لِمَ يُقبل المستثمرون على شراء سندات بعائد سلبي

أصدرت السعودية سندات باليورو ذات أجل يبلغ ثلاث سنين وبعائد السلبي، لكن ماهي الدوافع للاستثمار بسند ذو عائد سلبي وماهي الفوائد للسعودية؟

في شهر فبراير، أصدرت السعودية سندات باليورو، وهو ليس بالأمر الغريب. إذ سبق هذا الإصدار إصدارٌ آخر بنفس العملة منتصف عام 2019.

لكن الجديد هذه المرة نجاح السعودية في أن يكون عائد السندات، ذات أجل يبلغ ثلاث سنوات، بعائد سلبي، وذلك للمرة الأولى في تاريخها. إذ طرحت سندات بعملة اليورو على شريحتين: الشريحة الأولى مدتها ثلاث سنوات وعائدها 0.57% بالسالب وحجمها مليار يورو، أما الثانية فمدتها تسع سنوات وعائدها 0.646%. 

بذلك تصبح السعودية أكبر مصدّر لسندات باليورو من شريحة الثلاث سنوات وبعائد سلبي خارج منظومة الاتحاد الأوربي. إذ سبق أن أطلقت الصين سندات باليورو وبعائد سلبي، لكنها لم تكن بهذا الحجم.

يعني ذلك أن من أقرض السعودية سندات الثلاث سنوات سيحصل على مبلغ أقل من ذاك المستثمر به، أي أن البلد سيرجع الدين بأقل من المبلغ الأصلي. فلو افترضنا أن السند قيمته مائة واثنان يورو، ستسدده السعودية بعد ثلاث سنوات بمائة يورو فقط.

الغرابة في إصدار هذه السندات وما يثير التساؤل: لِم يُقبِل المستثمرون على الاستثمار في سندات تعطيهم عائدًا سلبيًّا؟ أو لِمَ يقرض المستثمرون السعودية وغيرها من البلدان بالخسارة؟

ما هي السندات؟

السندات أوراق تصدرها الحكومات والشركات، وتتعهد عبرها بدفع قيمة السند في يوم محدد. في حالتنا: لنفترض أن قيمة السند مائة ريال، أي حينها يعطي المستثمر -وهو المُقرض- السعودية -وهي المقتَرِض- خمسًا وتسعين ريالًا، وهو مبلغٌ أقل من مبلغ يوم السداد أو نهاية السند. بهذا يدفع المستثمر خمسًا وتسعين ريالًا في بداية السند، ويستلم مائة ريال في نهايته.

ولو امتدت مدة السند لسنة واحدة، يصير ربح المقرض حينها 5.2% تقريبًا، وهو الربح السنوي المسمى بالعائد. في العادة، تتراوح مدد السندات من سنة واحدة إلى ثلاثين سنة، وفي بعض الأحيان قد تتجاوز ذلك.

بعد إصدار السندات، يجري تداولها في الأسواق على غرار الأسهم لكن مع اختلاف. فالسندات لها نهاية محددة، على عكس أسهم الشركات، ويكون العائد معروفًا في سوق السندات.

فمثلًا تعطي السندات المصدرة بعملة اليورو من الدول ذات التصنيف الأعلى اليوم عائدًا مختلفًا حسب مدة السند (ضمن تصنيفٍ محدد يستدل به على مدى متانة الوضع المالي للدول، وقدرتها على السداد، ودرجة المخاطر) فكلما قصر السند كان العائد بالسلبي، وكلما طال أمد السند ارتفع العائد للإيجابي.

على سبيل المثال: عائد السنة الواحدة يأتي بحدود -0.68% والعشر سنوات بحدود -0.27% والثلاثين سنة بحدود 0.29%. هذه النسب وغيرها من مدد أخرى لم تُذكر هي ما يسمى بـ«منحنى العائد».

العوامل المتحكمة في تغير «منحنى العائد»

يتغير «منحنى العائد» باستمرار مع تغير سعر السند. فمثلًا يقدّر عائد السند البالغة قيمته مائة ريال عند السداد، والمتداول في السوق، بسعر تسعة وتسعين، وبمدة سنة 1% تقريبًا. لكن إذا تغير السعر إلى ثلاثة وتسعين ريالًا، يصبح عائد السند 7.5%، وهكذا تتغير الأسعار في السوق. 

تتحكم عدة عوامل مهمة في تغير الأسعار منها العرض والطلب في السوق والسيولة وتغير درجة الائتمان والمخاطر لدى الدولة مصدرة السند. فإذا ارتفعت المخاطر حول صعوباتٍ تواجه اقتصاد الدولة مثلًا، وفي حال التخوّف من قدرتها على السداد، ستُباع سنداتها. ما سيضغط على أسعار السندات نحو الانخفاض، وتؤدي بالتالي إلى ارتفاع العائد على سنداتها.

أما العامل الأخير الذي يهمنا، التوقعات بشأن أسعار الفائدة المستقبلية. فإذا جاءت التوقعات بانخفاض أسعار الفائدة مستقبلًا، ستصبح عوائد السندات الحالية مغرية مقابل عوائد الفوائد المستقبلية. لذلك يُقبل المستثمرون على شراء السندات، والعكس صحيح.

فمثلًا لو كان معدل الفائدة اليوم 1% وعائد السندات لخمس سنوات 1.5%، وثمة توقع بانخفاض معدل الفائدة خلال السنة القادمة إلى 0.75%، تصير السندات مغرية لمن يريد الاستثمار في هذه الأسواق. فنشهد ضغطًا بالشراء على السندات ثم ارتفاع أسعارها. وبطبيعة الحال، ينخفض العائد بارتفاع السعر، حتى يستقر عند مستوى يتوافق مع أسعار الفائدة المتوقعة مستقبلًا.

دوافع الاستثمار في السندات ذات العائد السلبي

بعد تبسيطنا لكيفية عمل أسواق السندات والعوامل التي تحركها وكيفية تغير العائد، ينبغي الآن الإجابة على السؤال الأساسي: لماذا يُقبل المستثمرون على شراء سند يعطي عائدًا سلبيًّا؟ ونلخص الإجابة في عدة أسباب:

  1. لا يعني العائد السلبي للسند بالضرورة خسارة للمستثمر. فمن يريد الاستثمار في السندات الأوربية من المستثمرين الأميركيين مثلًا قد يحقق أرباحًا من ذلك عبر التحوط ضد العملة. تعطي تلك، من خلال تبادل عملة الدولار مع اليورو، عائدًا سنويًّا يضاف إلى استثماره في السند. وبذلك سيحقق عائدًا إيجابيًّا قد يكون أعلى من عائد استثماره في سند أميركي على المدة ذاتها.

  2. الاستثمار في السندات متطلب في تنويع المحفظة. والكثير من الصناديق والمحافظ حول العالم ينبغي بها توزيع أصولها بشكل مقنن ومنضبط حسب اللوائح، ودائمًا للسندات الحكومية حصة محددة فيها. ولهذا حتى لو أعطت السندات عائدًا سلبيًّا، ينبغي على مدير المحفظة الاستثمار فيها بغية تنويع الاستثمارات وتخفيض مخاطر تركز الأصول، وذلك وفق السياسات الاستثمارية التي يعمل عليها.

  3. تعدّ السندات ذات العائد السلبي مناسبة إذا كان ثمة توقعات بحصول تضخم سلبي، بمعنى أن يكون التضخم متوقعًا بحدود 2% بالسالب. فتعدّ السندات التي تعطي 1% بالسالب إذن مناسبة كأداة تحوّط، لأنها تحفظ المال من التضخم السلبي الذي يقلل من النقد بـ2%.

  4. لا بديل مناسب عن القبول بالعائد السلبي، خصوصًا مع وجود فائدة سلبية على بعض العملات مثل اليورو. فالبنك المركزي يفرض فائدة سلبية على البنوك عند إيداعها للأموال لديه، الأمر الذي يضغط على البنوك التجارية نحو فرض فائدة على أصحاب الحسابات مقابل إيداع مبالغهم لديها، وهذا معاكس تمامًا للعلاقة التقليدية بين البنوك والمودعين.

    بدأ بنك «يو بي إس» مثلًا بفرض فائدة على الحسابات ذات المليون يورو وأكثر، ما وضع أصحاب الثروات والحسابات الكبيرة أمام معضلة: إما القبول بالفائدة أو سحب أموالهم والاحتفاظ بها على هيئة نقد في خزائنهم. وخيار السحب ليس بالخيار الجيد لأنه مكلف من حيث تأمين الحراسة والأمن بمبالغ تكلف أكثر بكثير من الفائدة التي سيضطر المودع إلى دفعها للبنك. ولذلك خيار شراء السندات أفضل من الإبقاء عليها نقدًا لدى البنك.

  5. من الممكن تحقيق ربح من السندات ذات العائد السلبي لدى ارتفاع سعرها في المستقبل. فمثلًا عندما طرحت السندات الألمانية عام 2019 بسعر 102.6 يورو، أي بعائد سلبي لمن اشتراها، ارتفع سعرها في السوق بعد عدة أشهر إلى 106.9 يورو. فحققت بذلك ربحًا بمقدار 4% لمن أراد بيعها على هذا السعر.

أهمية «منحنى العائد» في تسعير الأصول 

تجعل هذه الأسباب وغيرها الإقبال على الأصول ذات العائد السلبي قويًا، حيث تقدر حجم الأصول ذات العائد السلبي (السندات بعائد سلبي) بحدود ثمانية عشر تريليون دولار، وهو رقم مهول. 

كذلك ثمة جانب مهم فيما يخص «منحنى العائد»، حيث يعد مؤشرًا مهمًا في تسعير الأصول. فبُغية تقييم شركة أو أصل استثماري، يستخدم المستثمر العائد من السندات الحكومية الخالية من المخاطر كمعامل استرشادي لمقدار الخصم الذي سيطبقه على تسعير قيمة الاستثمار أو الأصل.

وينطبق التقييم ذاته على الأصول العقارية والأسهم كذلك. فإذا ارتفع العائد على السندات، فهذا معناه أنني كمستثمر سأطالب بعائد أعلى على الأسهم أو العقار، بحكم أنها أعلى مخاطرة من السندات الحكومية الخالية من المخاطر، وهذا ما سيؤدي إلى خفض أسعار الأصول، والعكس صحيح. لهذا من المهم معرفة اتجاهات العائد لكونها تؤثر في نهاية المطاف على أسعار الأصول الأخرى.

عمومًا، استطاعت السعودية الاستفادة من كل هذه العوامل في إصدار سندات بعملة اليورو وبعائد سلبي. ومن شأن هذه الخطوة تعزيز حضور المملكة في سوق السندات كمصدّر ناجحٍ يعطي ثقة للمستثمرين في السندات السعودية.  Click To Tweet

ومن المهم الإشارة إلى أنَّ هذا ليس هدف السعودية الوحيد من الإصدار، بل هي خطوة مهمة لتغطية احتياجات السعودية من عملة اليورو في فاتورة المشتريات. فمقابل هذه المبالغ باليورو، يتسنى للسعودية شراء أصول ومنتجات بالعملة ذاتها. وهنا تكمن الأهمية المتعددة في إصدار السندات بعائد سلبي. 

الاستثمارالاقتصادالسعوديةالسنداتالرأسمالية
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية