رياض سلامة، من المجد إلى قفص الاتهام السويسري

تطال رياض سلامة الاتهامات حول تبييض الأموال بغطاء سياسي، تكتب محاسن مرسل عن الاتهامات وتداعياتها وحيثياتها.

«رياض سلامة»، حاكم مصرف لبنان، اسمٌ يردده الشعب اللبناني كل يوم، فهو بنظرهم من هندس مخارج الهروب من الأزمات للطبقة الحاكمة، مسخّرًا في سبيل ذلك أموال المودعين، ومعمقًا جذور حكام عاثوا فسادًا في الدولة اللبنانية حتى اهترأت. وبعد اندلاع ثورة السابع عشر من أكتوبر عام 2019، انفجرت أزمة متشعبة الأطراف: اقتصادية واجتماعية ونقدية وصحية. فكيف حصل كل ذلك؟

بالمختصر أُطلقت يد سلامة في رسم السياسات النقدية، وفق ما يلائم السياسيين وأصحاب الحظوة. فعمد إلى خلق النقد دونما أسس صحيحة، إما عبر طباعة الأوراق النقدية، أو عبر ما سمي بـ«الهندسات المالية» على أنواعها، وذلك لاستقطاب العملة الصعبة. 

الغطاء السياسي النقدي لعمليات تبييض الأموال

مثال على السياسات النقدية التي رسمها سلامة الاستفادة من التدفقات المالية إما على شاكلة استثمارات، أو إيداعات في المصارف بفوائد عالية. ثم توظيف أو إيداع هذه الأموال لدى المصرف المركزي، فيضخها في الأسواق بائعًا، بهدف تمويل الاستيراد، الذي تصل نسبته إلى أكثر من 75%. يحافظ بذلك على ثبات سعر الصرف لليرة مقابل الدولار، وعلى مستويات تضخم مقبولة.

كذلك تغذي تلك الأموال الدولة، عبر تمويل مديونيتها. إذ كان إنفاق الدولة الأعلى على الكهرباء، وعلى رواتب القطاع العام وتعويضاته المتضخمة نتيجة التوظيف السياسي، وخدمة الديْن العام، وغيرها من المشاريع الواقعة تحت مسمى عقود رضائية بمئات ملايين الدولارات، معظمها وهمي أو ذو كلفة مضخمة.

أجريت هذه العمليات الاحتيالية كلها عبر ثلاث قنوات: المصارف ومصرف لبنان والطبقة الحاكمة، مستنزفةً أموال المودعين البالغة 102 مليار دولار. إذ يطالب الشعب اللبناني بتدقيق جنائي ليعرف كيفية اختفاء هذه الأموال.

على مدى عقدين ونيف من الزمن، حظي سلامة بثقة دولية نتيجة التزامه بتطبيق حزمة القوانين الدولية على القطاع المصرفي. من تلك القوانين قانونا «هيفبا1» و«هيفبا2»المتعلقان بمنع ولوج حزب الله إلى النظام المالي العالمي.

وجد سلامة نفسه، وخلال شهرٍ واحد، أمام قرارٍ لتجميد أمواله في البنوك السويسرية بطلبٍ من القضاء السويسري، وذلك لشكوك الأخير بأن مصدر هذه الأموال مصدرٌ جرمي، ناتج عن عمليات تبييض أموال. ثم جاءه الخبر الذي وزّعته وكالة بلومبيرق الاقتصادية قائلًا إنّ الإدارة الأميركية تناقش فرض عقوباتٍ على حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة. نفت الخارجية الأميركية الخبر، لكن يؤكد البعض على أنّ العقوبات آتية لا محالة. 

في رد فعل، توجه سلامة الذي يحمل الجنسية الفرنسية للقضاء الفرنسي، بهدف مقاضاة كلٍّ من الإعلامية اللبنانية التي سربت خبر تجميد أمواله، ومراسلة وكالة بلومبيرق في لبنان، وكل من شوه سمعته، على حدّ زعمه. 

كيف يقرأ القانون اللبناني مسار التحقيقات وتداعياته؟  

بحسب المحامي أنطوان صفير، ينبغي على السلطات السويسرية تتبع الأصول والأنظمة الدولية في تحقيقاتها حتى تتأكد من ضلوع الشخص المتهم بعمليات تبييض أموال، سواء أكان حاكم مصرف لبنان أو سواه. وفي حال ثبتت صحة المعطيات، تمضي السلطات قدمًا بتدابير عدة، أولها تجميد أموال المتهم، وأموال المتعاملين معه، إذا ما ثبت تورطهم أيضًا في عملية تبييض الأموال، أو معرفتهم بها. 

وتوزع السلطات السويسرية استنابات، أو تكليفاتٍ للسلطات القضائية، على دول العالم، وتتخذ كل دولة قرارها في هذا الشأن. ويلفت صفير، إلى أنّ لبنان يُعاقب على جريمة تبييض الأموال، إذا ما ثبتت عناصرها.

لكن التحقيق السويسري لا يلزم القضاء اللبناني، ولا السلطات اللبنانية بأيّ خطوة، إلا إذا جرى تحقيق في لبنان، وتبين له صحة ادعاءات القضاء السويسري ودقتها. ومن الممكن أيضًا أن ينفذ الحكم السويسري بعد أن يتبين له أن ثمة حقائق دامغة حول صحة جرم المدعى عليه، سواء الحاكم أو أي شخص آخر. عند ذاك، تطبق المواد القانونية التي تتعلق بجرم تبييض الأموال.

أما من ناحية العقوبات الدولية، فمن الممكن أن تطال أفرادًا أو رجال سياسة. ومن الممكن أن تصدر بصفة فردية فتطال شخصًا واحدًا، أو جماعيًّا فتطال عدة أشخاص.

لكن القانون الأشد صرامةً لجهة العقوبات قانون ماقغنيتسكي، الصادر عن السلطات الأميركية. ويتعلق القانون بقضايا الفساد وتبييض الأموال وانتهاك حقوق الإنسان وما شابه، وهنا تصبح الأمور أكثر تعقيدًا لأنها تطبق على مستوى العالم. أي سيمنع الشخص المتهم أو الواقع تحت طائلة العقوبات من الولوج للنظام المالي العالمي أو فتح حسابات مالية، فضلًا عن تجميد حساباته في المصارف العالمية.

تداعيات الاتهام على محاولات إنقاذ لبنان ماليًّا

يرى الخبير الاقتصادي، منير يونس، جملة تداعيات للقضية التي يحقق فيها القضاء السويسري منذ 19 يناير من العام الحالي، والمتعلقة باتهام سلامة بتبييض الأموال.

تبدأ التداعيات بسمعة البنك المركزي على المستوى الدولي، فإذا اهتزت الثقة بهذه المؤسسة النقدية اللبنانية، يصبح إنقاذ لبنان بقروض ميسرة أصعب بكثير. إذ كيف يمكن تحويل أموال إلى البنك المركزي وحاكمه متهمٌ بالاختلاس وتبييض الأموال؟

لهذا يجب التعجيل في هذه القضية حتى لا يتضرر لبنان، في وقت هو بأمس الحاجة إلى المساعدة المالية الدولية. Click To Tweet

والقضية تتجاوز سلامة، فتوجد جملة تحويلات مشبوهة من لبنان إلى سويسرا أجراها سلامة وشقيقه رجا ومساعدته ماريان حويك. إضافة إلى إجراء شخصيات سياسية أخرى ورجال أعمال لحوالاتٍ مشابهة، لكن هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان امتنعت عن تسمية هذه الشخصيات، تحت حجة عدم ارتكابهم أي مخالفة قانونية. 

ففي لبنان، وحتى اليوم، لم يقرّ قانون القيود على حركة الأموال. وما قامت به المصارف من حجزٍ لأموال المودعين تصرفٌ استنسابي مارسته على البعض، بتغطية من حاكم مصرف لبنان والسلطة السياسية.

وتقدر تلك الأموال المنهوبة بمليارات الدولارات منذ عام 2016 وحتى اليوم. وهكذا ينتظر المجتمع الدولي نتيجة التحقيقات السويسرية لمعرفة مدى فساد سياسيي لبنان، وبالتوازي، تنادي مطالب شعبية باستعادة الأموال المنهوبة والمحولة إلى الخارج. 

بدأت التحويلات عام 2016، أي في السنة التي لجأ فيها سلامة إلى الهندسات المالية بفوائد زادت على 30% لجذب دولارات من الخارج، وبهدف تعزيز ميزان المدفوعات واحتياطي العملات الأجنبية.

السؤال هنا: كيف يمكن تفسير تلك الهندسات على أنها للمصلحة العامة، في ظل لجوء سلامة وسياسيين إلى تهريب الأموال إلى الخارج؟ فهل علموا أن الانهيار آتٍ، فحولوا أموالاً من الداخل إلى الخارج، بينما ضللوا آخرين إلى تحويل أموالهم من الخارج إلى الداخل؟

تواطؤ الطبقة السياسية مع رياض سلامة

ويلفت الخبير الاقتصادي، يونس، إلى أن المفاوضات المقبلة مع صندوق النقد، في حال تشكلت حكومة جديدة، ستكون خشبة الخلاص شبه الوحيدة للبنان. وسيضيف صندوق النقد بندًا ضمنيًّا يتعلق بمصداقية سلامة نفسه.

فمصادر مقربة من وفد صندوق النقد، الذي تولى المفاوضات الأولى مع الحكومة المستقيلة، يتهم سلامة وغيره من النواب والمصارف بإفشال هذه المفاوضات. إذ كيف يمكن الوثوق به وبأرقامه وخططه وهو المتهم بالاختلاس وتبييض الأموال؟

تضاف هذه القضية الخطيرة إلى جملة مؤشرات أخرى تضغط على سعر صرف الليرة اللبنانية. فالحاكم المعني بحكم قانون النقد والتسليف، والحفاظ على سلامة التعاملات وشفافيتها، وتعزيز مناعتها والحوكمة فيها دفاعًا عن الاستقرار النقدي، هو نفسه متهم في قضية خطيرة تتعلق بتضارب المصالح واستخدام النفوذ.

إذا ثبت تورط سلامة، فإن العقوبات بانتظاره على المستوى الدولي، وستفرض عليه الاستقالة من منصبه، ويوجد تدقيق جنائي في حسابات مصرف لبنان مطلوب دوليًّا. ومع قضية كهذه، فلا بد من شمول حسابات الحاكم وحسابات السياسيين الذين حولوا مثله أموالاً الى الخارج.

ويتساءل يونس عمن منع، ويمنع حتى الآن، إقرار قانون ضبط التحويلات (Capital Control) في المجلس النيابي، وعلاقته بهذه القضية وبالتحويلات عمومًا. لأن المودع الصغير مُنع من سحب مدخراته، بينما يُسمح ذلك لآخرين نافذين، بحجة عدم وجود قانون لضبط التحويلات.

قراءة أخرى لحيثيات الاتهام

وجهة النظر الأخرى لا تُحمّل تداعيات ما آلت إليه الأمور اليوم إلى حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة. إذ ترى أنَّ المسؤولية لا تقع عليه وحده، بل على الآخرين أيضًا. هذا رأي الخبير الاقتصادي الدكتور أنيس أبو دياب، والذي يرى أن الكيدية السياسية في لبنان هي من تحكم أي إدانة أو ملاحقة لشخصيات سياسية، أو في سدة المسؤولية. بينما في المقابل، يتسم القضاء في سويسرا بالاستقلالية. 

فالحملة على سلامة بدأت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أي منذ العام 2005، ولاعتبارات عدة. لكن تعاطي الإعلام مع هذا الملف وتضخيمه بحسب أبو دياب يضر بلبنان ويضغط على الاقتصاد وعلى المشاكل النقدية في البلاد.

لا سيما أننا اليوم، كما يقول أبو دياب، بحاجة لاستعادة الثقة بكل القطاع المصرفي. وفي آخر المطاف، سيحدد التدقيق الجنائي مسؤولية كل فرد عما ارتكبه طيلة السنوات الماضية، فلا داعٍ- بحسب أبو دياب- لاستباق الأحكام.

مما لا شك فيه، أنَّ عقاب من سرقوا ونهبوا الشعب اللبناني آتٍ لا محالة. فهذا الشعب يتمسك بأي تصريح يبشّر بمحاسبة من أودى بهم إلى التهلكة. لكنهم فقدوا الثقة بالقضاء المحلي المسيَّس والموالي لهذا وذاك من رجال السلطة وأتباعها. لهذا فعيْن الشعب اللبناني ورجاؤه في محاسبة دولية تعاقب هذه الطبقة الحاكمة وأزلامها.

الاقتصادصندوق النقد الدوليلبنانالسلطة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية