الإعلام الأداة التي قادت العالم
مع انتهاء الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفيتي، دخل العالم إلى حقبة جديدة من التطوّر التكنولوجي الهائل، يعتمد بشكل شبه كامل على الإعلام كأداة للتأثير
في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية وبعد هزيمة هتلر وانهيار النظام النازي، دخلت أميركا وأوروبا وروسيا في فترة كانت تُعرف بالحرب الباردة، نتيجة لصراع الإعلام الذي قاد الحرب بين هاتين الدولتين.
انقسمت ألمانيا حينها إلى: ألمانيا الشرقية تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي الشيوعي سياسيًا وعسكريًا، الذي نشأ في الأصل عقب أحداث الثورة الروسية أثناء الحرب العالمية الأولى. وفي الجهة الأخرى ألمانيا الغربية والتي كانت تابعة للغرب، حيث تأسست جمهورية برلمانية فيدرالية تتبنى الديموقراطية الاشتراكية، وكانت متحالفة مع الولايات المتحدة الأميركيّة والمملكة المتحدة وفرنسا.
الإعلام يلعب دوره
كان الألمان مجتمعًا واحدًا تاريخيًا وعرقيًا وثقافيًا ودينيًا، لكن بسبب هذا الانفصال أصبح كل مجتمع يتعرض لرسائل مختلفة، كان الشيوعيون يسيطرون على التلفاز والصحف والإذاعات في الجزء الشرقي، ويبثون الرسائل التي تتفق مع المبادئ الشيوعية، ومن هذه الرسائل، فكرة العائلة وزيادة الإنجاب حيث خسر المجتمع الكثير من رجاله في فترة الحرب، كانت الدولة تحاول تشجيع الناس على الإنجاب، وكانت رسائل الإعلام في الجزء الغربي، تركز على مفهوم الحرية والاستقلال الذاتي بهدف إيضاح قيمة الحياة للناس خارج النظام النازي والأنظمة الشيوعية.
وضعت ألمانيا الغربية أبراج التلفزيون على الحدود مع ألمانيا الشرقية حتى يستطيع الناس من ألمانيا الشرقية مشاهدة البث والمسلسلات بهدف تغيير ثقافتهم، وبالطبع لم يصل البث جميع مناطق ألمانيا الشرقية آنذاك، وكان الكثير من الناس محصورين على القنوات الرسمية.
كان هنالك مجتمعان متماثلان في الاقتصاد والثقافة والتفكير بشكل عام، وما اختلف هو فقط ما يشاهدونه في التلفاز، كيف أثّر ذلك في سلوكهم الاجتماعي؟
معدل الإنجاب لدى الناس في المناطق التي لم يكن يصلها البث الغربي كان مرتفعًا عن غيرها، فقد كانوا يشاهدون مسلسلات وبرامج ورسائل تُشجّع على العائلة، وبالتالي كان لديهم عدد أطفال أكثر. كان المجتمعان الألمانيان متماثلين تمامًا، جُلُّ ما اختلف هو نوع التلفاز الذي يشاهدونه، والنتيجة اختلاف بالغ الكبر في السلوك والتركيبة الاجتماعية!
ذهبنا لإكتشاف القمر فاكتشفنا الأرض
في عام 1968، أطلقت ناسا مركبة أبولو 8 (Apollo 8) وكانت مهمتها الالتفاف حول القمر وليس الهبوط عليه، كانت هذه هي المرة الأولى التي يغادر فيها الإنسان كوكب الأرض، ذهب روّاد هذه المركبة إلى الجانب الذي لا نشاهده للقمر وكانوا من أوائل البشر الذين انقطع اتصالهم بالأرض تمامًا.
عند العودة من الجانب الآخر للقمر شاهدوا المشهد المذهل للأرض وهي تشرق على القمر، والتقطوا واحدة من أعظم الصور التي التقطها البشر على الإطلاق! هذه الصورة تحولت إلى أيقونة تعبّر عن قمة التطوّر البشري وعُدَّت أعظمَ إنجاز حضاري قام به البشر منذ فكرة الذهاب للقمر.
لكن هذه الصورة أيضًا أخبرتنا عن شيء لم نكن نعرف عنه من قبل، رأينا كيف أن كوكبنا عبارة عن جرم سماوي صغير عُرضة للفناء في أي لحظة. هنا تكمن المفارقة، ذهبنا لإكتشاف القمر فاكتشفنا الأرض! كانت هذه الصورة سببًا في تحوّل ثقافي كبير في نظرتنا إلى الأرض والبيئة.
البشر يدأون بالتلوث
في ذات الوقت، كان رمي المخلفات في الشوارع منتشرًا في أميركا، ولم تكن الشوارع نظيفة مثل اليوم، كان من الطبيعي أن يرمي الناس مخلفاتهم على الأرض وفي الشوارع، قبل صورة الأرض الشهيرة، كان من الصعب على الكثير فهم كيف أنّ قنّينة ماء بلاستيكية فارغة يمكن أن تؤثر على البيئة وعلى هذه الأرض الفسيحة، في ذلك الوقت، أُطلقت حملة دعائية ضخمة في أميركا عبر منظمة Keep America Beautiful لإنشاء صورة مرئية قوية تشرح كيف أن رمي النفايات وغيرها من أشكال التلوث تضر بالبيئة، حيث يجب أن يتحمل كل فرد المسؤولية عن حمايتها.
بُثّ الإعلان الذي تظهر فيه صورة الممثل الأمريكي آيرون آيس كودي Iron Eyes Cody، “الهندي الأحمر الباكي”، لأول مرة فيما يعرف بـ “يوم الأرض” في عام 1971، واستخدم شعار الحملة “البشر يبدأون بالتلوث، وهم من يستطيعون ايقافه !People Start Pollution. People can stop it”.
كان الإعلان يحثّ الناس على عدم رمي المخلفات في الأرض وفي الشوارع، وكان بإمكان أي أحد من الناس في ذلك الوقت أن يلاحظ الفرق بين الماضي والحاضر بعد هذه الحملة الإعلانية.
الإعلام هو من يقود العالم
هناك أمثلة كثيرة تشرح كيف أن المحتوى التلفزي والإعلامي يُمكن أن يغيّر الثقافة العامة للناس، فقد تسبب منع إعلانات التدخين على تقليل استهلاك التدخين والتبغ بنسبة 7% في العالم، كما أنّ حركة المثليين الجنسيين في أميركا التي دعمها وجود شخصيات مثليّة مختلفة في عدد ضخم من المسلسلات التلفزية الأميركية.
انتشار المسلسلات التركية في فترة ما في المجتمع السعودي والخليجي، عملت على رفع نسبة المسافرين إلى أوروبا، وأصبح الكثيرون يحتفلون بذكرى الزواج وأعياد الميلاد، بل وعملت على تغيير النظرة حول العلاقات داخل العائلة وبين الأزواج.
ربما نفهم بأن المحتوى الإعلامي المتمثل في التلفاز والإنترنت وغيرهما قد يُغَيرَنا كمجتمع، ولكن فكّر أيضًا كيف غيّرك أنت كفرد وبالتالي انعكس على حياتك وطريقة نظرتك للأمور! النقطة الخفيّة هي كيف أن المحتوى الذي يصلنا سواءً عبر السينما أو التلفاز أو الإنترنت، هو في معظم الحالات محتوى مدفوع له من المعلنين، وكثير من الرسائل التي وصلتنا والتي غيرتنا كأفراد ومجتمع، هي رسائل سَمح لها الإعلام بأن تُوجد وتبقى وتنتشر.
بسبب هذه العلاقة الوثيقة بين صاحب المحتوى والمعلن، نستطيع أن نفهم سيطرة التسويق على كثير من الأفكار التي تُشكّل ثقافتنا، التقنية والهندسة تغيّران العالم كل سنة، بينما التسويق هو من يقود العالم، المسوّقون بيدهم أداة لا تكتفي بالتحكم بأذواق الناس الشرائية، بل ماذا يشاهدون وكيف يفكرون، والمسوّق الأخلاقي هو من يراعي ضميره في كيفية استخدامها.