الكدمات الخفية التي تتركها فينا «المعاملة بالصمت»

تُعرّف «المعاملة بالصمت» بأنها الصمت المتعمد حيث يمتنع الفرد عن الكلام مع الآخر. وهي في جوهرها عقوبة يُقصد بها إقصاء الشخص وتجاهله وعزله....

تترك كل مادة أقرؤها في نفسي أثرًا مختلفًا. لكنّ المادة التي أمسكت بقلبي قبل أيام وفتحت بابًا للذكريات والدروس كانت مقالة من مجلة ذا أتلانتيك، تتحدث عن «سيكولوجية المعاملة بالصمت».

أنهيت أعمالي مبكّرًا ذاك النهار وتفرغت تمامًا لقراءتها، وتوقفت طويلًا عند عدّة فقرات. تارة تدمع عيناي، وتارة أسجّل رسائل صوتية لمعارفي حتى أنبش ذاكرتهم حول الموضوع، ونتشارك حلولنا التي تجاوزنا بها الكثير من ألم هذا العقاب الصامت. 

أليس خلف المرآة

ذكرتني المقالة بمشهد من فلم سينمائي لـ«أليس في بلاد العجائب» وهي تصرخ تنادي عائلتها، وتطرق بيدها على مرآة عكست صورتهم، علّها تصل إليهم. لكن لا أحد من خلف المرآة يرى أليس أو يسمعها، أو هل تراهم كانوا يتظاهرون بذلك؟

تُعرّف «المعاملة بالصمت» بأنها الصمت المتعمد حيث يمتنع الفرد عن الكلام مع الآخر. وهي في جوهرها عقوبة يُقصد بها إقصاء الشخص وتجاهله وعزله

عرفت خلال حياتي أشكالًا كثيرة من الصمت ولم تكن كلها مؤذية. فمثلًا، لو حاولت تذكر صوت جدّي لأمي فلن أتذكره، لأنني لم أسمعه إلا عدة مرات في خمسة عشر عامًا. كانت عادته الجلوس صامتًا طوال اليوم لا يحدّث أحدًا إلا ليسأل عن موعد الصلاة أو لتحية ضيف يطرق بابه. لم يكن هذا الصمت مؤذيًا بل دافعًا للفضول والتفكر.

لكن عندما يقرر أحد والديّ أو كلاهما الامتناع عن الحديث معي تمامًا، أجدني أبدأ بتجربة كل طرق لفت الانتباه الممكنة: كالمرور من أمامهما في غرفة الجلوس أو الحديث عن مسلسل يحبانه أو عن الطقس والواجبات. وكلما اقتربت من مجال رؤيتهما، أحاول من جديد، لأتأكد من أنني «مرئية». وحين لا تثمر محاولاتي، أنتقل للمرحلة التالية فأعدّ أخطائي في ذاك اليوم، ولربما كنت سأنجح في تحديد الخطأ وإلقاء التهمة عليه. 

يرتبط لجوء الوالدين للمعاملة الصامتة بعدة أمور، واليوم لا يمكنني الجزم بأنّ الأذية السبب الوحيد خلفها. ربما يلوذان بالصمت حتى يتفاديا الانفجار واستخدام اللغة القاسية معنا. أو ربما -ببساطة- غمرتهما المسؤوليات ولا يتقنان طريقة أخرى لمعالجة الأمر سوى الصدود ووضع الحواجز. 

لكمة «المعاملة بالصمت» 

واجهتني المعاملة بالصمت في كلّ مكان وأنا أكبر، وفي كل مرة كانت ترتدي وجهًا جديدًا. أتذكر لعبة مؤذية كانت تلعبها إحدى الصديقات في المدرسة. أحضر باكرًا لأقف في الطابور ألقي التحية ولا أجد ردًّا. نذهب للصف ونجلس ويبدأ الدرس وأقول في نفسي: «ربما تمر صديقتي بيوم سيء.»

ومع استمرار صمتها، أنتقل لسلسلة عدّ الأخطاء. وما إن نخرج للّعب وقت الاستراحة أراها تبدو بخير وتضحك مع الصديقات الأخريات وتلعب وتأكل ولا تشكو من ألم.

وإذ بالصمت الطويل يتحول لعقدة مؤلمة في معدتي، أشعر بها حتى منتصف اليوم عندما تقرر أخيرًا الالتفات وهي تحمل حقيبتها خارجة للبيت: «كنت أمزح معك وجرّبت هذه اللعبة لأرى كيف تتصرفين.» وكيف تتصرف هيفاء؟ تغرق في البكاء.

تذكّر تلك اللحظات وتحليلها يقودني إلى استنتاج أساسي: تلك الطفلة جرّبت المعاملة بالصمت. وهي واعية تمامًا لأثرها وربما تعلّمت ممارستها بعد أن مورست عليها من البالغين. فالمعاقب بالصمت يعرف حجم الأذى الذي يسببه، ويختاره بعناية لأنه لا يترك أثرًا على جسد الشخص الذي يؤذيه ولا يصدر صوتًا صاخبًا ينتبه له الجميع. هذا الصمت يفترسك ببطء حتى تعتذر بشدة حدَّ التوسل، أو تقدم له الانتباه الذي يرغب به.

لا يمكنني الجزم بأن كل وقفة للصمت هي عقوبة أو أذى موجّه. قد يلجأ أحدنا للصمت أحيانًا عندما يبحث عن طريقة يستجمع بها قواه ويختار مفرداته بعناية. هذه الفترات لا تطول، وسرعان ما يعود بعدها الحوار إلى مساره الصحّي حتى وإن كان ذلك الحوار صاخبًا.

حيرة التساؤلات وارتجاج الثقة

تركت وظيفة جيدة وطموحة بسبب المعاملة بالصمت. بدأ الأمر تدريجيًا حتى تطوّر ووصلت معه إلى نهاية واحدة لم أجد عنها بديلًا. كانت تصل للمكتب صباحًا وتتجاوزني في صمت حتى تصل مكاتب الزميلات الأخريات، حيث تحييهن وتبدأ عملها. استمر الصمت لأيام ثم توقفتْ بعدها عن النظر ناحيتي، وعرفت حينها أنّها عقوبة الصمت التي خبرتها لسنوات.

امتد الأمر لمراسلات العمل. أذكر أنها طلبت مني إنجاز مهام ضخمة متتالية وشغلت بها عن كل أعمالي حتى أتممتها، فبعثت بها على بريدها الإلكتروني، لكنها امتنعت عن الرد. كانت من أسوأ فترات العمل التي مررت بها في حياتي، ومجرد فكرة الذهاب كل صباح ومواجهة هذا الصمت كانت تربكني وتعيدني طفلة حزينة ومنغلقة.

حتى هذه اللحظة لا أعرف سبب تلك العقوبة الممتدة ولم أجرؤ على طرح مزيد من الأسئلة. وأتساءل الآن إن كانت الفرصة الوظيفية التي قفزت تجاهها الخيار الأفضل فعلًا، أم أنني هربت من معاملة سيئة زعزعت ثقتي بنفسي ودفعتني بعيدًا. Click To Tweet

التغيير تفاديًا للضربة

إن كنت سأجد حسنة واحدة في التعرض المستمر لأذى المعاملة بالصمت ستكون التغيير. تغيير طريقتي في التعامل مع الموضوع وتقليل أثره في نفسي وتغيير التعامل مع الأشخاص الذين يمارسون عليّ هذه العقوبة.

فيما مضى، كنت أستسلم لسلسلة من السلوكيات التي تؤثر فيّ بالمقام الأول وتؤثر في علاقتي بالآخرين. أقابل الصمت المطبق بالانفعال والتصادم، وبدلًا من ترك أبواب الحوار مفتوحة، أقابل الصمت بالمثل، فتستمر الفجوة بالاتساع. لم تكن هذه الطريقة مجدية، وللأسف لم أجد معها الراحة، فالملفات المفتوحة تبقى معلقة كحمل ثقيل على كتفيّ.

بدأ التغيير من كسر هذا الصمت والحديث بهدوء دونما انفعال أو ضغط. أتحدث مع الشخص عن سبب صمته وانغلاقه، وأسأله إن كان ثمة ما يمكنني تقديمه كمساعدة أو دعم. وهذه الفكرة جيدة لأنها لا تفترض خطئي من البدء، بل تساعد في إيجاد سياق مختلف لهذا الصمت.

جرّبت أيضًا ونجحت في الحديث عن مشاعري التي أمرّ بها كلما طغى الصمت بيننا. وإذا كان الصمت بالغًا ووجدت ممانعة من الشخص، تركت الأمر لمدة ولربما تجاهلته حتى يعبر وينتهي أثره بلا صدام.

جرّبت أيضًا استشارة طرف ثالث ومحايد لمعرفة رأيه في الموقف. وفي بعض الأحيان وجدتني أنا المخطئة حقًا، ولم أتردد بالاعتذار ومعالجة تقصيري.

نجح الحديث عن الموضوع في وضع حدودي الشخصية لعلاقتي مع الآخرين، وبصيغة أخرى: إعلاني رفض هذه التصرفات وعدم قبولها في المرة التالية. جاءت هذه التغييرات بدافع الحب وأهمية تصفية الأجواء والوصول بلطف لطريقة التواصل الأفضل بيني وبين كل من يهمني أمره.

حافظ على قبضتك المحكمة

عندما يعاقبنا الآخر بالصمت نصبح، بطريقة أو بأخرى، شركاء له في الألم. فهو يحافظ على هذه العقوبة ويغذيها بشكل مستمر حتى لا يسهو ويعود للحديث معنا فيخسر قبضته المحكمة على الموقف. الآخر صامت لأنه غاضب من شيء أو خائف من المواجهة أو يشعر بالضجر مثلًا، فيجرّنا مرتبكين إلى ألمه. كلما تأملت هذه الصورة تخففت من شعوري بأن العقوبة شخصية تجاهي. لم يكن الأمر سهلًا في البدء لكنني بالتدريج أتقنته. 

اكتسبت -مع النضج والتجربة- القدرة على تفادي توجيه الأذى إلى نفسي، وتعلم هذه المهارة ليس سهلًا. وفي حالة «المعاملة بالصمت» تصبح هذه المهارة أهمّ، لأن الآخر، في صمته، يدفعك إلى تسديد اللكمات بلا هوادة إلى نفسك.

الصمتالعزلةالعقوبةالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية