هادئة أخطو نحو الأربعين: قصاصات امرأة عزباء

احتفلت العام الماضي ببلوغي الثامنة والثلاثين كامرأة عزباء، وقررت إهداء نفسي فرصة الإجابة على تساؤلاتي حول الطموح والوحدة وبيولوجيا الجسد.

كل مرة أفكر فيها بالكتابة عن عزوبيتي، يغمرني الحماس وأنطلق ثم فجأة يخبو تحمسي ويختفي. كما لو كنت ممسكة بكرة زجاجية ملأى بالقصاصات، أهزها بقوة فتنطلق القصاصات الملونة في رقصة مرحة ثم سرعان ما تتكتل هامدة في القاع. 

أريد أن أكتب دون أن تظهر لي صورة العجوز الوحيدة التي تعيش في حذاء ضخم وتحيط بها القطط. أريد أن أكتب دون أن تظهر لي صورة آنسة منشن وأختها إيميليا بشخصيتيهما المتناقضتين والقاسم المشترك بينهما: عنوستهما. أليست هذه بعض الصور النمطية التي عرفناها عن العازبات الوحيدات ونحنُ نكبر؟ 

بعد بلوغي أرقامًا مفصلية في حياتي: الثلاثين  وما بعدها، بدأت بالتفكير والتساؤل. لم يكن ثمة هلع بل مجرد استفهام كبير حول هذا الوقت الذي يمضي، أين يذهب وكيف؟ وماذا يعني البقاء عزباء في المجتمع الذي أعيش به وفي الحياة عمومًا؟ 

متفوقة وطموحة وقوية!

كرّست سنواتي العشرين الأولى لتحقيق النجاحات الأكاديمية، وما كان لديّ من  هدفٍ أسمى من احتلال موقع ضمن الثلاثة الأوائل في كل صفّ. اهتمّ والداي بتنشئتنا بحيث نحقق ذواتنا، ونتعلم، ونلتهم المعارف الواحدة تلو الأخرى. لا أذكر مثلًا أنّ والدتي حدثتني يومًا عن حياتي القادمة كيف ستكون؟ عن الزوج والأطفال والمنزل.

لم ألعب بالدمى والبيوت الصغيرة، بل كنت أفضّل اللعب في الخارج وقراءة الكتب ما استطعت والجلوس لساعات يوميًا أمام التلفاز ومشاهدة المسلسلات البوليسية. كنت أحلم بالعمل كمحققة أو باحثة تاريخية أو مذيعة راديو، ولم يكن ضمن أحلامي تكوين أسرة. كلّ هذا جاء لاحقًا عندما خرجت من فقاعتي المنزلية والتحقت بالحياة الجامعية. 

عبرت كل الحواجز المطلوبة لاجتياز عتبة العشرين بنجاح: تفوق دراسي وحياة اجتماعية منتعشة وقبول في تخصص جامعي ممتاز. ثم بدأت مرحلة الاستفهامات الأولى عندما تشاركت مقاعد الدراسة مع صديقات يعشن علاقات عاطفية أو خُطبن أو تزوجن في عطلة صيفية بعيدة. الحياة إذن أكثر من إحرازكِ لقب الطالبة المثالية!

أول إجابة كانت ترد ذهني كلّما سئلت عن وضعي العاطفي: أنا مشغولة. مشغولة بالدراسة ومشغولة بتعلم مهارة جديدة وبتحقيق الشهرة ككاتبة واعدة. 

آنذاك كان مغريًا الدخول في تجربة عاطفية. ففي تلك الأيام شهدنا انطلاقة الاتصال بالإنترنت، دائمًا على بعد نقرات من التحدث إلى غريب. وقد يتحول هذا الغريب مشروع علاقة سواء كانت صداقة أو رفقة، أو حبّ!

وقتها كنت واجهت للمرة الأولى مخاوفي الشخصية من الارتباط والحميمية، وعرفت بأنني أكثر خجلًا من أن أبادر في محادثة حتى لو كانت افتراضية. شرعت في محاولات متخبطة لفهم هذا النظام، لكني سريعًا ما خرجت من اللعبة لأعود لذاتي  ولسنوات قادمة.

في الوقت نفسه كانت أمامي أحد النماذج الهادئة والرصينة لعلاقة بين شخصين: والداي. رسمت مشاعر الألفة والقرب والفهم بينهما القوالب التي وضعت فيها أحلامي ونسجت منها صفات رجل المستقبل الذي أبتغيه. 

ماذا لو؟ 

رغبةً منهنّ في إيجاد حلّ للمشكلة -التي لم تثر هلعي بعد- تنوعت  اقتراحات الصديقات. كلّ مرة تبتكر إحداهن سيناريو للحل، تذكّرني بجبني وترددي، وأشعر فورًا بأنني في سباق لم أختر الدخول إليه، فكانت «لا» أكثر كلمة رددتها في العشرينيات. 

لا لتطبيقات المواعدة، لا للجلوس في المقاهي والبحث عن معجب سرّي، لا لتوصيات العجائز وشطرنج التوفيق بين أبناء عمومة لا يعرفون شيئًا عن بعضهم البعض. أردت خياري الأمثل والأكثر أمانًا، وفي الوقت نفسه كنت أنفر من تقليدية الزواج ولعبة الاكتشاف.

لم أتخل عن حلمي لحظة واحدة، ولم أغيّر المسار لأكتشف الربيع في مكانٍ آخر. أردت الدراسة والعمل والسفر وحضور المناسبات الاجتماعية التي أستمتع بها وأختارها، لا تلك التي أجرّ قدميّ إليها فقط لأثبت جاهزيتي للارتباط.

مرت العشرينيات كلمح البصر، تخللها تحقق أحلامي حلمًا تلو الآخر: كتبت ونشرت، أصبح لي مدونة معروفة، سافرت للدراسة في مدينة أخرى وجربت العيش بعيدًا عن عائلتي. نضجتُ ومعي نضجت رغباتي واختياراتي.

عدت إلى المنزل مستقلة اقتصاديًّا واجتماعيًّا في عامي الثامن والعشرين لأفتح عينيَّ على اتساعهما وأفكّر: ماذا لو لم أجده؟  Click To Tweet

تحسين الظهور في محركات البحث

لدى كتابة المحتوى للمواقع الالكترونية، نستخدم عبارة «تحسين الظهور في محركات البحث» ونقصد بها تصميم المواقع وتجهيزها بنصوص تساعد الباحثين على الوصول إليها من صفحات البحث الأولى. وهذا ما كان الجميع يقترحه عليّ بطرق لطيفة في البداية. ربما يجدر بك خسارة عدة كيلوقرامات أو ترك شعرك يطول عدة إنشات، ماذا لو حقنت وجهك وملأتِه قليلًا، وكثيرٌ من المكياج لا يضر!

ربما كان وجهك الطفولي السبب أو هواياتك «المملة»، نعم هذا اللفظ حرفيًّا. ربما كانت رهبة الآخر أمام نجاحك. ولربما الكثير من التوقعات والقليل من المعرفة الحقيقية بك: هذا ما خلصتُ إليه. 

متى ما تجاوزت المرأة العزباء الثلاثين، ترتفع التخمينات إلى السطح «ربما أنتِ المشكلة، لستِ كافية، لستِ مناسبة للحبّ أو الارتباط، مناسبة أكثر للرفقة والصداقة.» المجتمع يقول لك بطرق مختلفة: «أنتِ بدون رجل ينقصك شيء، وبنقصانه لا تكتمل محددات نجاحك.» 

وهنا تبدأ حربك الحقيقية مع نفسك ومع العالم الخارجي: «هل هذا صحيح؟ هل ينقصني شيء؟ هل شعور الوحدة هذا حقيقةً نابعٌ من داخلي ومن احتياجي؟ هل ما أمرّ به نتيجة غربلة عظيمة أو عملية انتخاب طبيعي لم يشاركني أحد تفاصيلها؟» وبعد تفكير طويل وتفكيك لألغاز نفسي، وصلت إلى أن الوحدة شعورٌ حقيقي، وكذلك الخوف من الرفض والضجر والهلع من المجهول، كلها مشاعر حقيقية. 

تساؤلات الوحدة وبيولوجيا الجسد 

احتفلت بعيدي الثامن والثلاثين في أكتوبر الماضي، وقررت أن أهدي نفسي هدية خاصة ذات معنى. قررت البدء بجلسات إرشاد مع مختصة، توصلت فيها إلى أن الكثير من الأسئلة في حياتي بحاجة لإجابة، وما من طريقة أفضل لنبش الماضي والحاضر وتفكيكهما كالاستعانة بالإرشاد والدعم. 

بدأتُ الجلسات بالحديث عن كلّ شيء، حياتي اليوم وقيمي وعلاقاتي ودوائري المختلفة. وتجنبت عمدًا الحديث عن حياتي العاطفية، وكانت هذه المشكلة الحقيقية: كنت ما أزال أهرب.

دوائري الاجتماعية متنوعة، ومعها تتنوع طرق التطمين والمواساة التي أشكرهم عليها ولكنّها لا تقدّم الإجابة الشافية. الكلّ يذكرك بحظوظك الوافرة لأنك حرّ طليق، ويسرد البعض قصصهم مع علاقاتهم السامة. ومن مكاني هذا أنظر لكلّ الأصدقاء والمعارف الذين يجمعني بهم صندوق العمر كيف يحتفون بعزوبيتهم ويعزز لهم الآخرون بصورة نمطية تليق بهم: أنت رائع! شجاع! لقد كسرت كل المقاييس المحددة لك! استمتع بحريّتك يا عزيزي.

لكن ماذا لو كانت هذه الوحدة تؤلمه؟ ماذا لو كانت تشغله ذات مجموعة الأسئلة التي تشغلني؟ لكنّه رجل وبذا فالسياق مختلف.

قلت لمرشدتي ذات جلسة عندما قررت الحديث عن الموضوع: ترعبني البيولوجيا. ترعبني فكرة السنوات التي تمضي وهذا الجسد الذي لن يبقى في فقاعة تحفظه. كم تبقى من الوقت للإنجاب؟ والركض خلف الأطفال وتربيتهم؟ كم تبقى من الوقت لاكتشاف العالم مع رفيق العمر قبل الذبول والتعب؟

كوني هادئة سيأتي

حاولت مرشدتي تجنب الكليشيهات قدر الإمكان لكنها لم تستطع تجاهل كليشيه: احتفي بوحدتك! ضحكت وأخبرتها بأنّني أنفر من هذه العبارات وأبحث عن إجابة لأسئلتي بدلًا منها.

باختصار، لم تكن ثمة أجوبة بل تمارين وجلسات تأمل لتفكيك الصور النمطية التي تعلقت بها وشقّ ممر آمن أكتشف فيه نفسي من جديد. كانت تقول «كوني هادئة سيأتي. فما القاسم المشترك بين حصولك على وظيفة جيدة؟ ودخل ثابت؟ وأصدقاء رائعين؟» فأجيبها بحماس «تخلصت من القلق واستمتعت بالرحلة حتى وصلت وجهتي المفضلة.» وهنا تقول «وهكذا يجب أن يكون الأمر في رحلتك هذه.» 

طلبت مني الاستعداد لكلّ السيناريوهات المتوقعة والرضا بها، يشبه كتابة قائمة طويلة لمباهج الحياة التي يمكنك الاستمتاع بها دونما الحاجة إلى رفيق. وبمساعدتها تخلصت من الماضي والعقبات المتخيلة والصور النمطية وأحللت مكانها صورًا مستقبلية أكثر إشراقًا.

كل شيء يتحرك بصورة مختلفة متى ما تخلصت من شعورك بالذنب وركزت على الاستمتاع بما تملكه بين يديك. لم أستبعد فرص التعارف واكتشاف الآخرين ودخلت دوائر اجتماعية جديدة تتوافق مع اهتماماتي وقيمي التي أحيا بها. ومتى تخففتُ فعليًّا من ذاك الثقل؟ حين تحدثت عن مشاعري بوضوح، مع مرشدتي ودائرتي المقربة.

اليوم وأنا أخطو نحو الأربعين، بعد ثمانية عشر عامًا من البحث والاكتشاف والانتباه، أتوقف عن طرح الأسئلة.

الاستقلاليةالزواجالعزوبيةالنجاحالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية