هل يجب علينا أن نكون مصيبين سياسيًا؟
كنت أجد صعوبة في تقليب مصطلح الصوابية السياسية (Political Correctness) وذلك باعتباره صنيعة محيطه وسياقاته الغربية.
كنت أجد صعوبة ذهنية في تقليب مصطلح الصوابية السياسية (Political Correctness) ومفهومه وكل الدلالات المرتبطة به قبل كتابة هذه المقالة، وذلك باعتبار هذا المصطلح صنيعة محيطه وسياقاته الغربية.
كان ذلك قبل أن أتذكر النقاشات الكثيرة التي خضتها في محاولة انتقاد لفظة واستخدام «عبد» و«عبيد» في توصيف أصحاب البشرة الداكنة، أو لفظة «حرمة» و«حريم» في توصيف المرأة والنساء، وهي التي تؤكد على راهنية وضرورة تداول مفهوم الصوابية السياسية حتى في سياق المجتمعات العربية، وما تؤكد أن المفهوم في هذه القضية يسبق المصطلح ويسبق السياقات التي أنتجته أيضًا.
يمكن تعريف الصوابية السياسية بأنها الجانب الملتزم أخلاقيًا في الحياة اليومية الذي يؤثر على القضايا السياسية بطريقة أو بأخرى. ذلك ما يجعل المفهوم سائلًا جدًا، يشبه سيولة تحديد ما هو السياسي نفسه أيضًا. أي أنه من الممكن للمصطلح أن يرتبط بكل ما هو متعلق بالحياة اليومية، من الطُرَف والكلام العابر اليومي، إلى شراء كرسي من ايكيا، أو كتابة مقالة، أو حتى السفر من أجل السياحة.
ولشدة السيولة التي تتضمنها الصوابية السياسية، ستركز هذه المقالة على الجانب الخطابي منها، في محاولة لفهمه وإسقاطه على المجتمع العربي، بالإضافة إلى الاطّلاع على التحديات التي تواجهها في التجربة الغربية.
ما هي الصوابية السياسية؟
تحاول الصوابية السياسية أن تتقدّم بالخطاب إلى مرحلة يكون فيها مقنّنًا لدرجة يخلو فيها من العنصرية -بمعناها الأعم- والتمييز ضد الآخر أيًّا كان.
ناهيك عن أن الصوابية السياسية تحاول أن ترفض وتقلل من الخطاب العنصري والتمييزي المقصود والواضح، فإنها تحاول أيضًا أن ترفض الخطاب الذي يبدو بريئًا وغير عنصري في ظاهره ويدل على وصف متفق عليه لجماعة معينة مثلًا، غير أنه مرتبط بالعنصرية والتمييز تاريخيًا ولغويًا، مما يضمر في دلالاته الواضحة وغير الواضحة عنصرية وتمييزًا متجذرين في الثقافة المنتجة لهذا الخطاب، وإن لم يكن التداول المباشر عنصريًا بذاته.
يمكننا مثلًا أن نطبق ذلك على توصيف «عبد» لأصحاب البشرة الداكنة، وهو الذي يُستخدَم لدى من يستخدمه باستمرار دلالةً على صاحب بشرة داكنة، ولا يعني أنه عبد حرفيًا.
بيد أن اللفظة بذاتها مرتبطة بصورة نمطية تُفرَض على أصحاب البشرة الداكنة، وهي تقضي بأن هؤلاء نتيجة تاريخ من العبودية، أو ربما نتاج لجينات العبيد، وهي بالضرورة مرتبطة بكل ما يمكن أن يكون سلبيًا تجاههم. وأن نرى الرابط بين لفظة «عبد»، والصورة النمطية لقدرة أصحاب البشرة الداكنة على القيام بالأعمال الشاقة بدنيًا، أو أن نجد الرابط بينها وبين الصورة النمطية لقوّة الأسوَد في الشجار.
ما تقوم به الصوابية السياسية هي أنها تحاول أن تلغي تداول اللفظة باعتبارها مهينة بذاتها أولًا، وباعتبارها مرتبطة بصورة نمطية سلبية متجذرة اجتماعيًا وتاريخيًا ضد فئة محددة. نلاحظ، في هذا المثال بالخصوص، أن الصوابية السياسية تسلك مجراها حتى في المجتمعات العربية، باعتبار أن لفظة «عبد» و«عبيد» تقل بمجرد التفات الفرد لها مباشرة، وهي التي تقل شيئًا فشيئًا حتى ينحسر وجودها بالتدريج في الثقافة العربية.
لا تنحصر الصوابية السياسية على المفردات في الخطاب،
بل تتعداها لتلامس الأطروحات الفنية وكل ما يرتبط بصناعة المحتوى وما يرتبط بهما. يمكن لنا أن نرى، مثلًا، انحسار الكثير من الطُرَف التي تنمّط صورة سلبية تجاه جماعة معينة، مثل الطُّرَف التي كانت تُصاغ تجاه السودانيين والتي تُواجَه برفض كبير من شريحة معيّنة باعتبارها طُرَفًا عنصرية ومنمّطة، و«خاطئة» سياسيًا.
في مثال غريب واستثنائي، أعلن الممثل الكويتي حسن البلام اعتزاله «التقليد»، وقد يكون تجارته الأكثر فاعلية هو ورفيقه عبد الناصر درويش، وذلك بعد موجة غضب عارمة بعد مجموعة من الحلقات التي قلّد فيها السودانيين وغيرهم مستهزئًا.
على هذا الصعيد، يواجه الكثير من الكوميديين الأميركيين معضلةً في اختيار طرفهم، باعتبار أن الطرفة بطبيعتها في إطار الستاند أب كوميدي تلامس الثقافات المختلفة باستهزاء وتنميط، وإن كانت بأساليب أكثر رقيًّا مما يقوم به البلام ورفيقه. غير أن الصوابية السياسية في الولايات المتحدة في تصاعد كبير، ونقدها لاذع لا يتسامح مع هذه الطرف.
لا تتسامح الصوابية السياسية مع أنواع الخطاب الذي تعتبره خاطئًا هناك، وذلك لأنه ليس هنالك ما هو مزاح فقط. وكل مزاح مقصود، أو يشير إلى مشكلة مضمرة على أقل تقدير.
في المقابل،
لا ينحصر دور الصوابية السياسية على رفض ما هو «خاطئ» سياسيًا. بل تحاول الصوابية السياسية ومناصروها أن يشجعوا على القيام بما هو «صائب» سياسيًا في شتى أنواع الخطاب. فالصمت، مثلًا، خاطئ في الأوقات الضرورية. ما تقوم به الصوابية السياسية هي أنها تحاول أن تزج بالقضايا السياسية والأيديولوجية في إطار الأعمال الفنية مثلًا، من أجل أن تتقدّم بقضاياها السياسية إلى الأمام، وبهذا تكون هذه الأعمال الفنية «صائبة» سياسيًا.
يمكننا أن نلاحظ ازدياد تواجد المثليين في المسلسلات الأميركية، خصوصًا في الألفية الجديدة، التي أدت إلى تغيير الرأي العام في أميركا بسرعة قياسية مما أدى إلى تشريع زواج المثليين هناك، على أنه مثال صارخ على الصوابية السياسية.
كما نرى دخول انتقاد الطائفية في برامج مثل «سيلفي»، ما يعني الخروج من الصمت تجاه القضايا الشائكة والتقدم بها إلى الأمام على صعيد الخطاب، بغض النظر عن فاعلية ذلك، وهو ما تريده الصوابية السياسية.
ما الذي يواجه الصوابية السياسية اليوم؟
تقوم الصوابية السياسية على أساس واحد ومهم في إطار الخطاب وكل ما دونه سائل تمامًا، وهو تحديد الصحيح والخاطئ، ومن ثم الزيادة من الخطاب الصحيح والتقليل من الخطاب الخاطئ.
وباعتبار أننا نتحدث هنا عن الصحيح والخاطئ، فنحن نتحدث عن أكثر المفاهيم صعوبة في التاريخ خصوصًا فيما يتعلّق بماذا يجب أن نقول وماذا يجب ألا نقول. ثمة فارق كبير بين ما هو صحيح وخاطئ بغض النظر عن الخطاب، وبين ما يجب أن نقوله لأنه صحيح وما يجب ألا نقوله لأنه خاطئ.
الأول مائع، والثاني سائل جدًا. ذلك ما يجعل أي تقنين للخطاب تقنينًا لحرية التعبير وتقييدًا لها، وهذه هي المعضلة الأولى التي تواجه الصوابية السياسية في مجتمع حر.
لا تدّعي الصوابية السياسية أنها تريد التقنين بسلطة القانون، لكن ما تقوم به هو أنها تقنّن بسلطة المجتمع والنقد اللاذع الذي قد ينتهي في أكثر مراحل الصوابية تطرفًا بسلطة القانون أيضًا. ذلك ما حدث في كثير من المجتمعات، خصوصًا ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، التي تقيّد «خطاب الكراهية» الذي أتى نتيجة التطرف النازي تجاه اليهود.
وباعتبار أن السلطة الحقيقية في الصوابية السياسية هي السلطة الاجتماعية، فمَن يحدد ما هو صحيح وما هو خاطئ هو الغالبية من المجتمع. أي أن ما أقنع الجميع في أميركا بالتخلي عن كلمة «زنجي» واعتبارها خاطئة تمامًا ليس ارتباطها بتاريخ طويل من الاضطهاد والعبودية، بل لأن البروباقندا الممنهجة كانت تريد إلغاءها استنادًا إلى رغبة عامة في إلغائها، وذلك بالإضافة إلى شعور السود في أميركا بأنها مهينة أو جارحة.
لتكون المعضلة واضحة:
المعيار الذي يحدد ما هو صائب وما هو خاطئ سياسيًا هو رغبات وشعور أفراد في المجتمع، قد تكون رغبة الأقلية المدعومة، وقد تكون رغبة الأغلبية. ذلك يعني أن أي رغبة أو شعور من قِبَل الأغلبية مهما كان بإمكانه أن يقيّد الخطاب كما أراد.
يمكننا أن نرى انتقاد إسرائيل مثلًا باعتباره خاطئًا سياسيًا في المجتمع الأميركي، وإطلاق عبارة «معادي للسامية» ضد كل من ينتقد إسرائيل، وذلك باعتبار أن مجموعة كبيرة من اليهود يعتبرون ذلك جارحًا، وذلك ما يدعمه اللوبي الإسرائيلي في أميركا، وينتهي ببروباقندا إعلامية ممنهجة وقوية تحظى بدعم الغالبية في انتهاك حق صارخ للفلسطينيين، ومَن يدعمهم.
ذلك الذي يقصي الداعمين للقضية الفلسطينية من المشهد السياسي والفني، بل والمشهد العام عمومًا. وذلك ما يتغيّر بتغيّر الرأي العام حاليًا.
غير أن المعضلة التي تواجهها الصوابية السياسية هي أنها أداة أيديولوجية من الممكن أن تصل لمرحلة متطرفة جدًا، وهي السلطة القانونية، وإن لم تصل فإن السلطة الاجتماعية قاسية جدًا وبغير عدل في كثير من الأحيان.
المعضلة الثالثة والأخيرة التي أذكرها وتواجهها الصوابية السياسية،
هي أنها -ناهيك عن عدم تمكّنها في كل حال من أن تحل المشاكل العنصرية والتمييزية جذريًا- تُخفي هذه المشاكل وتغيّبها عن المشهد العام. وتكون العنصرية موجودة وحقيقية بالنتيجة ولكن مخفية وتنتظر فرصًا صغيرة من أجل أن تظهر فيها، وتعمل بفاعلية كبيرة على مستوى البنى الاجتماعية دون صوت وظهور.
ذلك ما ينتج الكثير من العوائق في تشخيص المشكلة، كما أنه لا يخترق الحواجز الحسّاسة بين المجتمعات، ومن ثم يكون مجرد إهمال للمشكلة بحل مؤقت فقط لا غير، وربما لا يصل حتى لمستوى الحل.
يقدّم المفكر السلوفاكي سلافوي جيجيك (Slavoj Žižek) مثالًا على ذلك من خلال تجاوز الفروقات الاجتماعية مثلًا عبر الطرفة بين شخصين من مجتمعين مختلفين، حيث إن قدرة الإنسان على الضحك على الفروقات والاختلافات مع المختلف تعني في الغالب أنه متجاوز لها، في حين أنها لو كانت مشكلة قائمة ومثيرة للتوتر فهي تكون مخفية وتُتَفادى باستمرار.
هل يجب علينا أن نكون مصيبين سياسيًا؟
ما يمكننا ملاحظته، نتيجة للعرض السابق، أن الصوابية السياسية أداة أيديولوجية فعّالة بدرجة عالية جدًا، وهي فاعلية قد تصل إلى التطرف، ولا يمكن تقنينها ومن السهل جدًا أن تخرج عن السيطرة. وذلك في الوقت نفسه الذي تخدم فيه القضايا المهمة من أجل اختصار الكثير من المشاكل وحلها، وذلك باعتبار أن مجرد إلغاء لفظة «عبد» مثلًا هدف ضروري باعتبار الكلمة بذاتها عنصرية ومن الضروري أن يتخلى عنها المجتمع.
والواقع أنه من أجل الوصول إلى مرحلة جذرية من المساواة، فإنه من الضروري أن تُقطع الصلات الواضحة والحقيقية بين الخطاب والعنصرية المبطنة. ولا يمكن قطع الصلة مع العنصرية والتمييز دون أن تُقطع الصلة مع تمظهراتها، وأعني هنا الخطاب في المقام الأول باعتباره التمظهر الأكثر وضوحًا للعنصرية والتمييز.
أي أنه طالما بقي الخطاب دالًا على العنصرية والتمييز، حتى وإن تم تجاوزها على المستوى الفردي والمؤسساتي، فإنه سيبقى دليلًا على الاحتمالية الكبيرة التي تضمرها الثقافة على استعادة العنصرية والتمييز ولربما بمستويات أعلى.
وعلى ضوء هذا، ما أجده هو أن تحديد الموقف من الصوابية السياسية، بقبولها أو رفضها غير ممكن، بل ما يمكن القيام به هو أن نحاول أن نكون مصيبين سياسيًا كأفراد وكمجتمع، وذلك مصاحبًا لممارسة نقدية مستمرة للأفكار التي توجّه الصوابية السياسية العامة.
إن من الطبيعي أن تنتج صوابيةٌ سياسيةٌ مبتدئة كما الصوابية السياسية التي في المجتمعات الغربية قبل العربية أصلًا – الكثيرَ من المشكلات باعتبارها مبتدئة، وإنه لمن التقدمية أن يكون النقد مستمرًا للصوابية السياسية نفسها في الوقت نفسه الذي يجب علينا أن نتقيد بها.
أكثر عن الموضوع:
يمكنك الاستماع للحلقة
روابط الحلقة
هل يجب علينا أن نكون مصيبين سياسيًا؟ — المقالة على ثمانية
البلام يعتزل التقليد لهذا السبب — تصريح الممثل حسن البلام
Steve Carell: ‘The Office’ Would Be Too Offensive Today. If So, What’s Left?
Professor who tweeted against PC culture is out at NYU — خبر طرد بروفيسور جامعي بسبب رأيه