الفرق بين الأفلام الغنائية والزير سالم

على مدار حلقات الزير سالم ، تعبّر شخصيات القصّة عن فخرها وحزنها وغضبها وفجعها بالشعر.

على مدار حلقات الزير سالم تعبّر شخصيات القصّة عن فخرها وحزنها وغضبها وفجعها بالشعر، و قد كان الشعر سلاح العرب ووسيلة تعبيرهم الأولى.

إلا أن المخرج حاتم علي، يصوّر هذه القصائد وكأنه يصوّر أي مشهد آخر. فيكتفي بعرض الشخصية تسرد القصيدة، ويقع حمل نقل المشاعر خلفها على الممثل بالكامل.

وهذا الخطأ مزعج لأن الشعر بطبيعته ثورةٌ على التصوير الباهت. يستطيع الشاعر أن يعبّر عن مشاعره بأكثر من طريقة، يستطيع أن يعلن شعوره ببساطة فيقول “أنا حزين” مثلاً. إلا أنه يختار التعبير عن مشاعره شعراً لأنه لا يريد الاكتفاء بنقل المعلومة، بل يريد نقل الشعور أيضًا.

وحتّى مع الالتزام بالوزن والقافية، فالشعر لا يعتبر شعرًا دون أن ينقل الشعور. يصف الأديب ابن قتيبة بيتاً من الشعر بأنه “جيد المعنى والسبك، لكن قليل الماء والرونق”. والماء والرونق المقصودان هنا هما روح القصيدة الذي يُحسّ ولا يُرى.

هذا الخطأ التصويري بالطبع لا يقتصر على الزير سالم.

فكل المسلسلات التي تحوي في طيّاتها شعرًا، سواءً كانت تاريخيةً أم بدوية، تقع فيه. ويبدو أن العاملين على هذه المسلسلات يَعونَ الأمر جيّدًا، وقد حاولوا في السنين الأخيرة تلافيه. إلا أن محاولاتهم لبعث روحٍ جديدة في تصوير القصائد باءت بالفشل، إذ أنها اقتصرت على لقطات عشوائية للشاعر مع موسيقا حزينةٍ في الخلفية. وكأنه مونولوك مسرحي طويل.

نرى هذه المشكلة التصويرية في كل مراحل الإنتاج الفني العربي. فالفرق بين المسلسلات التي أُنتجت في السبعينات وإنتاج هذا العصر هو جودة أدوات التصوير فقط.

السؤال هنا، هل هناك سابقةٌ لفنٍ شعبيٍ استعراضي، انتقل إلى عالم الفن البصري، دون أن يفقد روحه؟

كانت هذه أولى الكلمات المنطوقة على الشاشة الكبيرة. نعم، أول الأفلام الناطقة، مغنّي الجاز، كان فيلماً موسيقياً أيضاً. هذا بالطبع ليس غريباً، السينما في تلك الأيام كانت نشاطًا ترفيهيًا بالدرجة الأولى، وعندما أُتيحت الفرصة لمنتجي هوليوود بأن يستخدموا الصوت فيها، كان من البديهي أن يستخدموا أكثر الأصوات ترفيهًا، ألا وهو صوت الغناء. وكان اختيارهم موفّقًا، إذ يعد مغنّي الجاز أحد أنجح الأفلام تاريخيًا.

إلا أن من اعتاد مشاهدة الأفلام الموسيقية التي أُنتجت في العقد الأخير، سيمل منه بسرعة. هل لاحظت أن اللقطة لم تتغير منذ البداية؟

هذا الملل  لا يقتصر على مغني الجاز، غالبية الأفلام الموسيقية التي صُنعت في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كانت تقتصر على لقطات ساكنة لمغنيين على منصّة، أو لقطات ضخمة لفريقٍ راقص، على منصّة أيضًا. كانت السينما وقتها فنًّا رضيعًا، لم تتكون لغتها بعد، لذا رضخت لقوانين فنٍ أقدم، ألا وهو المسرحيات الموسيقية.

يقول الخبراء أن المسرحيات الموسيقية ولدت في اليونان القديمة. إذ صاحبت الملحمات الإغريقية وقتها موسيقا وأغانٍ تعلّق على الأحداث.

هذه المسرحيات العتيقة اندثرت منذ زمنٍ بعيد، تبّخرت ألحانها في الهواء ولم تصلنا. لكنها، ورغم اندثارها، قد بدأت فنًّا جديدًا اعتنقته كل الأمم الأوروبية لاحقًا.

هذا الفن الجديد، المسرحية الموسيقية الاستعراضية، وبعد أن امتزجت فيها أصوات ثقافية متعددة، ستعبر المحيط الأطلسيّ في القرن الثامن عشر، لتسبب أزمةً مرورية في إحدى شوارع نيويورك، شارع برودواي الذي أصبح قبلة المسرحيين والموسيقيين من كل مكان.

اقترن منذ ذلك الوقت اسم برودواي بالفنّ الاستعراضيّ والإبهار. وعندما ولدت السينما مطلع القرن العشرين، هيمنت قوانين برودواي الموسيقية على هذا الفن أيضًا. فكانت كل الأفلام الموسيقية لا تتعدى كونها لقطاتٍ مملة لأشخاص يرقصون على منصة.

إلا أن الملل لم يدم طويلًا. منذ تجارب بزبي بيركلي الطموحة، بدأت السينما الموسيقية بتشكيل لغتها الخاصة.

جاء أوّلًا كسر حدود المسارح والمنصات، حيث صار الناس يغنّون ويرقصون في البيوت والشوارع.

تبعها استخدام التقنيات السينمائية، كالقطع واللقطات القريبة، لتشارك في تنسيق الرقص، وكأن الشاشة نفسها ترقص. وحتى رأينا أفلاماً موسيقيةً دون شخصيات راقصة، ودون أن يضرها هذا بشيء.

واستنادًا إلى إحدى المقالات المصوّرة للناقد مات زولر زايست، فإن الفيلم الموسيقي، مثل أي نوع آخر، لا يكون “سينمائيًّا”، فعلًا، إلا باستخدامه لللغة البصريةِ بفرادة. يقول زايست أن الكثير من الإنتاجات البصرية، الفيلمية منها والتلفزيونية، تكتفي بنقل الأحداث فقط. هي لقطات مملّةٌ لأشخاصَ يتحدّثون، أو في حالة الأفلام الموسيقية، يرقصون ويغنّون. هذه الإنتاجات تكتفي بتصوير الحدث. بينما تقوم الإنتاجات السينمائية الحقيقية بتصوير.. بتصوير الحقيقة، بتصوير المشاعر خلف الحدث، بتصوير روح القصة.

هل كانت ستنتشر الأفلام الموسيقية الأمريكية انتشارها العالمي الحالي لو أنها بقيت على حالها الأول؟ مسرحياتٍ مصوّرة؟ لا أعتقد ذلك.

استطاعت السينما، عندما تبنّت الفيلم الموسيقيَ كأحد أنواعها، أن تصوّر روحه بطريقة تناسب جمهورها، وهي فن العالم الحديث. لم تكتفي السينما بعرض الملحمة الإغريقية، فأصبحت هي ملحمةً بطريقتها الخاصة.

وإذا كان الأوروبيون قد سطّروا ملاحمهم في مسرحياتٍ يصحبها غناءٌ ولحن، فإن للعرب ملاحمُ أيضًا، وهي مسطّرة في شكل فنيٍ يستحق لغته السينمائية الخاصة. الشعر.

لهذا يُحبط جدًا أن الفن العربي الأهم، ديوان العرب وذاكرتهم، لم يصوّر بعد بالشكل المُناسب.

تطوّر الأفلام الموسيقية مع الوقت يُخبرنا بأن التغيير ممكن. إلا أن الأفلام الموسيقية لم تتطور ترفًا، بل ضرورةً. فكل مرحلة تطور ضخمة سبقها كسادٌ مؤلم. كسادٌ يصبح فيه الفلم الموسيقي غير مرغوب، وتعزف الجماهير عن مشاهدته.

عودة إلى الزير سالم

الصنّاع العرب في الجهة الأخرى، سواءً صنعوا الأفلام أو المسلسلات، لم يمروا بمرحلةٍ مشابهة. كانوا يسيطرون على كل قنوات البث الممكنة، ولا يعرف المشاهد أي شيءٍ غير إنتاجهم. فما الدافع للتطوير والتحسين إذا كان لا أحد يُنافسك على جمهورك؟

ربما يدفع انتشار الأفلام والمسلسلات الأجنبيةِ الصُنّاع العرب على تحسين جودة انتاجهم، والمخاطرة بتجريب شيءٍ جديد، حتى لا يخسروا التحدي. لا أدري.

يقول الدكتور غازي القصيبي رحمه الله عن علاقة العرب بالشعر:

أرى أن العرب اعتبروا الشعر ديوانهم لأنهم أحسّوا، بالغريزة، أنّ الشعر يعبّر عن روحهم الخفية، على نحو يعجز النثر، بأنواعه، عن الوصول إليه.

أعتقد أن العرب بحاجةٍ لقصيدة حديثة تعيد إليهم روحهم الخفية.

أمّا شكل هذه القصيدة العربية السينمائية. فلا أدري أيضًا. كل ما أطمح إليه، هو شيءٌ أكثر ماءً… ورونقًا.

أكثر عن الموضوع:

تحدث مازن العتيبي في الحلقة “57” من بودكاست ثمانية ¾، عن الموضوع، والتي تستطيع أن تستمع لها من خلال تطبيقات البودكاست على هاتف المحمول. نرشّح الاستماع للبودكاست عبر تطبيق Apple Podcasts على iPhone، وتطبيق Google Podcasts على أندوريد.

يهمنا تقييمكم للبودكاست على iTunes، ومعرفة رأيكم بالحلقات بمراسلتنا على البريد الإلكتروني: Ahlan@thmanyah.com، أو عبر حساب ثمانية على تويتر.

روابط الحلقة

الأفلامالتقنيةالغناءالفنالمسلسلاتالموسيقاالوطن العربيالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية