بين الكاكاو والحب والديناميت: عن فلورنس كلارك ومصنع رونتري

لن يخطئ الزائر في يورك تمييز رائحة الكاكاو التي يحملها الهواء من شمال مركز المدينة، وتحديدًا من مصنع رونتري. بِيع المصنع لشركة نستله في...

وأنت تأكل إصبعي حلوى كيتكات، هل خطر ببالك يومًا أن جواب سؤال: «من صنعه؟» يختلف كثيرًا عما كان عليه قبل تسعين سنة؟ فبينما يكاد ينعدم التدخل البشري في صنع هذه الحلوى اليوم، لم يكن للآلة من دور يذكر في سلسلة التصنيع، حينما قُدمت للمستهلكين البريطانيين لأول مرة عام 1935. 

شكلت حياة بعض صناع هذه الحلوى وغيرها نواة كتاب «الأحباء: حكايات بنات مصنع رونتري» (The Sweethearts: Tales of love, laughter and (hardship from the Yorkshire Rowntree’s girls الذي صدر عام 2013.

ركز الكتاب على حياة أربع عاملات في مصنع رونتري للكاكاو بمدينة يورك، بين ثلاثينيات وثمانينيات القرن الماضي، ومن بينهن العاملة فلورنس كلارك. لتشكّل قصتها مرآة نفهم من خلالها تأثير دخول المصنع على المدينة وحياة العاملات قبل وبعد الحرب العالمية الثانية. 

مدينة الشوكولاته

كان للمدن البريطانية في الماضي روائح خاصة تُعرف بها: فزائر قريمزبي يعرفها برائحة السمك التي تشربت مراسيها، وتعلن رائحة النار والكبريت القادمة من محال الحدادين دخولك حدود شَفيلد.

أما يورك، فلن يخطئ الزائر في تمييز رائحة الكاكاو التي يحملها الهواء من شمال مركز المدينة، وتحديدًا من مصنع رونتري. بِيع المصنع لشركة نستله في عام 1988، لكنه ما يزال معروفًا لأهل المدينة تحت اسم مصنع رونتري حتى اليوم. 

آنذاك، تضاخم إنتاج الشوكولاته في مدينة يورك مكسبًا إياها لقب «مدينة الشوكولاته». حيث وظفت شركات إنتاج الكاكاو الرئيسة: رونتري وتيري وكريفن ثلاثة أضعاف العمالة التي كانت تعمل في سكك الحديد، ثاني أهم صناعة في المدينة. لكن ازدهار صناعة الكاكاو في يورك لم يكن وفق خطة مدروسة بل صدفة تاريخية. ويعزو الكتاب هذا الازدهار إلى الموقع الجغرافي وسهولة النقل من جهة، وسيطرة طائفة الكويكر على هذه التجارة، من جهة أخرى.

مارس صناع الحلوى نشاطهم التجاري على تقاطع رئيس يقف ما بين خط سكة الحديد الأساسي في الساحل الشرقي وأحد أهم الجداول المنحدرة من نهر الهمبر. فالقطارات والسفن التي تبحر في الممرات المائية بين يورك وميناء هَلّ، وفّرت لصانعي الحلوى خدمات نقل رخيصة للمواد الخام كالسكر وحبوب الكاكاو، وتوصيلًا سهلًا لمنتجاتهم لسكان المناطق التجارية كيورك وإقليمي الشمال الشرقي والغربي. كما كانت يورك مسكن جماعة الكويكر العريقة [جماعة دينية] فسيطروا مع التجار الذين لم يعترفوا بالأعراف التجارية السائدة آنذاك على تجارة الحلوى في يورك وغيرها من المدن.

عائلة مصنع رونتري

تنتمي عائلة رونتري إلى مجتمع الكويكر في بريطانيا. واعتبر رئيس الشركة جوزيف رونتري انتماؤه لهذه الطائفة المسيحية السبب الرئيس وراء اهتمامه بتحسين الأوضاع المعيشية لعماله في المصنع والمدينة ككل. ففي العام 1901، أشار على ابنه سيبَم، الذي شاركه نفس الهمّ، أن يكتب تقريرًا عن الفقر المدقع الذي وصل إليه الحال في المدينة.

كان تشرشل أحد المتأثرين بهذا التقرير:

أقرأ الآن كتابًا شاب منه شعر رأسي […] كتبه السيد رونتري المنشغل بقضية الفقر في مدينة يورك [وفي الحقيقة،] لا أرى مجدًا يلوح في أفق مستقبل إمبراطورية تحكم البحار ولكنها عاجزة عن تنظيف مجاريها.

مدفوعًا بتقرير ابنه، عمل جوزيف على تحسين مستوى المعيشة في يورك، فافتتح «قرية الحديقة»، على غرار نموذج القرى الصناعية التي تبنتها شركات مثل كادبوري. لكن قرية مصنعهم فتحت أبوابها لا للموظفين فحسب، بل لجميع سكان يورك. احتوت القرية على منازل واسعة بحدائق كبيرة تُؤجر بمبالغ منخفضة، بالإضافة إلى مكتبة ومنشآت رياضية وعيادة بغرفة جراحية ومحلات ومكتب بريد.

في عشرينيات القرن الماضي وبسبب الكساد العظيم، كاد المصنع أن يعلن إفلاسه. مما حدا بإدارة المصنع تسريح عدد كبير من عامليه واستبدالهم بنساء -إذ كان أجر النساء أقل بكثير من الرجال- حتى انقلب وضع الشركة المالي تمامًا في عام 1932 بعد تسلم سيبَم إدارة المصنع بعد تنحي والده. 

مصنع رونتري وأهل يورك 

كان لهذا المصنع مكانة خاصة في قلوب أهل المدينة، إذ كان في يوم من الأيام أكبر المصانع فيها، وهو ما يعني استقطابها لأكبر عدد من العاملين من سكان يورك، خصوصًا النساء اللاتي تزايدت أعدادهن في عهد سيبَم رونتري. تزعم رئاسة هذا المصنع أبناء عائلة رونتري منذ أن كان محلًا صغيرًا في عام 1862. 

كان من الطبيعي جدًا أن يعمل أفراد عائلة بكاملها في وظائف مختلفة داخل هذا المصنع. ومن هذه العوائل: عائلة فلورنس كلارك، أصغر أفراد عائلتها العشرة، الذين عملوا جميعًا في المصنع، بما فيهم والدتها التي توقفت عن العمل بعد زواجها. حيث كانت من أوائل العاصرات اللاتي عصرن سائل الكاكاو بحركة حلزونية على حلويات متنوعة في المصنع القديم وسط المدينة قرب نهر أُوز. 

عاشت العائلة في فقر مدقع. حيث تستذكر فلورنس حمامهم الخارجي، وهو مجرد كرسي خشبي مثبت على سطل، لم تضطر -لحسن حظها- لاستعماله لصغر سنها حتى غادروا المنزل وهي في سن السابعة.

وفي أحد أيام شهر يوليو عام 1937، كان على فلورنس ذات الأربعة عشر عامًا أن تودع مدرستها لتبدأ العمل في مصنع رونتري. لكن العمل هناك لم يكن بهذه السهولة، إذ استلزم على كل عامل اجتياز اختبار للعمل هناك. 

تشمل هذه الاختبارات فحص الوزن والطول والأسنان، يليها فحص نفسي «صناعي»، والذي ازداد الاهتمام به بشكل ملحوظ في تلك الفترة. 

تُشبه هذه الاختبارات ألعاب الأطفال، كاختبار قياس ردة الفعل الذي فشلت به فلورنس بسبب ارتباكها: تحريك حلقة معدنية على لوح دون أن يمس السلك الكهربائي المثبت على اللوح. وبعد أن انتهى الاختبار قرأت فلورنس النتيجة المكتوبة بخط عريض على ملفها: «عمل بلا آلات».

لم تكن بقية المصانع تُعنى باختبار عمالها وتقييمهم مثل مصنع رونتري، وهذا ما جعله مكانًا مميزًا للعمل. إذ كان يعد «أفضل مكان للعمل، كانوا رائعين في تعاملهم معك؛ الرعاية الطبية وكل شيء آخر.» 

الحرب العالمية الثانية والحياة في مصنع رونتري  

بعد عامين من بداية عملها في المصنع، اندلعت الحرب العالمية الثانية، وأوقف المصنع بعض منتجاته، واستبدلها بأطعمة أساسية مثل «تصنيع طحين الشوفان وألواح الفاكهة. فيما تحول قسم تغليف الكريمة لإنتاج الحليب المجفف والبيض المجفف سيء السمعة الذي يستذكره من عاشوا سنين الحرب وملامح القرف بادية عليهم.»

ومن خلال نظام تبديل تصنيع الأطعمة بين المصانع في أقاليم مختلفة لتخفيض تكلفة النقل، عمل مصنع رونتري بتصنيع المربى ومربى قشر البرتقال لشركة فرانك كوبر المحدودة في أكسفورد، وفي صيف عام 1940 كانت فلورنس تقطف الفراولة […] كان عملًا شاقًا وكانت تحس بآلام ظهرها بعد ساعتين من بدء عملها، ومع نهاية اليوم صعُب عليها أن تفرد ظهرها.

اعتمد نظام دفع الأجرة على وزن ما جُني من غلة، «فبعد أن تملأ [فلورنس] دلاءها، اعتادت أن تعصر بعض الفراولة الناضجة على حصيلتها ليزيد وزنها أكثر.»

هدايا صغيرة 

وفي خضم أكبر كارثة بشرية عرفها العالم آنذاك، لم يغب عن بال أمها أن تبحث لها عن زوج. فقد تواجد آلاف من الجنود البريطانيين في مدينة يورك خلال الحرب. وذات يوم، طلب مشرف فلورنس من عاملاته مساعدة هؤلاء الجنود الذين لا يجدون من يغسل ملابسهم أو يهتم بهم. 

وافق الجميع بما فيهم فلورنس التي صارت تتسلم كل إثنين حزمة ملابس كُتب عليها «العريف ديفيز»، على غرار بقية الفتيات اللاتي لم يلتقين من قبل بالجنود.

تقول فلورنس «لم أكن أعرف شيئًا عن العريف ديفيز»، لكن أمها كانت تتخيله وحيدًا وحزينًا وبعيدًا عن أهله. ودون علم ابنتها، صارت الأم تضع بين ملابسه علبة سجائر أو قطعتي بسكويت أو بعض الكعك؛ هدية سخية في وقت تناقصت فيه مخازين الطحين والزبدة والسكر. 

وبعد عدة أسابيع، وضعت الأم رسالة في ثيابه داعية إياه لشرب الشاي في منزلهم. وفي ظهيرة الأحد التالي، أتى صوت والدتها معلنًا قدوم الجندي. أخذ العريف آرثر فلورنس في جولة في أنحاء المدينة، حدثها فيها عن مدينته وحياته في الجيش. وحال عودتها قبل مغيب الشمس، تطلعت الأم لوجه ابنتها وقررت أن كل تلك الهدايا الصغيرة لم تكن مضيعة لمالهم. 

العاملات بين الكاكاو والديناميت

امتاز مبنى العلكة الإضافي لمصنع رونتري بسقف مميز، حصّنته «مكونات قشور حلوى السمارتيز من طحين وسكر، [وطريقة صنعه الخاصة على قدور دائمة الحركة]. تضمنت هذه العملية بعض الخطورة بسبب الطحين المتطاير الذي قد يسبب حريقًا أو انفجارًا». وأثناء الحرب تحول هذا المبنى لمصنع ذخيرة! 

نساء في مصنع ذخيرة / Picryl

ولحماية العمال من مسحوق الديناميت الأصفر السام الذي كان يعبئ الفتائل التي كان المصنع ينتج منها ما يعادل 100 ألف وحدة، وغيرها من المتفجرات أسبوعيًا، وجب على الجميع ارتداء بدلة متكاملة تقي من السموم المصاحبة لهذه المتفجرات.

ولمنع العمال من إدخال أية أغراض، لم تحتو هذه البدلات على جيوب. فلم يحملوا سوى بعض النقود المعدنية في حقيبة صغيرة تُعلق بخيط حول رقابهم؛ بالإضافة إلى وضع مكياج خاص على شكل مسحوق للوجه ومرهم ثقيل. وبينما اعتادت العاملات على التراخي في شروط اللباس المفروضة في فترات السلم، لم يسمح بهذا التراخي أثناء الحرب. فلم يكن بإمكانهن إظهار جزءٍ من شعرهن كما كن يفعلن سابقًا.

كانت فلورنس واحدة من ثمان مائة وخمسين امرأة وستين رجلًا عملوا في صناعة الفتائل. وكانت عملية الإنتاج تتم على مدار الساعة، حيث يتبدل العاملون كل اثني عشرة ساعة، بالإضافة إلى عمال آخرين […] حيث عمل اللاجئون الأوربيون [الهاربون] من النازيين.

كما تؤكد إحدى العاملات «أتانا بولنديون وهنود […] بُنيت لهم أكواخ من الفولاذ […] ليعيشوا فيها، لأن معظمهم لم يكن يملك أي شيء حين ابتدأوا العمل.» 

آخر فتيل 

حرصت شركة رونتري على أن تُظهر لموظفيها أن اهتمامهم بهم يمتد إلى أبعد من حدود المصنع. فكانت تصرف لعوائل موظفيها الذين جُندوا في الجيش البريطاني مخصصات مالية، كما كانت ترسل هدايا عيد الميلاد للعاملين في الجيش و لعوائلهم. وحين أُسر آلن راثمل -أحد العاملين في خطوط إنتاج أول دفعة من الكيتكات- طبعت الشركة صورته على غلاف مجلة الشركة الشهرية، حتى تخلده في ذاكرة العاملين وأسرهم. وبالفعل عاد راثمل من الأسر، وعاش في يورك حتى العام الذي نشر فيه الكتاب.

وفي عام 1943 […] وصل إنتاج المصنع قرابة الثمانية ملايين فتيل [وللأسف] لم يُجدد عقد رونتري مع الحكومة بعد انتهاءه، إذ تعاقدت مع مصنع آخر. فتجمعت الفتيات لرؤية آخر فتيل يخرج من خط الإنتاج، ليأخدوا صورة تذكارية أمامه.

وكغيرها من العاملين، خسرت فلورنس وظيفتها بعد الحرب. فتلقت بعدها تدريبًا في الهندسة الميكانيكية في مدينة ليدز، ثم عادت ليورك. وخلال عملها في شركة هناك، تحسنت الأوضاع الاقتصادية في رونتري، لتعود فلورنس بعدها وتشرع العمل في تغليف الكريمة، قسم المصنع المعتمد على آلات.

تبتسم فلورنس حين تتذكر هذه اللحظة مؤكدة: «أيقنت أنهم أضاعوا تلك الورقة [من اختبار القبول] التي تقول عمل بلا آلات.» 

غلفت فلورنس هناك حلوى الكاراميل والسكر. ولأنها مغرمة بها، كانت تلقي بواحدة في فمها بين الحين والآخر حين تبتعد أعين المشرفين المراقبة. وقالت: «تشبعت منها مع مرور الوقت، وتوقفت عن أكلها، ولم آكل أيًا منها حتى اليوم!»

الآلاتالثورة الصناعيةالحرب العالمية الثانيةالعمالةالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية