القياس

لم يتمَ تصميمُ هذا العالمِ من أجلك، فكل شيءٍ من حولِكَ قد تم تصميمهُ بناءً على متوسط الأشخاص. نعم، يأخذون مجموعةً ويقيسون عليهم ما يريدون، ويلبسونك أو يقيمونك بناء على حاصل قسمة المجموع على عدد أشخاص تلك المجموعة! ففي مسيرتكَ الدراسيةِ خضت اختباراتٍ تم تصميمها وفقًا لمتوسطِ الطلبة، وتم تقييمكُ بناءً على المعدّلِ. وملابسك مصممةٌ بناء على المتوسط. كل هذه المعايير صممت بناء على مفهومٍ واحد: المعدّل!

لم يتمَ تصميمُ هذا العالمِ من أجلك، فكل شيءٍ من حولِكَ قد تم تصميمهُ بناءً على متوسط الأشخاص. نعم، يأخذون مجموعةً ويقيسون عليهم ما يريدون، ويلبسونك أو يقيمونك بناء على حاصل قسمة المجموع على عدد أشخاص تلك المجموعة! ففي مسيرتكَ الدراسيةِ خضت اختباراتٍ تم تصميمها وفقًا لمتوسطِ الطلبة، وتم تقييمكُ بناءً على المعدّلِ. وملابسك مصممةٌ بناء على المتوسط. كل هذه المعايير صممت بناء على مفهومٍ واحد: المعدّل!

لكن، لحظة. لماذا تم تصميم حياتك بناءً على (معدّل!) هل تتوقع أنّ البشرية تعاملت بالمتوسط منذ أن ظهر الإنسان الأول؟ بالطبع لأ! في كتابِ The End of Average قامَ الكاتب الدكتور في جامعة هارفر الأميركية تد روز (Ted Ross) بالتحدثِ عن أولِ من ابتكرَ فكرةَ المعدل وهو عالم الفلك والرياضيات البلجيكي، أدولف كَدَلي (Adolphe Quetelet).

في السابقِ، كان يعاني علماءُ الفلكِ من استنتاجِ الأرقامِ وحلِ الحسابات. فمثلاً، لو عدنا بالزمن إلى عام 1830، وأراد حينها أحدُ العلماءِ قياس سرعةِ كوكبِ زحل، سيقومُ برسمِ عشرةِ خدوشِ على عدسةِ التلسكوب، ثمَ يتابعُ وينتظر حتى يصلَ الكوكبُ إلى إحدى الخدوش، وعندها يقومُ بالعدِ حتى يصلَ إلى الخدشِ الثاني ليبدأَ العدَ مجددًا. هذه الطريقة بدائية وغير دقيقة. فإذا تمَ قياسُ ثانيةٍ بشكلٍ خاطئ فإن هذا سوفَ يؤثر بشكلٍ كبيرٍ على النتائج. ومن هنا أتى البلجيكي كَدَلي لينقذ العلماء، ويطبق فكرةً خطرت بباله، يقوم بجمعِ نتائجِ جميعِ الحسابات وقسمةُ الناتجِ على عددِ العناصر، لتكونَ بذلكَ وصلت إلى المعدلِ وكانت هذهِ الطريقةُ تستخدمُ للتعويضِ عن عدمِ دقةِ الأجهزةِ الفلكيةِ في ذاكَ الحين.

اليوم، لا تستغربُ عندما تسمعُ إحصائياتٍ عن متوسط عدد الوفياتِ لكل عام من حوادث المرور في المملكة، أو عن متوسط عمر الإنسان الذي تطمح الرؤية أن يصل إلى 80 عامًا (كمتوسطٍ لعمر الإنسان) في 2030.

وبينما نحن تعودنا اليوم على سماع (كلمة) المعدّل، فلم يكن هذا الأمر متقبلاً لدى الناسِ في الماضي، فقد كانوا يشعرونَ بأن الإنسانَ مجردُ إحصائياتٍ وأرقامٍ وليسَ هناكَ مجالٌ للإرادةِ الشخصيةِ، فأصبح من المحتمِ عليكَ أن تقعَ ضمنَ أحدِ هذه الإحصائيات. إلاّ أنّ كَدَلي كان رادكاليًا لهذا المفهوم، حيث يرى أن المعدلَ هو “الحقيقة” وأنَ كلَ ما يخرج عن (المتوسط) هو (خطأ) وأن الطبيعةَ تسعى للوسطية. فكان يفترض إن تعرضَ جميعُ الأشخاصِ للتغذيةِ الصحيةِ ونموا في أجواءٍ مشابهةٍ سوفَ يكونوا جميعهم في المتوسط (أي متقاربي الطول والوزن والذكاء وخلافه)!

ويبدو أنّ البلجيكي هام بهذه الطريقة التي ابتكرها. ففي الأربعيناتِ من القرنِ الثامنِ عشر، أخذ كَدَلي يطبقُ نظريةَ المعدلِ على كلِ ما حولهُ. فقامَ بحسابِ معدلِ الطول، والذكاء، والوزن والزواج والإنجاب… تدري، حتى الانتحار وضعه ضمن اختباراته! ومنذ ذلك الحين، بدأنا نستخدم مفهوم المعدّل أو المتوسط على كل شيء. والذي يعرف اليوم بمعيار BMI.

وفي القرنِ التاسعِ عشر، واجهت الولاياتُ المتحدةِ حربًا أهلية أدّت لخسائر بشرية هائلة. رأى أبراهام لينكون أنّ عليه دراسة وضع الجنود، وكونه من معجبي كَدَلي، فقد طلبَ إقامةَ دراسةٍ تقيسُ متوسطَ الجنودِ من جميعِ النواحي. وكانت نتيجةُ هذه الدراسةِ هي الأساسُ في تحديدِ تصاميمِ الأسلحةِ وقياساتها ومعدلِ الوجباتِ التي يتمُ إرسالها، وكذلك نوعِ وحجمِ الملابسِ التي تصممُ للجنود.

للعلم، قبل الحرب الأهلية هذه، كانت ملابسَ الجنودِ تفصّل لكل واحدٍ بناءً على قياساته. إلاّ أنّ الحرب الأهلية تطلبت تجنيدًا سريعًا وضخمًا، ما جعلهم بحاجةٍ لإنتاجٍ ضخم وموحّد. وكون اعتبار الجنود كلّهم بذات القياسِ خطأً فادحًا، قسموا قياسات الملابسِ إلى ثلاثة أصناف: كبير (لارج) ومتوسط (ميديوم) وصغير (سمول). نعم، القياسُ الذي تجدهُ في المحلاتِ اليوم، هو نتيجةُ دراساتٍ حربية.

وفي عامِ 1926، قام الجيش الأميركي بتصميمِ أول حجرةِ طيرانٍ لطائرةٍ حربية. فقام فريقٌ من الباحثينَ بالقيامِ بما جرت عليه العادةُ، وقاموا بأخذِ قياساتِ الطيارينَ ليتمَ اشتقاقُ متوسطِ حجمِ الطيارِ وصنعِ الحجرةِ على هذا الأساس. وتبعِ ذلك كلَ الملحقاتِ التي يستخدمها الطيار من مكبحِ الطائرةِ وحتى الخوذة. كلها قد صممت من أجلِ الطيارِ المتوسطِ. وكانت طريقةُ اختيارِ الطيارين هي قبول كلِ من قاربَ هذا المقياس واستبعادِ كلِ من لا ينطبق عليه القياس، ولا تزال بعض الدول تتعامل بهذا المنطق.

كان هذا هو المقياسُ حتى قامت الحربُ العالميةُ الثانيةُ، فهنا، كانت الولايات المتحدة توظّف عددًا كبيرًا من الطياريين الحربيين. ورغم تطوّر الطائرات الحربية انذاك، إلاّ أنّ أميركا وجدت النتائج مهولة، فالوفيات للطيارين في ازدياد، والأداء في تراجع واضح! وليست المشكلة في قوة العدو لهم، بل كان الطيارين يموتون أثناء التدريبات الجوية! والحمد لله أنّ مفهوم العين لم يكن جامحًا لديهم كما هو الحال لدينا. فهناك مشكلة، وعليهم حلّها.

بقي الأمر غامضًا لبضع سنوات، ومعدّل الوفيات للطيارين في ازدياد. وبينما كان اللوم يوجّه إلى قطاع التدريب في القوات الجوية، اكتشفوا بعدها أنّ اللوم يقع على حجرة القيادة! فلم يكن حجمه مناسبًا لمعظم الطيارين.

فالحجرة بالكامل مصممة لمتوسط الجندي في العشرينات، وظّنت الحكومة أن حجم الإنسان قد ازداد في الخمسينات، فطلبت بحثًا حديثًا لمتوسط الجندي الأميركي. كان المسؤول عن هذا البحث، جيلبرت دانيالز الذي بدأ في أخذ قياسات الالاف من الجنود وحسابها، إلاّ أنّه لاحظَ الإختلافَ الكبيرَ في جسمِ كلِ فردٍ منهم، فطلبَ أن يجري دراسةً جانبية. في هذه الدراسةِ قام دانيالز بأخذِ العشرةِ العواملِ الأساسيةِ للقياس ثم جمعِ مجموعها وقسمها على عددِ الطيارين ليرى كم منهم ينطبقُ عليهِ المقياسُ المتوسط. كان عددُ الطيارينَ 463,000 ولم يطابق المعدل المتوسطُ أيًا منهم!

كانت هذه بدايةُ نهايةِ تطبيق معيار الوسط على كلّ شيء. فمن بعدِ هذا البحثِ قامت القواتُ الجويةُ بتغيرِ تصاميمِ الطيارة من الداخل وعتادها بالكامل، جاعلةً إياها قابلةً للتعديلِ على حسبِ احتياجِ الطيارِ.

وكون القطاع الحربي يقودُ القطاع المدني في الابتكاراتِ، كان هذا الابتكار هو النتيجةُ لأن تكونَ السياراتُ بهذا الشكل من الداخل. تخيل أنك لا تستطيعُ أن تقدمَ أو ترجعَ الكرسي، أو لا تستطيعُ رفعَ المقود.

اليوم، الملابس التي نلبسها، هي مصممة بناءً على معدّل الشخص الأميركي أو الأوربي، وقد تكون على مقياس الجندي منهم، وهذا ليس بالضرورة هو الوضع الذي يجب أن نكون عليه اليوم. وأما الأدهى والأمر، هو النطاقُ التعليميُ الذي يُعرِضُ عن الخروجِ عن دائرةِ “المتوسط”، فيقومُ بصنعِ اختباراتٍ وبرامجٍ و مستوياتِ تقييمٍ للشخصِ المتوسط. فالحقيقة، أنّه ليس هناك شخصٌ متوسط.

التاريخالتصميمالتعليمالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية