اللقاح والبروبقندا الإسرائيلية: نجاحٌ على حساب القوانين الدولية

تتلفق الصحف خبر نجاح التجربة الإسرائيلية في توزيع اللقاح، لكن يغيب عنها أنها بروبقندا واهية تحسن بها إسرائيل صورتها.

بقلمٍ أحمر -أداة تسطير الأخطاء ووسيلة تبيان الحقائق- صحّح ناشطون حقوقيون عنوان مقال صحيفة نيويورك تايمز المنشور في الفاتح من يناير، والرامي للتبجح بتوفق إسرائيل في توزيعها للقاح فيروس كورونا. لتصير أول دولة توفره، بنسبة تجاوزت 10% خلال أيام من تلقي أول دفعة، ونية في تغطية كامل السكان بحلول مارس.

وباستثناء الصحف التي ارتأت تناول مسألة التوزيع العادل للقاح، تجاهلت نيويورك تايمز وعددٌ من المنابر الإعلامية التي سارعت لتلاقف الخبر، الإشكالية الملحة التالية: كل ما يحدث في تلك الرقعة الجغرافية التي تمزقها الحواجز وأطياف التمييز مُترعٌ في اللعبة السياسية التي يلعبها الكيان. فعن أي السكان نتحدث؟

فلسطين خارج الحدود 

ليست هذه المرة الأولى التي تنزلق فيها الصحيفة في عناوين تكهنية لا توفي الصورة الأشمل. إذ واجه المتتبعون مقالها حول الحالة الصحية والوبائية بإفريقيا بنفس القلم الأحمر، لتصحيح ما وُصف بالنية السيئة في تعليق فشل الولايات المتحدة وكثيرٍ من الدول الأوربية على شماعة قارة بأكملها، وتصويرها بالفقيرة وغير القادرة على مواجهة الوباء.

وبالرغم مما روجت له الصحافة العام الماضي بداية الجائحة، لم تكن إسرائيل مضرب المثل، على الأقل عندما خرجت الأمور عن سيطرة قادة الدول وارتفعت أرقام حالات المصابين والموتى حول العالم. إذ ووجه انتصارها الصغير في احتواء الوباء بالفشل، حالما نسفت موجة الوباء الثانية والوضع السياسي المحتدم -والذي أفضى بثلاث انتخابات في أقل من عام ونصف، وكذا التأجيل المستمر لمحاكمة نيتنياهو على إثر تهم بالفساد- بتدابير الحكومة الاحترازية.

وبدءًا من الأسبوع الأول من يناير، اعتزمت إسرائيل تلقّي ما بين 100 ألف ونصف مليون جرعة أسبوعيًا من لقاح فايزر، أي 10 ملايين جرعة مع حلول مارس؛ إلى جانب نصف مليون جرعة أخرى من لقاح مودرنا، وصل ثلثها سلفًا قبل أيام، كلها ضمن خطة نتنياهو نحو جعل البلد «النموذج العالمي للتلقيح السريع لبلد بأكمله».

بعبارة أخرى، تعتزم إسرائيل جعل البلد حقل اختبار عالمي كبير. إذ تنوي مشاركة البيانات والتفاصيل التي جمعتها مع شركات الدواء، بما فيها نتائج التلقيح والآثار الجانبية والفعالية والوقت المستغرق لتطوير الأجسام المضادة، مصنّفة حسب العمر والجنس، وكذلك السكان، سواء من في الأراضي المحتلة والمستوطنات.

ويأتي هذا إثر اتفاقٍ جمع نتنياهو بالرئيس التنفيذي لفايزر، آلبرت بورلا، بعد إعجاب هذا الأخير بالبنى التحتية الصحية للبلد، والمتمثلة في منظمات رعاية صحية غير ربحية (HMOs). ويزعم موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية بأن هذه المنظمات تقدم الرعاية الصحية لجميع المواطنين، من خلال تفويض فردي ومساهمات في رواتب الضمان الاجتماعي. كما تشترك في نظام سجل طبي إلكتروني واحد وقيادة مركزية تسمح بإنزال الخطط على نطاق واسع في البلد.

الموت على ضفاف البروبقندا الإسرائيلية

لكن احذر من أن تخدعك البروباقاندا! إذ لا تشمل الخطة فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، والذين يواجهون -إلى جانب التضييق اليومي والتهجير والقتل والاعتقال والتمييز- وضعًا صحيًا متأزمًا.

ففي الوقت الذي صرحت فيه منظمة الصحة العالمية بأن وزارة الصحة الإسرائيلية رفضت طلبًا لتلقيح موظفي الرعاية الصحية الفلسطينيين المتواجدين في الخطوط الأمامية، يتفاقم الوضع الصحي في الأراضي الفلسطينية. إذ يبلغ عدد الحالات المسجلة يوميًّا أكثر من ألف وثمانمائة حالة، مع أكثر من 200 ألف مصاب وألف وثمانمائة حالة وفاة. وتتراوح الحجج والتبريرات بين تلاعب بالكلمات، وتهرب واضح من القوانين الدولية الملزمة.

قد تُضحكُك -بكثيرٍ من المرارة- هذه البروباقاندا الإسرائيلية نفسها، التي صارت وبلا خجل، تعدّ الأراضي من النهر إلى البحر ملكها. كالضفة الغربية الواقعة ضمن مخططات التوسع، والتي قد تصل إلى 30%، بما في ذلك كتل المستوطنات غير القانونية ووادي الأردن الاستراتيجي وشمال البحر الميت. أي أنها تعمل -في وضح النهار- لفرض أحقيتها على الأرض -والأرض وحدها- دون من عليها من فلسطينيين.

ففي النهاية، ليسوا إلا «جيرانًا» على حد تعبير وزير الصحة الإسرائيلي إيفين إيديلستين. وينبغي عليهم تحمل مسؤولية أنفسهم، مع احتمالية تقديم الفائض من اللقاح للسلطات الفلسطينية لاحقًا، لا بدافع تحمل المسؤولية، بل بما يسوق له الكيان كإحسانٍ لهؤلاء الجيران الذين يحتلونهم.

أو أن الفلسطينيين ذو سلطة ذاتية، يقول مدافع آخر، متحججًا باتفاقية أوسلو، والتي ينص البند السابع عشر منها على وقوع مسؤولية التلقيح على كاهل السلطات الفلسطينية. لكن أصحاب هذا الرأي ينسون الموازنة بين المعاهدات الدولية والاتفاقيات الثنائية، وبأن الكفة تميل للأولى دومًا، وأن اتفاقيات أوسلو لا تمحو التزامات إسرائيل تحت القانون الدولي.

اللقاح بين منازع الاحتكار والسلطة

في هذه الحالة، المادة 56 من اتفاقية جنيف الرابعة، والناصة على واجب دول الاحتلال ضمان التدابير الوقائية اللازمة لمكافحة انتشار الأمراض المعدية والأوبئة. الأمر الذي تتفق معه المفوضية السامية لحقوق الإنسان. إذ أعلنت في بلاغ لها أن مسؤولية توفير وصول اللقاحات العادل إلى الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية تقع على كاهل الدولة المحتلة إسرائيل.

وصحيحٌ أن للسلطة الفلسطينية يدًا على بعض المناطق، لكنها لا تملك بأية صورة سيادة خاصة واستقلالية في القرار. ولا يُعقل التحجج باتفاقية أوسلو نفسها التي كانت سبب ضعف السيادة والاعتماد الكليّ على الكيان.

وفي الوقت الذي يحمّل فيه الشارع الفلسطيني المسؤولية لا للكيان فقط، بل للسلطة الفلسطينية التي خرجت أكثر من مرة بتصريحات مبهمة عن تاريخ وصول اللقاح ومصدره. ناهيك عن استعمال حالة الطوارئ في الضفة الغربية -والممدة لثلاث مرات منذ مطلع مارس من العام الماضي- كوسيلة لفرض السيطرة.

يُعد الاحتلال الإسرائيلي اليوم أطول احتلال عسكري في التاريخ. أي أن مسؤولية توفير العلاج والتلقيح لا تقتصر على ساكنة قطاع غزة والضفة الغربية، بل أولئك الواقعين في السجون الإسرائيلية. يصفهم الاحتلال بـ«سجناء الأمن» وهم نحو أربعة آلاف وأربعمائة سجين، أصرّ وزير الأمن العام، أمير أوهانا، على رفض توفير اللقاح لهم، إلى أن تعرض لضغط داخلي بُغية الحفاظ على ماء الوجه.

انتقد ديمقراطيون أميركيون سياسات التمييز التي تطبقها إسرائيل لمنع الفلسطينيين من الحصول على لقاح فيروس كورونا، على رأسهم عضو مجلس الشيوخ، رشيدة طليب. ويدعو محللون وناشطون حقوقيون إلى مقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات صارمة عليها. أمرٌ آخر يدعو للضحك بمرارة، إذ يبدو تطبيق العقوبات أمرًا بعيد المنال في لعبة تبادل المصالح والخدمات وتقويض القوانين الدولية والاتفاقيات بما يناسب أهواء الكيان المتحكم.

وبين الاحتلال وتجنب المسؤولية من جهة، وإشكالية أخلاقيات احتكار اللقاح بكميات كبيرة، بغرض الدراسة في حالة إسرائيل، في الوقت الذي تعاني فيه دول ذات موارد محدودة لتأمين ما يكفيها من جرعات، يُطرح سؤال ملح: أيكفي هذا القلم الأحمر -جبهةٌ من بين أخرى عديدة- وسيلةً لتصويب الحقائق ووضع النقاط على الحروف، في غمرة عناوين الصحف الكبرى والكذبات الرنانة؟ 

السلطة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية