروضًا مُتكرِّرة على فيرن من الأصدقاء والأقارب للبقاء معهم.
أجل، يتناول الفلم مشكلةً اقتصادية-اجتماعية، وانعكاساتها على الخيارات الحياتية، لكنه ينطوي على ما هو أكثر. الفلم يتحدَّث عمَّن رفضوا أو لم يستطيعوا الانخراط في النظام الاقتصادي السياسي القائم، وقرروا العيش على الهامش. اعتنقوا حياة تنقُّل وترحال، حيث لا يوجد لك عنوان ثابت يطرق بابه مُحصِّل الضرائب.
ضريبة العيش في المجتمع ما عادت تُطاق. كي تعيش فيه، ينبغي عليك دفع أقساط قرض عقاري لمنزلك أو إيجار شقتك، وقرض سيارتك، وقرضك التعليمي وقيمة تأمينك الصحي، ثم تأتي الضرائب على ما يبقى من دخلك.
حياةٌ من اللهاث المُستمر. وما إنْ تتوقف لالتقاط أنفاسك، تجد أنَّ تسديد القرض قد فاتك؛ فيطرق رجال الشرطة بابك لإبلاغك بأمر الإخلاء من المنزل. ويحتال مندوب قرض السيارة ليسحب سيارتك في منتصف الليل. وتجد نفسك بلا تأمين صحي، فيكلفك أي إجراء طبي بسيط آلاف الدولارات.
الحياة البدوية: خيار أم اضطرار؟
كل هذا سيجري لك لو تخلت شركتك عنك أو تعرَّضتْ الشركة للإفلاس، وفوَّت راتب شهرين. فالالتزامات المُتراكمة لا تُتيح لك أيَّ قدرٍ من الادخار. وماذا الآن؟ لربما تكون محظوظًا بأفراد عائلتك، بشقيق أو والد يسمح لك بالعيش معه حتى تقف على قدميك. وإلَّا ستصبح عرضةً للتشرُّد في الشوارع، والعيش على إعانات المُحسنين.
لكن ماذا لو قررت ألَّا تقبل بأيٍّ من هذيْن الخياريْن؟ خيار اللهاث المُستمر، وخيار العيش على إحسان الآخرين. هنا نجد فيرن وقد رفضت الاستسلام لحياة التشرُّد أو العيش على عطف الآخرين وشفقتهم. ورفضت الانخراط في الجري المُستمر لتأمين أدنى مُتطلبات الحياة المدنية. فتختار عوضًا عنهما الطريق الثالث: الحياة البدوية المتنقلة على هامش المدنية، حياة تتصف بالكفاف والاستقلال والإعراض عن الكماليات والاستهلاك المُفرِط.
لا يعطينا الفلم تعليقًا سياسيًّا صريحًا ولا يوجه أصابع الاتهام إلى السياسات والسياسيين، إنما يُرِينا هذه المشاهد ويُسمِعنا هذه الشهادات، ويترك لنا الوصول إلى الاستنتاجات. وهنا يَكْمن ضعف الفلم وقوته في الآن ذاته. فمن جهة، عدم تقديمه لمحتوى سياسي صريح ينأى به عن تبادل التُهم بين اليمين واليسار أو محاولة التشكيك بالواقع الذي يصوِّره.
ومن الجهة الأخرى، قد يتسبب تقديم محتوى فارغ سياسيًا الفلم فارغًا من المحتوى السياسي بعدم إدراك الُمشاهد وجود مشكلة اقتصادية-سياسية صنعت هذا الواقع، ولربما يقع في روعه أن ما يُقاسيه هؤلاء الأشخاص مجرَّد حظٍّ عاثر وعابر.
حياة الترحال إبقاءً على الذاكرة
الثيمة الأخرى التي يتعاطاها «نوماد لاند» هي التذكُّر والنسيان. فكرة أن الأشياء لا تزول من الوجود ما دامت في الذاكرة، وما دام ثمة وعيٌّ يُفكِّر فيها، حتى لو زال وجودها المادي. وقد جرى توكيد هذه الفكرة طوال الفلم باستحضار سونيتة شكسبير الثامنة عشرة، التي تلقيها البطلة في إحدى حواراتها: «هل لي أن أقارنكَ بيومٍ صيفيٍّ؟».
هل لي أن أقارنك بيومٍ صيفيٍّ رائق؟
إنما أنت أجمل وأكثر اعتدالًا:
فالرياح العاتية تُزلزل براعم الربيع العزيزة،
وما الصيف إلَّا لحظة عابرة؛
وأحيانًا تكون عين السماء ساخنة،
وغالبًا ما ترين عليها الغيوم.
وكلُّ جميل مصيره التدهور،
صُدفةً أو بسبب سيرورة الزمن.
ولكنَّ صائفتك الخالدة لن تبهت،
ولن يفارقك الجمال،
ولن يتباهى الموت بأنه ضمَّك إلى عالمه؛
ما إنْ أُخلِّدكَ في أبياتي.
وطالما أن صدورًا تتنفَّس،
وعيونًا ترى..
ستعيش قصيدتي،
وتمنحك الحياة.
تواجه فيرن هذه المعضلة: أنَّها القائم الوحيد على ذكرى زوجها ومنزلها. ولو تخلت عن هذه الذكرى أو تجاوزتها، سيزول زوجها من الوجود ولن يعود له بقاء في سجلات التاريخ. هي تتجوَّل بهذه الذكرى كمن يحمل شمعة يخاف عليها من الانطفاء ويداري عليها بيده. ومن ثمَّ فهي تُجسِّد البيت الأخير من سونيتة شكسبير «طالما أن صدورًا تتنفَّس، وعيونًا ترى.. ستعيش قصيدتي، وتمنحك الحياة».
لهذا تتمسَّك فيرن بحياة التنقُّل والعزوبة، رغم عروض السكن المُتكرِّرة ووجود الأشخاص المناسبين للارتباط. فهي تُحاول الإبقاء على ذكرى المنزل المفقود والزوج الراحل. ولو أنها اتخذت منزلًا بدل منزلها وزوجًا بدل زوجها، لتمكنَّت منهما قبضة النسيان.